تعتبر الشخصية أحد أعمدة الحبكة الروائية، وعامل التحليل السيكولوجي الأساس، والعنصر الحاسم الذي من دونه لا تنبني حكاية. من خلال بناء الشخصيات، تعبّر الرواية عن رؤية للعالم تختلف باختلاف المراحل والمؤلفين، وترتهن للظرف الأدبي والتاريخي والثقافي مع أنها تعكسه وتحدده في الوقت نفسه.

ما من رواية يمكن أن تصاغ دون شخصية على الأقل، فكل وضعية سردية تحتاج إلى من ينهض بأحداثها، وحضورها الدائم يدفع القارئ في الغالب إلى تصورها ككائن من لحم ودم، إذ تتحلى بحالة مدنية ونشاط اجتماعي ومشاعر وأحاسيس وموقف من الحياة والنفس، مثلما تتميز بحضور في الزمكان وفي سيرورة التاريخ، ما يوهم بأنها كائن حيّ يعيش على أرض الواقع.

ولا يعني ذلك أن الروائي يخلط بين الشخصية وشخص حقيقي، بل ينحت بأدواته الفنية شخصية توهم بأنها واقعية، والحال أنها قد تكون مستوحاة من الواقع، وقد تكون من وحي الخيال دون أن تنأى كثيرا عن الظرف الذي انطلقت منه.

مفهوم الشخصية الروائية

أبطال روائيون بأشخاص معينة

تنشأ الشخصية الروائية من ملاحظة الواقع في تجلياته، لا لاستنساخها بل لخلق شخصية متخيلة تتألف من شخصيات واقعية عديدة، بشكل تغدو معه تلك الشخصيات أشباح تمنياتنا في وجه من الوجوه، وتحقيق آمالنا، لأنها تنطق بالحقيقة، وتعري المساوئ، فإذا جاز للأثر الأدبي أن يستلهم مادته من الواقع، فالشرط أن تكون تلك الواقعية وفية لروح الأحداث لا لحَرفيتها.

ولكن مع تطور العلوم الإنسانية، برزت محاولات ثارت على تلك المقاربة، ورأت فيها صيغة كلاسيكية عفا عليها الزمن، فقد دفع بروز الأنا وتشظّيه كتّابَ “الرواية الجديدة” مثلا إلى تجاوز مبدأ الشخصية، سواء في نصوصهم النظرية أم في منجزهم الأدبي.

ثم جاء التحليل البنيوي للرواية لينظر إلى الشخصيات ككائنات نصية، وحزمة من العلامات والوظائف، بينما وجهت نظريات التلقي اهتمامها إلى علاقة القارئ بالشخصية الروائية، ونظرت إليها كظاهرة مرتبطة بقراءة الرواية التي تسمح للقارئ بأن يضع نفسه على مسافة كي يكون فهمه أفضل.

والحق أن مفهوم الشخصية، على بساطته الظاهرة، ظل بعيدا عن المساءلة حتى أثاره الشكلانيون الروس ثمّ البنيويون الفرنسيون.

 فقد اعتبرها الشكلانيون كيانا وظيفيا أو الخيط الرابط للحكاية، بينما زعم البنيويون أنها مجرد “كائن ورقي”، وإن كان حضورها واجبا لتفعيل الحكاية. ثمّ عدّلوا موقفهم واعترفوا بأن الشخصيات، حتى وإن لم يكن لها وجود، تمثل أشخاصا، ذلك أن الشخصية يتم تحليلها دائما بحسب معارف القارئ خصوصا إذا تعلق الأمر بشخصية تاريخية، فما نعرفه عنها يؤثر في قراءتنا.

ولما كانت الشخصيات مبنية فإنها لا تكون مستقلة بل محددة، وهو ما سبق أن أكده فرويد.

لقد اعتبرها بروب وظيفة من وظائف السرد وأحصى منها إحدى وثلاثين في تناوله لشخصيات القصص العجائبية مثلا، ثم تبعه بوريس توماشيفسكي وفكتور شكلوفسكي في اعتبارها مجرد سند سردي، ثم جاء البنيويون الفرنسيون مثل بارت وغريماس في الستينات وبداية السبعينات فأدمجوا البحوث الشكلانية في نماذج كثيرة.

ولئن اختزل غريماس وظائف بروب في ستة فواعل: ذات/موضوع، مرسِل/ مرسَل إليه، معارض/مساند، فإن الشخصية ظل يُنظر إليها من جهة وظيفتها.

الأبطال الروائيون يحملون دائما دلالات ومصائرهم تحوي دائما دروسا أو أخلاقا لا نجدها في المصائر الحقيقية

أما التحليل السيميائيّ الذي يقوم على توزيع اللسانيات إلى دلالة وتركيب كلام وبراغماتية، فقد اقترح تحديدا للشخصية يمر عبر أصناف ثلاثة: الشخصيات المرجعية (التي تحيل إلى مدلول ثابت يمكن الاهتداء إليه بسهولة) والشخصيات واصلةُ متحولاتِ الدلالة (القارئ والكاتب)، والشخصيات ذات الدلائل التردادية (التي توحدّ وتبني الأثر بفضل منظومة إحالة واستدعاء).

أي أن بارت وغريماس وكذلك فيليب هامون يلتقون حول تصور مثوليّ (حالة كائن يكون مفهومه موجودا بداخله) يرى أن الشخصية ليست سوى كائن من ورق، ينحصر بشكل تامّ في العلامات النصية.

وقد وجد ذلك التصور صدى في أشغال تيار الرواية الجديدة، وخاصة ألان روب غرييي ونتالي ساروت، وكانت الغاية من نصوصهما التنظيرية والإبداعية إحباط الوهم المثالي للرواية التقليدية بتقديم الشخصية “كنسيج من الكلمات وكائن حيّ دون أحشاء” بعبارة ساروت.

هذه المقاربة لم تصمد حين وقع تناول الأثر من وجهة نظر تواصلية، فالرواية لا يمكن أن تُقرأ ما لم تمرّ بوهم مرجعيّ أدنى، وهو ما فهمه الشكلانيون الروس منذ عشرينات القرن الماضي حيث كتب توماشفسكي “القارئ يعلم الطابع المبتكر للأثر، ولكنه يشترط نوعا من التطابق مع الواقع يرى فيه قيمة الأثر. حتى القراء الذين يعلمون قواعد الصياغة الفنية لا يمكن أن يتحرروا نفسيّا من ذلك الوهم”.

وقد أقر البنيويون الفرنسيون بهذه البديهية على مضض، وغيروا تصورهم المثولي، ففي موسوعة علوم اللغة لأوسوالد دوكرو وتودوروف، يمكن أن نقرأ “إذا كانت مشكلة الشخصية لسانية قبل كلّ شيء، فذلك لا يمنع من القول إن رفض كل علاقة بين الشخصية والشخص سيكون عبثيا، فالشخصيات تمثل أشخاصا، حسب الشروط الخاصة بالعمل التخييلي”.

لأن المثولية المطلقة تقود إلى طريق مسدود، فالشخصية، وإن كان النصُّ واضعَها، تدرك دائما كمُحيل على شيء في ما وراء النص، فكل نصّ له مرجعية لكونه يحيل على عالم خارج اللغة. أي أن الأثر، وإن كان لغويا، يفضي دائما إلى شيء آخر غير لفظي، وإلا فلن تكون اللغة سوى سلسلة من الأصوات الفارغة.

أبطال بمشاعر وأخلاق

أبطال بمشاعر وأخلاق

لئن سعى التحليل النفسي للإجابة عن السؤال: ما هي الشخصية في نظر المؤلف؟ فإن السؤال الأهم، والوحيد الذي يمكن أن يقدم إضاءة حول نجاعة النص الأدبي هو: ما هي الشخصية في نظر القارئ؟

الشخوص التي يبنيها النص لا يكون لها معنى إلا عبر القراءة، لأن الذات القارئة هي التي تمنح الأثر حياة، أي أن الوصف الشكلي وحتى الوظيفي للشخصية لم يعد كافيا، حتى أننا يمكن أن نضيف سؤالا آخر: ما مصير الشخصية داخل القراءة؟ أو كيف يقاربها القارئ ولأي غاية؟

فمن وجهة نظر القارئ، من النادر أن ينظر إلى الشخصية الروائية كمخلوق فريد، إذ غالبا ما تعود به الذاكرة إلى شخصيات من نصوص أخرى. لأن الشخصية لا تنحصر في ما تقوله لنا عنها الرواية، بل تكتسب محتوى تمثيليا حين تتداخل مع صور شخصيات أخرى، سواء من الكتب أو من الأفلام السينمائية، لأن القارئ ينظر إلى الشخصية بالاستناد إلى معطيات تجربته، قبل أن تصوّبها كفايته التناصّيّة.

وأيا ما تكن الشخصية الروائية، فإنها تحوي بداخلها مشاعر وعواطف ونوازع يضخّمها الفن الروائي حتى نكون قادرين على دراستها بشكل أفضل، فالأبطال الذين يتبدّون لنا يحملون دائما دلالات، ومصائرهم تحوي دروسا أو أخلاقا لا نجدها في المصائر الحقيقية، التي غالبا ما تتسم بالتناقض والالتباس. ولذلك نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم ونستريح كثيرا لانتصاراتهم، وكأنهم يزرون أوزارنا، ويدفعون الضّرّ عنا.

إن أبطال الروايات، حتى وإن كان المؤلف لا يزعم تقديم اكتشاف أو إثبات حقيقة، يمتلكون حقيقة ليست هي نفسها لدى كل الناس، ولكن من حق كل واحد أن يكتشفها ويتملّكها، لأن الشخصية تأتي إلى القارئ كاقتراح معنى يحتاج دائما إلى الإتمام.

عن صحيفة العرب 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم