الأخوة كارامازوف هي آخر روايات دوستويفسكي ونشرت عام 1880، ولنكن أكثر تحديداً في نوفمبر 1880 بينما مات دوستويفسكي بعدها بشهرين؛ يناير 1881. وقد يظن المرء أنه قد أنهاها في الوقت المناسب تماماً، أو أنه لم ينهها أبداً.. وأن ما بين يدينا هو رواية غير مكتملة. وسأعود إلى هذه النقطة فيما بعد.

تتحدث الرواية، كما هو واضح من العنوان عن عائلة كارامازوف، ولقد حدد دوستويفسكي محور روايته من العنوان حين ركز على الأخوة بالذات دون أبيهم.. ونستطيع حتماً أن نتفهم ذلك من سياق السرد الروائي. فالأب ليس جوهر الحكاية، إنما هو أحد تلك الظروف التي يضطر المرء للتعاطي معها في حياته.. إن هذه الرواية تتحدث عن تعاطي الأخوة الثلاث مع هذه المشكلة؛ أنهم جاؤوا إلى هذه الدنيا لأب كفيودور بافلوفيتش كارامازوف.. ذلك المهرج، الفاحش، الأناني.. هل هذا كل شيء ؟ إطلاقاً، فدوستويفسكي كان لم يزل "يحمّي" حين أقدم على تعريقنا بهذا الرجل العجوز الماجن المتمثل بشخص الأب.

تقع الرواية في أربعة أجزاء، تمتد على 1646 صفحة.. وهذا متوقع بالطبع، ليس لأن الرواية معقدة، بل لكثرة الإطناب الذي يُعرف عن دوستويفسكي. لا بأس، لنكمل الحديث.

الأخوة هم: ديميتري، الابن الأكبر من الزوجة الأولى للأب العجوز. إيفان الابن الأوسط من الزوجة الثانية. وألكسي، الابن الأصغر من الزوجة الثانية. وقد كان هناك آخ آخر، غير شرعي وهو الخادم سمردياكوف وله دور جوهري كما رأينا جميعاً.

بدأت الرواية بشكل هاديء، وتعريفي كما هو متوقع للشخوص المشاركة في الرواية.. ومن البديهي أن تبدأ من نقطة الأب لتشرح الخلفية الإجتماعية التي نشأ منها.. وأفعاله التي أدت إلى ولادة أولاده الأربعة. ثم بدأ بعد ذلك في توصيف العقدة التي تتمثل في الصراع الدائر بين الأب والابن الأكبر على تلك الفتاة اللعوب جروشنكا والتي تلعب على الاثنين بينما هي في واقع الحال، عشيقة تاجر عجوز انتشلها من الوحل بعد أن ألقى بها خطيبها البولندي السابق والذي كانت ولا زالت تحبه. وكي يزيد الأمر تعقيداً، نجد شخصية ديميتري، العنيفة، الشاعرية والتي تتصف عموماً بالرعونة والشاعرية الخرقاء.. قد كان له خطيبة بالفعل، وهي كاترين إيفانوفنا ابنة الضابط النبيل المختلس والذي أنقذ ديميتري شرفه بفعل نبيل، ولكنه خسيس بذات الوقت ! حين طلب من أخت كاترين أن تخبرها بأن تأتي لمنزله كي يعطيها المال المطلوب. صحيح، أنه لم يستغل الموقف.. إلا أن مجرد التفكير في طلب بمثل هذه الخسة، وأن يضع كاترين في مثل هذا الموقف أمامه، فيه من الضعة ما يكفي. لقد أكبرت كاترين فيه أنه؛ لم يستغل الموقف فيتمادى معها، بل حياها بتلك الطريقة الغريبة في أن يسجد لها، وأنه قام بفعل إنقاذ شرف أبيها بأن أعطاها كل المال الذي يملك في ذلك الوقت.

لقد قرأنا في الرواية الكثير من تصريحات الحب، الكثير منها بالطبع كان كاذباً، زائفاً.. ولكنه ضروري، ألا نكذب كذباً مثل هذا في الواقع ؟ مع خطيبة نحن مجبرون أخلاقياً للإستمرار معها، مع زوج أجبرنا ذوونا للزواج منه، مع صديق لدود، لا نطيق سيرته، ومع شخص لا نعرفه حتى، ولكننا مجبرون للتعاطي معه ! تلك هي الدنيا. ولكن المدهش هنا، هو تلك الكيفية التي انقلب فيها ديميتري حين ذهب لأول مرة إلى جروشنكا كي يضربها تأنيباً لها لاشتراكها مع والده في مؤامرة دنيئة ضده، فبدل أن يضربها، إذ به يقع في غرامها ! وحقيقة، لا بد لي من التعريض على تلك الطريقة التي تتكرر فيها مثل هذه الحكايات في الروايات.. حيث يبدو الوقوع في حب بمثل هذه السهولة.. هل الأمر حقاً بمثل هذه البساطة والسذاجة والابتذال ؟ سأترك الأمر لكم، رغم معرفتي منذ الآن بالجواب. إن ديميتري هنا، يذكرني بأوائل الثوار؛ الرومانسيون، هؤلاء الذين يقبلون على القيام بأكثر الأفعال جرأة، وعنفاً، فقط، لإيمانهم بأنه الفعل الصائب. إنهم وقود أي ثورة، وأكثر من يتم سفك دمائهم. ألم يكن دوستويفسكي في مثل هذه السذاجة والعنفوان في شبابه مما قاده إلى السجن والحكم بالإعدام ؟

إلى موضوع آخر؛ إيفان، الأخ الأوسط، ذلك المثقف الإشتراكي الملحد. إنه لا يكثر الكلام، ينشر مقالاته المثيرة للإهتمام والتي تناقش نظام الكنيسة من منظور تنظيمي ويدعو إلى أن تستحيل الدولة إلى كنيسة كبيرة.. في رأي يشابه إلى حد كبير رأي تولستوي، وكأني هنا بدوستويفسكي يناقش فكرة تولستوي ضمن طيات روايته هذه.. والمثير هنا، أن دوستويفسكي كان قد وظف إيفان الملحد كي يأتي على هذه الفكرة، وكأنه يبغي مناقشتها من منطلق علمي تنظيمي، لا ديني. وقد وافقه في ذلك القساوسة في الدير.. أي أن فكرة تولستوي قد توافق فكر المتنورين من رجال الدين المسيحي الأرثوذوكسي. وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة ألم يكن دوستويفسكي في فترة من حياته اشتراكياً ملحداً ؟

لقد أحب إيفان كاترين؛ خطيبة أخيه. وقد أحبته هي كذلك حباً جماً. نعم، لقد أحبت الاثنين وقد ظلت تصرح بذلك كذباً حتى آخر الرواية.. ولكننا نعلم بأن حبها لديميتري كان حباً يدفعه الكبرياء، لكنها تظن بسذاجة مذهلة أنها قادرة على انقاذه من نفسه، وأنى لأحد أن يقدر على ذلك ؟ بينما كان حبها لإيفان خالصاً.. رغم أنه لا يوجد في النص ما يشير إلى بداية ذلك الحب. كل ما هنالك أنها أحبته وهو أحبها كذلك.. ونحن مضطرون للتعاطي مع ذلك. ألا تسير الأمور كذلك في الواقع ؟ بلى، ولكنني كنت أفترض وجود دلالة ما.. أو مبرر نفسي ما ربما في الرواية.. أو حتى نقطة ما.. بدأت منها الحكاية بينهما، ولكني لم أجد شيئاً.. وهذه، في الواقع، نقطة مهمة؛ الرواية مليئة بالتحليلات النفسية، رغم عدم وجود مبرر مقنع للشخوص على امتلاك مثل هذه الملكة المبهرة في تحليل النفوس. وهذا ما يذكرني بذلك النقد، الشديد، اللاذع، من ستيفان زفايغ لدوستويفسكي بأنه يقف خلف كل شخصية من شخوصه ويتكلم على لسانها.. ولا يسعني هنا إلا الموافقة على كلام السيد زفايغ. وفي واقع الحال، قد وجدت هذا أمراً مزعجاً، فكيف لألكسي مثلاً هذه الملكة في أن يعرف أن الضابط سيقبل منه المال في اليوم التالي ؟ وأن يتحدث لليزا عن ذلك بكل هذا اليقين، لدرجة حتى أن ليزا نفسها تفاجأت من ذلك. ولكنني حين فكرت في الأمر، وجدت أن الأمر مبرر، فالرواية كتبت في زمن لم يكن علم النفس سائداً، ولم يكن مثل هذا الاختصاص موجوداً من الأساس. وهذه المعرفة الواضحة لدورستويفسكي في تحليل الخلفيات النفسية لشخوصه جاءت من معرفته الشخصية وخبراته الحياتية الخاصة، وهذا لربما ما دفع فرويد بأن يقول عن هذه الرواية أنها الرواية الأعظم على الإطلاق. وفي واقع الحال، لو أنني وقعت على رواية مماثلة في هذه الأيام لما كان من الممكن لها أن تعجبني لأنني أحتاج إلى مبرر مقنع لمثل هذه المعرفة من شخوص عادية لم تطلع على مثل هذه الأشياء من قبل.. وهذا بطبيعة الحال، يمثل معظم جمهور البشرية ! فإن أردت أن توظف مثل هذا التحليل المعمق على لسان شخصية ما.. فيجب أن يكون ذلك مبرراً جيداً.. وإلا فإننا كقراء سنشعر بالكاتب يعطينا دروساً في علوم النفس.. وهذا أمر مرفوض تماماً في السرد الروائي. الرواية، تعني سرد حكاية، وليس موعظة، أو تحليلاً نفسياً. ولكنني بحالة دوستويفسكي أستطيع بكل تأكيد، تجاوز ذلك، ولن أتزمت في ذلك كما كان السيد زفايغ، وذلك تفهماً مني للسياق الزمني لكتابة الرواية.

ألكسي، الابن الأصغر هو شخص طيب، يحبه الجميع، وهو الوحيد في هذه العائلة يمكننا القول بأنه مستقر. إنه مسيحي مثالي، بل كان يملك رغبة خالصة للإنضمام إلى الدير كراهب مثل أستاذه؛ الشيخ زوسيما.. وزوسيما هذا يمثل رجل الدين الذي يجمع بين العلم والدين.. ومن جهة أخرى، نجد في ذات الدير ذلك الشيخ الآخر؛ تيرابونت، الجاهل، المتعصب، الصائم أبداً.. والذي ما أن مات زوسيما وسمع خبر انتشار رائحة تعفن جثته حتى جاء كي يحارب الشياطين ويطردها.

ما يدهش مع ألكسي، أنه كان محبوباً من الجميع، حتى من الملحدين الذين يفترض أن يزعجهم وجود نموذج مثله. صحيح، أن إيفان لم يتمكن من أن يظل على علاقة طيبة معه، بل وأخبره في أكثر من مرة بأنه يقطع علاقته معه نهائياً.. إلا أنه في قرارة نفسه يحبه ! لكنه، كان يرفض حقيقة أنه نقيض ذاته.. وهذا ما كان يدفع إيفان إلى رفض ألكسي.. ولكن ذلك لم يمنع ألكسي من حبه أبداً.. وهذه نقطة مهمة، حب المؤمن الحق في نظر دوستويفسكي للملحد كأخيه الإنسان، وكراهية أو لنقل رفض الملحد للمؤمن الحق كما نجدها دوماً. رغم أنها كثيراً ما تكون كراهية متبادلة، ولكنني أشدد على أن نموذج دوستويفسكي يكون فقط مع المؤمن الحق وليس أي شكل من أشكال المؤمنين.

والآن، إلى الحدث الأهم في الرواية.. جريمة مقتل الأب. لقد كان ديميتري أحمقاً بما فيه الكفاية كي يعطي الجميع الإنطباع العام بأنه سيقتل أباه ذات يوم.. وما أن قتل الأب، حتى شاهدنا ديميتري يمضي من منزل جروشنكا إلى بطرس إيلتش الذي كان قد اودع لديه مسدسيه في مقابل رهن مالي بينما كانت الدماء تلطخ يديه ووجهه وثيابه ! وليس ذلك وحسب، تناوله مدق الهاون من بيت جروشنكا وهو كما سنرى فيما بعد أداة الجريمة –رغم أنه ليس كذلك في الحقيقة- هذا ناهيك عن رسالته إلى كاترين والتي يعلن فيها نيته في قتل أبيه.. وقيامه بالفعل بزيارة منزل أبيه ليلة الجريمة وضربه للخادم غريغوري بمدق الهاون على رأسه.. إن كل شيء يصرخ بأن ديميتري هو القاتل.

لكننا نعرف فيما بعد، وفي جلسة من الاعتراف من سمردياكوف لإيفان بأنه هو القاتل، وقد قام بتسليم المبلغ المسروق لإيفان وسرد له كل شيء؛ كيف تصنع بحدوث نوبة الصرع، وكيف أصيب بعدها بنوبة صرع حقيقية، وكيف قام بعد ذلك.. وفعل ما فعل..

ولكن، ما مبرر سمردياكوف ؟ لقد كان سمردياكوف متأثراً جداً بإيفان وآرائه.. حتى أنه كان ملحداً مثله.. وقد اقتنع بفكرة: كل شيء مباح والتي ذكرها إيفان لاعتقاده بأنه لا وجود لله. لقد كان بحاجة للمال كي يرحل عن روسيا التي يكرهها كما يكره آل كارامازوف.. وهو يشعر باحتقار خاص لديميتري للقسوة التي يعامله بها.. ولأنه يحصل على احترام الناس لأنه ابن كارامازوف رغم أنه لا يستحق ذلك.. وهو بالطبع، يرى نفسه بصفته ابناً لا شرعياً.. لا يمكنه الحصول على مثل ذلك الإحترام من أحد.. مهما بلغ من علم ومال.. ولربما لهذا السبب فإنه يكره كل روسيا. إنه لا يملك أي فرصة كي يعيش فيها باحترام كما يرغب. لقد بدت إليه جريمة سهلة، جريمة كاملة، وفي ذات الوقت تعطيه تماماً، ما يريده.

حسناً، هذا كله جميل. ولكن، لماذا قام بالاعتراف لإيفان ؟ إنه يعجب بشخص إيفان، ولكنه في ذات الوقت، لا يغفر له أنه أطلق عليه لقب الخادم الحقير. على أي حال، لم يكن من الممكن له أن يقوم بالجريمة طالما كان إيفان موجوداً.. ولهذا السبب كان ذلك الحوار الغريب معه قبيل سفر إيفان إلى موسكو. لقد فهم سمردياكوف قبول إيفان بالسفر على أنه موافقة ضمنية لاتمام الجريمة. ألم يقل إيفان: ألا فلتأكل السراطين بعضها ؟ ولكن، لماذا انتحر بعد ذلك إذن ؟ لقد تعجبت حقاً من هذه النقطة. فهو لم يبدُ نادماً، كما أن رسالة انتحاره لم تدل على أي شكل من الندم.. قد تكون ردة فعل إيفان قد أربكته، فهو الذي وضع في رأسه فكرة أن كل شيء مباح، فلمَ يغضب الآن ؟ لربما رغب بفعله هذا أن يعقد الأمور أكثر، إن هذا الشكل من سلوك التدمير الذاتي لهو من أقسى درجات الرغبة بالانتقام، نعم، إن كل شيء مباح، وبالتالي، حتى موتي ليس سوى تضحية بسيطة في سبيل رد الجميل لآل كارامازوف كلهم.. لقد كان يعتقد بالبداية أنه يقوم بفعل مساعد للأخوين إيفان وألكسي.. وهو يعلم يقيناً أن ألكسي بعيد تماماً عن قبول أي شيء من هذا القبيل.. ولكن إيفان، ليس كذلك.. ولهذا، فإن ردة فعل إيفان الغاضبة، أربكته، وغيّرت في خطته. فآثر تحطيم كل شيء، بما فيها نفسه هو.. على أن تتحول الأمور إلى مسرحية.. خاصة، بعد أن سلّم المال الذي كان سيخرجه إلى أوروبا.. فما تبقى له من خطته شيء.. عدا تدمير كل شيء.

ولكن، هناك مشكلة واحدة مع كل هذا لم أجد لها تفسيراً؛ علمنا فيما بعد أن أداة الجريمة الحقيقة هي أداة مكتبية؛ ضاغطة الورق المعدنية والتي تزن ثلاثة أرطال، ألم يجدها أحدهم فيلاحظ أنها مدماة ؟ لم نجد أي أحد يأتي على ذلك طوال الرواية.. ولولا اعتراف سمردياكوف لإيفان لما درينا عنها شيئاً.. ولم يعد أحد على ذكرها أبداً.

لا بد للمرء من أن يتذكر رواية أخرى جاء فيها تحليل لوقائع جريمة قتل وهي تلك الرائعة الأخرى "قصة موت معلن" لماركيز.. حيث رأينا كيف جاء ماركيز على كل الإحتمالات الممكنة والدوافع وما غير ذلك.. في محاولة لاثبات إن كانت الضحية تستحق فعلاً أن تقتل بمثل هذه الطريقة الوحشية أم لا.. بينما هنا، نجد ما يقارب من 40% من حجم هذه الرواية يقوم بتحليل الجريمة ولا زلنا نجد أموراً لم تغطَ كضاغطة الورق المعدنية وما حدث لها.. وهذا أحد الأشياء التي قد تشير إلى كون الرواية غير مكتملة. حتى إن وجود شخوص كليزا ووالدتها.. وخصوصاً ليزا مع موقفها الغريب الأخير مع ألكسي ودون معرفة مبرراتها.. يوحي بان هناك بقية للكلام.. أو لحكاية ليزا لم تكتب أبداً..

من المدهش لنا أن نقرأ ذلك المشهد في حوار إيفان مع شيطانه؛ إيفان الملحد، يرى ويكلم شيطانه.. وهو أثناء حواره لشيطانه ينكره ويخبره مراراً أنه ليس سوى ذاته هو.. وهو ما يذكرنا بحوار الراهب مع عزازيل في رواية عزازيل ليوسف زيدان.. وما حدث هنا هو العكس تماماً.. ففي تلك، كان الراهب يظن ان الشيطان بذاته هو من يشجعه على كتابة ما يكتب.. وبالتالي يسرد لنا الحكاية، ثم نفاجأ بأن الشيطان يخبر الراهب أنه ليس سوى ذات الراهب نفسه. بينما هنا، نجد العكس تماماً، فبينما إيفان وهو الملحد وبالتالي لا يؤمن بوجود الشيطان وينكره تماماً كما ينكر الله.. ويظل يقدم الأدلة والبراهين لشيطانه على أنه غير موجود وأنه ليس سوى ذاته.. نجد شيطانه يؤكد على أنه حقيقي.. ويتجسد بأي شيء يشاء.. وأنه غير سعيد بلعب دوره كي يستمر ملكوت الرب في هذه الدنيا باستمرار الصراع ما بين الخير والشر. ونلاحظ فرقاً آخر، فبينما كان الراهب يعتقد حقاً أن حواره مع الشيطان حقيقي.. فنحن نعلم أن إيفان كان مريضاً وأنه من المرجح أنه كان يهذي.. رغم شعوره الذاتي بأنه حقيقي جداً.

أمر أخير أزعجني في نهاية الرواية، فقد فهمنا بأن الراوي هو شاهد على الأحداث. وهذا أمر طيب، ولكنه رغم ذلك كان مرهقاً في سرده للتفاصيل رغم تأكيده المتكرر بأنه يريد الاختزال أو أنه لا يتذكر كل التفاصيل.. وبعدها مباشرة يدخل في سرد يمتد إلى فصول طويلة مغرقة بتفاصيل الحوار. إن شاهداً كهذا سيكون مكسباً عظيماً لكل محاكمة بشرية حقاً !

أعتقد، أنه من السهولة لنا أن نرى في الأخوة الثلاث، التدرج الزمني لدوستويفسكي؛ ديميتري، في شبابه، حيث الرعونة والثورية الخرقاء، إيفان، فترة نضوجه حيث عاش فترة الإلحاد والإشتراكية، وأخيراً، ألكسي، حيث الاستقرار والرجوع إلى الدين. وكثيراً ما تم توجيه هذا الانتقاد لدوستويفسكي أن إيمانه لم يكن سوى "رجعة" بمعنى أنه فعل رجعي ولكن دوستويفسكي يرد على ذلك باستياء: لا، إنني لم أؤمن بالله ولم أعترف به كما يفعل طفل، وإنما انا وصلت إلى هذا الإيمان صاعداً من الشك والإلحاد بمشقة كبيرة وعذاب أليم. إن إيمان دوستويفسكي لم يكن إيمان العجائز. يمكننا القول بأن هذه الرواية هي النسخة الروسية لرحلتي من الشك إلى الإيمان !

وما حكاية ذلك الفتى الصغير، إيليوشا ؟ لقد كان لدوستويفسكي ابن اسمه ألكسي، وكان مريضاً مثل أبيه بالصرع وقد مات عام 1878.. ونجد أنه من الممكن للاسم إيليوشا أن يكون قريباً من تصغير ألكسي.. حتى تلك الموعظة التي ختم بها الرواية على لسان ألكسي كارامازوف.. وكأنها خطبة تأبينية لابنه أولاً، ثم لنفسه الذي سيلحق به بعد شهرين فقط. وقد كانت مؤثرة بحق أيما تأثير.

باختصار، لقد نجح دوستويفسكي في هذه الرواية بنقاش ذلك الصراع ما بين الإيمان والإلحاد، والمعضلة الأخلاقية بمبرر الفضيلة في عالم ملحد.. وحتى نقاش الصراع داخل الدين الواحد ما بين العلم والجهل/الخرافات.. رغم أنه كان هامشياً.. وليس من صلب جوهر الرواية كما كان صراع الإيمان والإلحاد.. وكل هذا في خلفية جريمة في عائلة كارامازوف. هي أفضل من الجريمة والعقاب، إلا أن الراوي كان مزعجاً إلى حد ما.. كنت سأتغاضى عن إطناب دوستويفسكي المعتاد كما تغاضيت عن تقارير تولستوي في الحرب والسلام.. إلا أن شعوري بعدم إكتمال هذا العمل.. لم يمكنني من التغاضي عن الثغرات التي أتيت على ذكرها في هذه المراجعة.. ولكن، ورغم كل شيء، فإنها تظل رواية مثيرة للإهتمام.. وتمثل ملخصاً بليغاً لفكر دوستويفسكي. أنا سعيد للغاية لقراءتي لهذه الرواية في هذه المرحلة من حياتي.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم