ــ 1 ــ

قلتها سنة 2014، وأكرر: لديّ لغتي أمّ؛ الكرديّة والعربيّة. أحبّهما وأكتب بهما، ولن أتخلَّى عنهما. أحبّ العربيّة لأسباب كثيرة، رغم أنّها كانت لغة نظامَي حافظ الأسد وصدام حسين، اللذين قمعا شعبي الكردي والعربي في سوريا والعراق. أحبُّ اللغة العربيّة، وأكره كلّ طاغوت دموي، حاول استغلال تلك اللغة لقمع منع وصهر أيّة لغة كانت. أحبُّ العربيّة والعرب، كما أحبّ السريانيّة والسريان، والأشوريّة والآشوريين، الأرمنيّة والأرمن، الأمازيغيّة والأمازيغ...، وأحبُّ العبريّة والعبرانيين. أمّا قادة إسرائيل، لدي أسباب لا حصر لها، كي أكرههم. ربّما أوّلها أنهم ليسوا قبيلة بني إسرائيل، ولا هم العبرانيون الذين قرأنا عنهم في الكتب المقدّسة وكتب التاريخ. أكره إسرائيل، ولا أكره قبيلة "بني إسرائيل" التاريخيّة. أكره إسرائيل، واحترم اليهوديّة واليهود الذين لديهم مواقف ناقدة من إسرائيل، سياسيًّا وأدبيًّا. أكره إسرائيل، ليس إرضاءً للعرب الذين يكرهونها. أكرهها لأنني رأيت جدار الفصل العنصري، والمستوطنات، والفاشيّة، رؤية العين في صيف 2019. أكره إسرائيل، لأنها لا تساعدني على محبّتها. هذا ليس معاداة للساميّة، ولا عداوة لليهود واليهوديّة، كما يتوهّم البعض. قبل فترة، زرت مقابر اليهود في المدنية البلجيكيّة التي أعيش فيها، وتأسّفت جدًّا، على بعض القبور المتحطّمة، والإهمال الموجود في الرّكن المخصص لهم في مقبرة المدينة. محبّة إسرائيل ليست شرطًا شارطًا على كلّ من يكنُّ المحبّة لليهود واليهوديّة. ليس كلّ من انتقد إسرائيل ورفضها، فهو معادٍ للساميّة. انتقاد النظام العراقي الحالي والسّابق، لا يعني أن المنتقد يكره العراق والعراقيين! مشاركة الإيرانيين صبّ اللعنات على النظام الخمينوي الطائفي الفاشي، لا يعني كراهية إيران وثقافاتها ولغاتها وحضارتها العريقة؛ إيران التصوّف، الشّعر، العمارة، والجمال.


ــ 2 ــ

ربّما أكون مخطئًا في هذا الانطباع، لكن اسمحوا لي بالإفصاح عنه: ألاحظ أن هناك لهفة وتهافتاً لدى بعض الكتّاب والكاتبات، في ما يشبه التسابق، لفتح قنوات اتصال مع إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو بغيره. يمنّون الأنفس على ترجمة أعمالهم إلى العبريّة، أكثر من الانكليزيّة، الفرنسيّة، الألمانيّة، الفارسيّة، الروسيّة...الخ. لكأنّ اللغة العبريّة هي لغة العالم، لغة أهل جنّة الأدب والشّيوع والرّواج والرّسوخ والتّحقق العالمي! غريب ومضحك وهزلي، ذلك المسعى الخفي والعلني، الذي يجوب الأوساط الثقافيّة العربيّة، وربّما الكرديّة أيضًا، من دون خجل أو شعورٍ بالخزي والعار.

نجحتِ الحركة الصهيونيّة بكلّ تفريخاتها، وما يوازيها ويعاضدها، في التّأثير على القرار الدولي، وتشكيل لوبيات جبّارة في العالم، وأسست دولة من لاشيء، وأحيت لغة بائدة، وأقامت نظامًا سياسيًّا متطوّرًا على الصّعيد العلمي والعسكري، ولكنها فشلت أيّما فشل في تحقيق السّلام والأمان والطمأنينة لشعبها، وتقديم وتصدير أنموذج ديمقراطي، إنساني، حقيقي، لدولة "أرض الميعاد". معطوفًا على هذا الفشل، هناك فشل مربّع، مريع وفادح، من نوع آخر، هو فشل جعل اللغة العبريّة، لغة عالميّة منافسة للإنكليزيّة والفرنسيّة، الإسبانيّة، الالمانيّة، الصينيّة، العربيّة...الخ! ومع ذلك، نجد هناك من لديهم وهمًا فظيعًا مزيّفًا مفاده؛ أن تصالحهم مع دولة إسرائيل، من دون انتزاع اعتراف منها بجرائمها، واعتذارها عن تلك الجرائم، وإجراء "تل أبيب" مراجعة ذاتيّة نقديّة، أن التصالح الثقافي والأدبي مع هكذا دولة، سيفتح لهم أبواب المجد الأدبي في العالم! نعم، نجحت إسرائيل في فرض هيمنتها على العرب والعالم، بالعنف، بالترهيب والترغيب...الخ، وساعدها المشهد الفلسطيني المنقسم في ذلك، وساعدها النّظام الرّسمي العربي، بشكل أو بآخر. لكن إسرائيل، ومع كلّ وسائل المساعدة الذاتيّة والموضوعيّة، فشلت في فرض اللغة العبريّة على العالم. لكنها تحاول، ولم تيأس بعد. وعليه، من أين يأتي كلّ ذلك التّهافت السّخيف على التّرجمة إلى العبريّة؟ لا أعرف.

في غضون ذلك، وفي الإطار ذاته، يمكن تفهّم ظروف عرب 48، والعرب الذين يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة، في ما يتعلّق بالدراسة والعمل وسبل الحياة التي تجبرهم على التعلّم والكتابة باللغة العبريّة. هؤلاء، خارج دائرة النقاش والجدل والشبهة.


ــ 3 ــ

قبل فترة، كتبتُ مقالاً طرحت فيه قراءة لرواية مصريّة، وطويت المقال على الكثير من الانتقادات المتعلّقة باللغة والعيوب الفنيّة والتقنيّة التي شابت الرّواية. وأشرت إلى شبهة الاختلاس. صاحب الرّواية، الذي لديه نفوذ أخطبوطي فاعل ومؤثّر مرعب في الأوساط الثقافيّة والصحافيّة في مصر، شتمني. وحظيت شتائمه بأصناف الدّعم والتّبرير، والمعاضدة. وحين تبلورت لدي الأدّلة، وجّهت إليهِ تهمة الاختلاس، بالكثير من الأسانيد والبراهين الموثّقة. هاج الوسط الثقافي وماج، بين مؤيد بشكلٍ واضح، ومؤيّد بخجل، ومؤيّد بصمت للكاتب المصري، وبين مهاجم صارخ، ومهاجم بخجل، ومهاجم خفّي له، ومؤيّد لكاتب هذه الأسطر. وربّما كان ذلك من طبائع الأمور، وأعراف وتقاليد الأوسط الثقافيّة العربيّة. رويدًا رويدًا، بدأت حركة دعم ومساندة شتائم الكاتب تتراجع وتنحسر، مع اتساع حركة دعم انتقاده، ومطالبته بمراجعة نفسه، والكفّ عن الشتم والإهانة. وأتى قرار اتحاد كتّاب مصر إلغاء ندوة كانت مقررة لمناقشة رواية الكاتب، كصفعة قويّة ومدوّية، غير متوقّعة، قابلها الكاتب بالسّخط والغضب، والتهجّم والطعن في اتحاد كتّاب مصر، والتشكيك فيه.

اللافت أنّ النّاس تجاهلت العيوب والقبائح التقنيّة والفنيّة في ذلك النصّ الرّوائي، و"كلبشت" بموضوعة الاختلاس! بالرّغم من أنّ تلك العيوب تفضي إلى الأخير (الاختلاس).

في ما بعد، تجاهل النّاس الاختلاس أيضًا، بسبب ظهور موضوعة أخرى، وهي محاولة تطبيع أو شبهة تطبيع كاتب تلك الرّواية مع إسرائيل، بخاصّة أنه آتٍ من بيئة يساريّة! وعليه، بدأنا بمسلك نقدي فنّي، ثقافي، أدبي، يتعلّق ببنية رواية، ومدى جودتها، ومنسوب أصالتها، وشبهة الاختلاس المتعدد الجنسيّة التي تحوم حولها، إلى موضوعة سياسيّة آيديولوجيّة ــ ثقافيّة؛ التّطبيع! ومحكّ ذلك هو: إن كاتب الرّواية، مثلما تمّ ضبطه بجرم الاختلاس، موثّقًا، جرى ضبطه بتهمة التّطبيع، بالصّور والفيديو ومجالسة كاتب إسرائيلي، والتصفيق له... إلى آخر ما شاهده النّاس بأمّهات أعينهم! لكن لا ضير من طرح هذا السّؤال؛ الذين ينتقدون ذلك الرّوائي المصري ويتّهمونه بجرم التّطبيع، ما مدى حضور القضيّة الفلسطينيّة في أدبهم، رواياتهم وقصائدهم؟! مقصدي أن سيف التّطبيع، لا يمكن إشهاره في وجه كاتب بعينه، ثم وضعه في الغمد، لحين وقت آخر! معطوفًا على ما سلف، هناك ما يشبه الكيل بمكيالين، ومحاولة فصل تطبيع الدّولة عن تطبيع المجتمع، بشكل قسري وتعسّفي، وكيفي. بمعنى، أن الدّولة (السياسة) يحقّ لها ما لا يحقّ للشّاعر، الرّوائي، المثقف! طيّب؛ ما هي الدولة؟ أليست هي تلك المؤسّسات التي يعمل فيها ذلك الكاتب، الرّوائي، الصّحافي، المثقف؟! أيجوز أن ننصب محكمة لكاتب أو روائي بتهمة التّطبيع مع الدولة الإسرائيليّة، ونتجاهل كلّ الزّعماء الذين تعاقبوا على حكم مصر، من السّادات وصولاً إلى السّيسي، مرورًا بمبارك، والرّئيس الإخواني المخلوع محمد مرسي! كلّ أولئك الرّؤساء، الذين وافقوا على اتفاقيّة السلام مع إسرائيل، كان وما زال لهم حاشيتهم ومؤيديهم من المثقفين والأدباء والكتّاب! وإذا استمرّ البعض بإشهار سيف الّتطبيع في وجه كاتب معيّن، فإنّ ذلك السّيف، ربّما يطيح برؤوس الكثير من المثقفين والأدباء المحسوبين على الزّعامات السّياسيّة التي تعاقبت على حكم مصر، وحافظت على اتفاقيّة السّلام مع إسرائيل. زدْ على ذلك، ليس من المنطق والمعقول والأخلاقي، تخوين كلّ هؤلاء. وإذا نحى البعض هكذا منحى؛ فأن الشّعب المصري الذي دعم، السّادات، مبارك، السّيسي، ومنحهم الثقة الجماهيريّة، لم يكتب في ذلك التفويض الشّعبي: "نحن معك يا ريس، باستثناء اتفاقية السلام مع إسرائيل"، سيتمّ اعتباره أنه مطبّع مع إسرائيل! وعليه، أعتقد أن مفهوم وسيف التّطبيع، بات في حاجة إلى إعادة مراجعة ووقفة تأمّل.

أعتقد أن الموضوع متشعّب، بل في غاية التعقيد. وإذا بقي البعض مهووسًا في توظيف واستخدام سلاح التّطبيع (التخوين ــ التكفير) فإن ذلك السّيف ربّما يحصد رؤوس الآلاف من السّاسة والمثقفين والأدباء في مصر والعالم العربي. يعني الإطاحة بأجيال، إلاّ ما نَدر، ورحم ربّك!

مقصدي، أغلقوا على إسرائيل الأبواب الثّقافيّة، وافتحوا لها نافذة واحدة فقط، وهي، أن تراجع نفسها، وتعتذر بشكل رسمي للفلسطينيين، المصريين، السوريين، اللبنانيين والأردنيين، على جرائم الحرب التي ارتكبتها بحقّهم. أمريكا اعتذرت من اليابان. ألمانيا اعتذرت من اليهود. لماذا لا تعتذر إسرائيل عن جرائم حروبها على العرب؟! السّلام الحقيقي يبدأ من هنا؛ من اعتراف إسرائيل بجرائمها، واعتذارها الرّسمي والعلني عنها. هل تمتلك إسرائيل تلك الشّجاعة السياسيّة والأدبيّة والأخلاقيّة على فعل ذلك؟ وإذا أكّدت إسرائيل أن شكوكي ليس في محلّها، وقدّمت الاعتذار الرّسمي، والتزمت بتعهّداتها بقيام الدّولة الفلسطينيّة وعاصمتها القدس، طبقًا لما جاء في اتفاق السّلام الذي أبرمتها مع منظمة التحرير الفلسطينيّة، وأزالت جدار الفصل العنصري، وفككت مستوطناتها داخل أراضي السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة...، وقتذاك، تكون إسرائيل ساعدت البشريّة على محاولة نسيان بشاعة جرائمها في حقّ فلسطين والفلسطينيين. هل كلامي واضح؟ أتمنّى ذلك.


ــ 4 ــ

أثناء محاولتي الاستقصائيّة عن تلك الرواية وصاحبها، عثرت على ما يؤكّد شبهة التطبيع مع إسرائيل. وتجاهلت الأمر، ليس لأنه بسيط أو عابر، بل في منتهى الخطورة. تجاهلت، لأنني استندت على أرضيّة قويّة وصلبة في ما يتعلّق بتوثيق وتأكيد شبهة واتهام الاختلاس. وأردت أن يكون شغلي الشاغل، التركيز على الجانب النقدي، الأدبي، الفنّي، ولست في حاجة إلى تهمة إضافة كي أزيد في تضييق الخناق على ذلك الكاتب. وما زال موقفي قويًّا، بدليل أن الكاتب وصحابته الأفاضل، وشيعته الكرام، ردّوا عليّ بالشتم والإهانة، لا بتفنيد الحجّة بالحجّة، ومقارعة الدّليل بما يناهضه ويفنّده! وعليه، مع وفرة تلك الذخيرة التي امتلكتها، لم أكن في حاجة إلى إشهار سيف السياسة (التطبيع ــ التخوين) والضّرب به.


ــ 5 ــ

عندما يترجم "متحف الكلمة" الإسباني "عابرون في كلام عابر"، "حاصر حصارك لا مفرّ" لمحمود درويش، أو "تقدّموا" لسميح القاسم، أو روايات غسّاني كنفاني، إلى العبريّة، وقتذاك، يمكن للشبهات أن تتبدد حول هويّة وكينونة والهدف الحقيقي لهذا "المتحف". وعندما تصبح تلك النّصوص الشعريّة والروائيّة ضمن منهاج التّدريس والّتربية والتّعليم الإسرائيلي، وقت ذاك، يمكن القول: إن إسرائيل تصالحت مع نفسها، ومع محيطها، وحان موعد التّفكير في التّطبيع معها. ربّما يكون ذلك، شرطًا تعجيزيًّا. لكن أعتقد أن كلامي واضح.

لا يمكن لأيّ كاتب أن يكره أيّة لغة. لكنه يحقّ له أن يكره النّظام الفاشي العنصري الدّموي الذي يتكلّم تلك اللغة. لا يمكنني أن أكره الفارسيّة، لأن الخميني أو الخامنئي يتكلّم بها. لا يمكنني أن اكره التّركيّة، لأن أتاتورك أو رجب طيّب أردوغان يتكلّم بها. ولا يمكنني أن أكره العربيّة، لأن صدّام، الأسد الأب والابن، القذّافي... تكلّموا بها. وكذلك، لا يمكنني أن أكره العبريّة، لأن بن غوريون، مائير، شارون، نتنياهو تكلّموا بها. لهذا كلّه، من حقّي القول: أحبُّ ناجي العلي وغسّان كنفاني، وأكره إسرائيل.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم