الرواية في حقيقتها كائنٌ لغويٌّ ورقيٌّ تخييليّ، ليس له أيُّ وجود ماديّ خارج الورق واللغة، ومنه فمفردات اللغة هي الخلايا الأساسيّة التي تمنح الجسد الروائي حقيقتَه ووجودَه. وباختلاف مستوى اللغة وأسلوبها من عنصر لآخر، ومن شخصيّة لأخرى يتكون التباين والتمايز بين تلك العناصر والشخصيات، التي تتكامل جميعها في النهاية لتشكل عالماً إبداعياً مُتخيّلا له جماليته وقدرته على الإقناع بوجوده. فاللغة بالنسبة للرواية أشبه بخلايا أي جسد إنساني منها تتشكل أعضاؤه المختلفة، وحسب طريقة تكونها تتمايز الأعضاء فيختلف شكل الرأس عن الصدر عن الكفين والساقين رغم أنّ المكوّن واحد هو الخلية.

ويمكن القول إنّ الارتفاع بمستوى اللغة إلى أقصى درجات فصاحتها؛ أو الهبوط بها إلى لغة الشارع العاميّة ليس مقياسا لجودة العمل الروائي أو هبوطه؛ فالمقياس هو تكامُل لغةِ عناصره لخلقِ العالم الروائيّ؛ كما تتكامل الخلايا النبيلة للدماغ في رأس الإنسان مع خلايا الشعر الميتة فوقه ليتشكل منهما جمال الوجه الإنساني.

اللغات الثلاث:

يقول العقاد (1927): "في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة"

والحقيقة في كل مجتمع بشري بشكل عام والعربي بشكل خاص نجد ثلاث لغات وجميعها متداولة ولكلٍّ منها خصوصيّتُه:

  • اللغة العامية: وهنا اتعمّد أن أسميها "لغة" وليس لهجة، وهي لغة السواد الأعظم من الناس، وهي في جزء منها فقط وليدة الفصحى، وفي أجزاء أخرى محرّفة عن لغات عديدة مرت على جغرافيتها كالضمائر السريانية التي ماتزال حاضرة في اللغة العامية في إدلب السورية "هُوّي وهيّ وهني وهنن"، أو استُورِدَت من أمم تفرض تقنياتها التكنولوجية "كالكمبيوتر والنت والواتس" ، وأحياناً هي وليدة ظروف وحوادث مغرقة في محليتها كلفظة "الشبيح" في سوريا التي تعني المؤيد للنظام وقابلها "البلطجي" المؤيد للنظام في مصر وكلتا اللفظتين جنحتا نحو معنى اصطلاحي فرضته ثورات الربيع العربي، وابتُعِد بهما عن مدلولهما الأصلي.

وبين العامية والفصحى فروق نحوية وصرفية وصوتية، ولا بدّ من الاعتراف أنّ العامية أكثر تمرداً وجنوحاً نحو التجديد الذي تفرضه ظروف جغرافيّة أو سياسيّة أو حضاريّة.

يقول الدكتور صلاح فضل: العامية وليدة الفصحى، ويمكن أن تحلّ محلّها في حال وجود عوائق أمام استخدام الفصحى، فللعامية جماليتها الخاصة وقدرتها على إيصال لغة المواطن في الشارع ولكنها لا تتلاءم مع الكتابة السردية رغم ملاءمتها للحوار.

  • اللغة الوسطى: أو ما عرف باللغة الثالثة، وهي متداولةٌ في أوساط المتعلمين وندواتهم وحواراتهم؛ كالحوارات التلفزيونية، والندوات الثقافية، وهي التي امتدحها طه حسين في الحوار الروائي عند نجيب محفوظ بقوله: "إن روعة قصص نجيب محفوظ تأتي من لغتها، فهي لم تكتب باللغة العامية المبتذلة، ولم تكتب باللغة الفصحى القديمة التي يشق فهمها على أوساط الناس، وإنما كتبت بلغة وسطى يفهمها كل قارئ لها مهما يكن حظه من الثقافة، ويفهمها الأميّون إن قُرِئت عليهم، وهي مع ذلك لغة فصيحة نقية لاعوج فيها ولا فساد، وقد تجري فيها الجملة العاميّة أحياناً حين لا يكون منها بدّ، فيحسن موقعها وتبلغ منك موقع الرضا".
  • اللغة الفصحى: وهي لغة التعليم والتعلّم، والوعاء الأهم لنقل ثقافة الأمة من جيل إلى جيل، والعربية الفصحى هي من اللغات الأقوى والأغنى في العالم بمفرادتها وقواعد اشتقاقها، ولا يكمن لأي لهجة عربية أن تحيط باتساعها ودقة مفرداتها على التعبير.

لغة الرواية: بما أن الرواية ترتكز في بنائها إلى أرضيّة اجتماعيّة لتخلقَ عليها عالمها التخييليّ فلابد لها من أن تتعامل بموضوعية مع اللغات الثلاث الموجودة في المجتمع لتكوّن عالماً مقنعاً.

فالعامية لها في الرواية متكلموها، ولعلهم الشريحة الأوسع وهي التي تمنح العمل هويته المكانية ومحليته أكثر من اللغة الفصحى؛ فالعربية الفصحى تدل على عروبة ناطقها من المحيط إلى الخليج ولكن العامية تحدد عراقيته أو جزائريته، أو غيرهما كما فعل حيدر حيدر في وليمة لأعشاب البحر، وتحدد في القطر الواحد مدينته وفي المدينة الواحدة قد تحدد حيه كفرق العامية بين حي الكرخ وحي الرصافة كما نقلها عبد الرحمن منيف في أرض السواد.

ويمكن للعاميّة أيضاً أن تحدد مستوى وعي الشخصية وثقافتها وأخلاقياتها كما سنرى في الشواهد القادمة.

فللعامية في الرواية كما للفصحى وظيفتها الاجتماعية والثقافية والتواصلية الخاصة بمجتمع دون غيره، ودون الصدام مع الفصحى فلكل منهما وظيفتها الحياتية، كما لها في الرواية وظيفتها الجمالية والتعبيرية، ولكل منهما خصوصيتها التي لا تمتلكها الأخرى، ورغم احتدام الخلاف والجدل بين أنصار الفصحى والعامية منذ زمن الجاحظ وأبي هلال العسكري وحتى يومنا هذا.

وهذه ليست دعوة لكتابة الحوار بالعامية وإنما لإنطاق كل شخصية بلغتها؛ فلغة المدرس الجامعي تختلف بمفرداتها ومصطلحاتها وفصاحتها عن لغة الفلاح، أو الحداد، ومفردات الحداد وأسلوبه مختلف عن مفردات الفلاح وأسلوبه، وليس من المقنع أن نرى في روايةٍ شخصيةَ مدرس لغة عربية أمام طلابه يحاورهم بالعامية وبالمقابل أن نرى بقالاً يعلن عن بضاعته لعامة الناس باللغة الفصحى أو طفلاً يتحدث بلغة ذاك المدرس الجامعي على منبره او ذاك البقال أو الحدّاد في حرفته.

ولناخذ شاهدا على ذلك هذا المقتطف من رواية صدرت حديثاً وفيه حوار طفل مع طبيبة:

  • تفضلوا بالجلوس، لنرَ أنت هو مايك أليس كذلك؟
  • أجل هذا أنا
  • عزيزي في ركن الغرفة هناك ثمة لعبة من المكعبات هل يمكن أن تبني لي فيها شكلاً جميلا؟
  • أريد ذلك بالتأكيد.

حوار كهذا يمكن أن يكون بين حاتم الطائي وابنته سفانة في العصر الجاهلي وليس بين طفل وطبيبة في القرن الحادي والعشرين. ولا يمكن لقارئ أن يميّز هنا لولا التمهيد بين الطبيبة والطفل من خلال كلامهما. ورغم محاولة الكاتبة الارتقاء بلغة هذا الحوار فقد جاء مليئاً بالأخطاء التعبيرية والنحوية كقولها "تنظر باتجاه الطفل" وتعني جهةَ الطفل وفي قول الطفل "أجل هذا أنا" جواباً للسؤال المنفي والصواب أن يجيبها بـ "بلى" لإبطال النفي، وفي قولها "تبني لي فيها شكلاً" فاستعملت "في" وهي للظرفية بدلا من باء الاستعانة فالصواب أن تقول تبني لي بها أو منها .. ولو أنها هبطت بلغة كل شخصية إلى مستواها لكفت نفسها عناء مجاهدة النحو والصرف التي لا يجيدها هذا الطفل أو تلك الطبيبة.

وبالمقابل نقرأ حوارات أخرى يتباين فيها مستوى الخطاب في رواية "أبو دياب يتكلم في الأفراح" لخطيب بدلة والتي يتناول فيها أحداثاً من بداية الثورة السورية عام 2011، فمنها ما جاء على لسان ضباط الأمن ليشف عن فكرهم وانتماءاتهم ومستوى ثقافتهم، كقول أحد هؤلاء الضباط للمعتقل "أبو دياب" أثناء التحقيق:

  • "العمى في عيونك العمى مَ تنكت قدّامي وكمان مَ تضحك؟"
  • "أنت شو مَ تقول ولاه، هَلّق صارت الألفين ليرة مبلغ كَيّس؟"
  • "ولاك يخرب بيتك شو واطي، اتروك هلق السيِّد الرئيس على حَلْ، واحكيلي عنِ العناصِر"
  • "وقِّف مليح ولاه حيوان وسكّرْ بوزك ولاه أنت شو م تخرف"
  • وواضح أن الكاتب هنا يتعمّد إبراز انتماء هذا الضابط لهجةً إلى الطائفة العلويّة التي ينتمي إليها النظام، بينما نقرأ من لهجة حديث المقدم أحمد مصامص أنه لا ينتمي إلى طائفة النظام ومنه:
  • "ولاك نذير الدايخة أهلين بربك احكيلي لشوف ..."
  • "هادا نذير الدايخة علاكه ظريف ومرتب وفرايحي، ابن الشرموطة معلم بالعلاك بيدخلّك بقصة بيطلعلك بقصة بتفكر أنو نسي القصة الأوّلانية ما بتشوفو غير كوّع ورجع لمطرح ماكان ..."

ونقرأ حواراً آخر للحارس على باب فرع أمن الدولة حين كانت أم نذير تبحث عن ولدها أبي دياب، ولولا عاميته لما اكتشفنا هوية ذاك الحارس:

"انكلعي من هين يا كحبة بالله إذا ما تمشين غير أطخك...."

فهذه الالفاظ لا تكشف عن انحطاط هذا الحارس فحسب بل عن أصوله البدوية ومن الحوارات السابقة نستنتج أن ضباط النظام وعناصره الذين يقفون في صفه ليسوا جميعاً من طائفته، ولكن يجمع بينهم لا إنسانيتُهم وانحطاطُهم الأخلاقيّ في الواضح في ألفاظهم.

كما نقرأ في حوار أبي دياب وأبناء مدينة إدلب انتماءَهم ومفرداتِهم ومصطلحاتِهم الخاصة التي تميزهم عن أي مدينة سوريّة أخرى ومنها:

  • "أنا ما عم نكت بس عم حاول أوضحلك العلاقة بين فتح البوز ورخي البيضات"
  • "أنا بصراحة ما بعرف أشو هوّي الفيش ولا بعرف إذا كنت بتقصد فيش الكهربا أو فيش التلفون، أما بالنسبة لفتح الباجوق أنا بصراحة لا عيّشت ولا سقّطت .... روح خاي ع مستشفى الهلال مع أنو كل هالشغلة مو حرزانة".
  • ونقرأ كلام أحد الثوار الإدلبيّن في ذروة لحظة انفعاليّة:
  • "خيّو ادخول من وين ما بدك عليّ الطلاق سيرة الكلب نظير خضت لي بدني، تفرج شلون صار جسمي كلّه يرجف".
  • "لو كنا خايفين من هيك نشح ووسخ ما كنا طلعنا بالثورة ... يا ريت يجي نظير حج شحيده بعرض أختي لحتى نشبعو بعص.

كيف لنا أن نترجم تلك الكلمات، والتراكيب والمصطلحات إلى الفصحى، كيف سنترجم الكناية عن الكسل والبلادة في تركيب "فاتح تمو وراخي بيضو" وهل نستبدل بجملة (بعرض أختي لحتى نشبعو بعص) قولَنا في الفصحى (أقسم بشرف أختي لنشبعنّ ذاك المأبونَ إدخالاً لأصابعنا الوسطى في أسته)؟

فاستعمال العامية في مقامها الحقيقي ليس ركاكة للنص بل العكس؛ الفصحى ستكون أحياناً ركيكة أمام إيصال المعنى المغرق في محليّته، أو ستكون كترجمة ركيكة ليست مشوَّهة (بفتح الواو) فحسب، ولكنها ستكون أيضاً مشوِّهة (بكسر الواو) للمعنى وقد تشط به عن مرماه شأنها شان ترجمة نصّ شعري عربي إلى لغة أخرى؛ فأول ما سيفقده هو جرسه الموسيقي ناهيك عما سيلحق بالمعاني،

وكي لا يُفهم مما تقدم أنه تلميح إلى الدعوة لإقحام العامية مكان الفصحى نقول: كل ما سبق ينطبق على الحوار، وفي الوقت ذاته لابديل عن الفصحى في السرد والوصف بغناها المعجمي، وقواعد صرفها ونحوها فهي الأقدر على الإيصال ولكنها قد تقف أحيانا عاجزة عن نقل الحوار بين شخصيتين وقد يكون في ترجمته إلى الفصحى تشويهٌ لصورة الشخصية، وإبعادٌ للمعنى الذي تريده وخلقُ معنى آخر، وهذا ما قصده منذ بدايات القرن الماضي توفيق الحكيم في قوله: "لا أستطيع أن أجعل العتال أو الفرّاش أو سائق التكسي يتكلمون الفصحى لأن اللغة العامية هي لغتهم فإذا جعلتهم يتكلمون الفصحى سأخلق جواً مصطنعاً"

وخلاصة نرى أنّ المتنَ في السرد والوصف هو للفصحى، وقد تحتاج إلى هوامش لشرحها، أما في الحوار فالمتن للغة الشخصية، والهامش للفصحى حين تكون مغرقة في محليتها عصية على التواصل.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم