الرواية والمجتمع
خط بين نقطتين: جسد وروح، يشعر كل منهما بالآخر، أو بالأحرى يحملان أملا وألما مشتركا.
السرد في ثوبه الروائي الفضفاض، والمجتمع (الأرض البكر والمسرح الكبير لحوادث الإنسان.. أهواله وأحواله وتحولاته.. انتصاراته وانكساراته.. صراعات التجارب، والمعارك المتمحورة الذات).
والرواية –بوصفها فنا إبداعيا- هي نتاج المجتمع، نشأت داخله استجابة لتطوره، فقد برز فن الرواية في الغرب عبر الظروف والصراعات والتحولات الكبرى فيه، فكانت الرواية هي ما قدمه العقل الغربي من ضمن ابتكاراته في سعيه لإيجاد الحلول والمقترحات لمشاكله، والتعقيدات التي يعانيها على الصعيد الاجتماعي.
إذن لقد وجدت القضايا المجتمعية بمفهومها الواسع، ضالتها في السرد، ومن ثم في الرواية بوصفها أكثر الأجناس الأدبية استيعابا لحياة البشر وما يطرأ عليها من موجات، وما يتخللها من حركات ومساع لتأصيل القيم والمبادئ والهوية وصولا إلى الحياة المشتهاة كهدف أسمى، يتوق إليه هذا الجنس الأدبي الرفيع (الرواية).
والحقيقة أنني أذهب في تكريس هذه الارتباط الوثيق بين الرواية والمجتمع، وتعاظم دور الرواية خلال الآونة الأخيرة- ، إلى الرأي القائل بأن دور الرواية قد حان وفرض نفسه بعد الحداثة، من خلال تناول للمجتمع يحمل رؤى وأفكار الروائي ليس من خلال انعكاس للواقع الاجتماعي بصورة مباشرة؛ وإنما من خلال قرائته ومعايشته وتشريحه وسبر أغواره، وإنطاق مجاهيله، وإعادة تأويله وبنائه، أو بمعنى أدق «تصبح الرواية مصباحا منيرا لما أظلم من دروب المجتمع، وبوصلة مستنيرة لما تشوش من رؤيته، وضميرا حيا يطرح الإشكاليات التي يعاني منها المجتمع، ويعيد صياغته وبناءه».
على المستوى العالمي، فإن نظرة إلى الدرر الروائية –على سبيل المثال لا الحصر- التي أنجبتها أقلام روائيين عظام مثل تولستوي في «الحرب والسلام»، وكازانتزاكيس في «زوربا»، وجورج أوريل في «مزرعة الحيوان»، وفيكتور هيجو في «البؤساء»، ونجيب محفوظ صاحب الإنتاج الغزير في الروايات الاجتماعية، يمكننا الوقوف على حقيقة أن تلك الشهرة الواسعة التي حققتها الأعمال المشار إليها تعود إلى انطلاقها من واقع اجتماعي أجادت التعبير عنه بأدوات الإبداع الوفيرة التي يبوح بها السرد الروائي.
وبشكل خاص، فإن الرواية الأفريقية فتحت مسارات إنسانية كبيرة وخاطبت المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية في قضايا التراث، العادات والتقاليد ، الروح الوطنية والمفاهيم الأدبية الأفريقية ، كل هذا نجده في الروايات التي كتبت في مختلف الدول الأفريقية وهذا ما يمنحها التجديد وفق معايير ومفاهيم المتغيرات الأدبية الحديثة .
• وتمكنت الرواية الأفريقية –لاسيما التي سلطت الضوء على المجتمع، من بلوغ مكانة عالية بين تيارات السرد العالمية خاصة مع انتشار حركة الترجمة ، وانطلقت الأقلام السمراء بسرد يكشف العوالم الغرائبية والفلكلور المحلي والتراث القديم واستطاعت الرواية أن تعبر عن الواقع الثقافي للقارة وشعوبها بمفاهيم نقدية منطلقة من التراث الحضاري، حيث تغذت الرواية بالتراث الأفريقي والتجارب الخاصة وكانت غنية بالصور والمشاهد والدراما وفي الآونة الأخيرة تمكنت الرواية الأفريقية الحديثة من الانتشار في المنطقة العربية.
• حدث ذلك بعد أن أصبحت الرواية، مساحة رحبة عبر فيها الكتاب عن ألم الإنسان وقضاياه اليومية مثل فقر المجتمعات والبحث عن العدالة الاجتماعية كما في رواية ( أبكي يا وطني الحبيب ? للكاتب الجنوب أفريقي الآن باتون ) ، وناقشوا فيها قضايا الديمقراطية والحرب الأهلية مثل رواية ( مسيح دارفور ? للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن ) ، وكانت مشاكل الهجرة حاضرة في المشهد الروائي الأفريقي الحديث مثل رواية ( كامراد ? للكاتب الجزائري الصديق أحمد ) .
وفي هذا السياق، اسمحوا لي أن أتناول ثلاثة إضات على عوالم أدبية في ثلاثة أقطار إفريقية، تجسد العلاقة الوطيدة بين الرواية الإفريقية وقضايا المجتمع:
مصر.. نجيب محفوظ والتأريخ الاجتماعي
يقول الناقد شوقي بدر في كتابه «نجيب محفوظ.. إبداع وتوهج» إن من أهم أسباب حصول أديب مصر العالمي نجيب محفوظ (1911-2006) على جائزة نوبل في الأدب، هو ما ارتبط به من سمات الانتماء والتصوير الدقيق اﻹنساني لمجتمعه في أحد البلدان بالشرق العربي، وهو ما ارتبط بالانتباه لعدم حصول أحد أدباء العرب بالجائزة من قبل عام 1988.
لقد قرر نجيب محفوظ أن يؤسس مشروعًا روائيًا تاريخيًا، بكتابة روايات أدبية عن تاريخ مصر وفقًا لأحداثها التاريخية حسب عصورها المختلفة، وبالفعل كتب عدة روايات تاريخية مثل "رادوبيس، وعبث الأقدار، وكفاح طيبة"، لكن مشروعه توقف فجأة، حينما قرر نجيب محفوظ أن ينفذ إلى قلب الحارة المصرية، وقد أحسن صنعًا بذلك لأنه قام بتوصيف حارات المحروسة أحسن توصيف ونقلها من المحلية إلى العالمية، وباعتباره ابنا لحي الجمالية الشعبي العريق في مصر، فقد ساعده ذلك في توصيف الحارة المصرية بأدق العبارات، واتخذ ذلك موضوعًا وهدفًا لرواياته، ليخرج لنا أفضل مولود أدبي عن الحارة المصرية "أولاد حارتنا"، جسد فيها العادات والتقاليد، ونقل في أعماله حياة الطبقة الوسطى، وعبر عن همومها وقضاياها الحياتية، وهي الرواية التي حاز بها على جائزة نوبل عام 1988م.
لقد وضح من روايات نجيب محفوظ، انبهار العالم من مشاهد الحارة المصرية البسيطة بعالمها وطبيعة جبلتها التي امتدت إلى الآفاق العالمية. فقد صور الشخصية المصرية بكل أحوالها: أفراحها، وأحزانها، وسطوتها، وخنوعها، وطبيعتها الآنية المتجذرة في الزمان والمكان والغارقة في الأمل والعائشة بكل سلوكيتها المختلفة.
ولقد كان وراء هذا المنجز الأدبي والحياتي بعض الضوابط التي وضعها محفوظ لنفسه، وهو ما انعكس على إبداعاته الأدبية، وقد تجلت تلك السمة في غير الأدب، بدت واضحة في حياته الوظيفية. لقد كانت حياة محفوظ منظومة عاشها بطريقة مثيرة للدهشة واﻹعجاب معاً، كفرد يعيش داخل مجتمع دينامكي استطاع أن يؤصل ويؤرخ له قلم روائي نابغة في أعمال خالدة مثل « خان الخليلي، الطريق، ودنيا الله، والشحاذ، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، وملحمة الحرافيش، والسمان والخريف، واللص والكلاب، وبداية ونهاية، والسراب، وقبل الليل، وثرثرة فوق النيل، وأفراح القبة،قشتمر، وأولاد حارتنا»
المجتمع الكيني في أدب نجوبي واثيونجو
«الرواية هي رؤية للمجتمع»، هكذا يرى الرواية، واحد من أكبر الروائيين الأفارقة الذين استقبلهم العالم باحتفاء شديد ويلقب بـ «أبو الرواية الكينية»، وهو الكاتب الكيني نجوبي واثيونجو، والذي يعتبر من أبرز الروائيين العالميين الذين برعوا في رصد وتصوير المشاهد اليومية في المجتمع وعوالمه المختلفة في نسيج روائي فريد.
ففي كتاباته نجد الأماكن والحكايات، وتعاطي الناس مع السياسة وتأثيرها في حياتهم، وغيرها من مشاهد الواقع، فواثيونجو ينطلق من ضرورة أن تنهض الرواية على التجربة المعيشة والمحسوسة، ويكفي القول إن روايته "تويجات الدم"، وهي إسم زهرة تنبت في السهول الكينية بعد هطول المطر في موسم الربيع، تعطي صورة حقيقية لما هي عليه الحياة الكينية من قسوة، وتخلف.
وتصديقاً لذلك؛ فإن روايات الأديب الإفريقي ومجموعاته القصصية ترجمت إلى أكثر من لغة عالمية، على الرغم من أن الرجل كان يكتب باللغة المحلية، إمعاناً في التعبير عن مجتمعه.
عبدالكريم جويطي.. نظرة مغربية
تعد أعمال الروائي المغربي عبدالكريم جويطي، انعكاسا حقيقيا وبناء في تطور المجتمع المغربي، والرواية بالنسبة لهذا الروائي المعجون بالتربة المغربية والمهموم بمفردات تلك الحياة في الشمال الإفريقي، رواية تحفر في كل الاتجاهات. عليها أن تراود المستحيل عن نفسه حتى يقول لها: هيت لك. عليها أن تحفر لتخرج الطبقات المتراكبة التي صنعت هذا البلد العجيب الذي يتخاصر في الماضي والحاضر وتتعايش فيه النقائض.
وقد صدرت لعبدالكريم جويطى أعمال روائية عدة من بينها: "ليل الشمس" (1992)، و"زغاريد الموت" (1996)، و"زهرة الموريلا الصفراء" (2002)؛ و"كتيبة الخراب" (2007)، و"المغاربة" (2016). كذلك له ترجمات سردية من الفرنسية من بينها "الموريسكي" لـ حسن أوريد، و"نظافة القاتل" لـ آميلي نوثومب
في «كتيبة الخراب»، يتحدث بطل رواية عبدالكريم جويطي عن عذاب الهوة الكبيرة بين ما يقرؤه في الكتب، وما يراه في الواقع. منذ بدايات ما سمي بالنهضة، والمثقف ممزق بين ما يحلم به، وما يتحقق أمام عينيه، وعليه في كل مرة أن يطرح أسئلة هذا الانحطاط الذي لا يريد أن يذهب لحاله… بل إنه يتجبر وتتجدد دماؤه بعد كل نكسة.
وبطل رواية كتيبة الخراب، يتمادى في تشريح مجتمعه، يشاهد مدينته وهي تنهار ويُساء تسييرها كل يوم ويترك فيها الحبل على الغارب لتمدن أرعن، وتتلقى فيها الأشجار الباقية والمستميتة ضربات معاول الهدم. وليست له القدرة على إيقاف ذلك. صوته هش جدا وقواه لا تقدر على المواجهة.
كما تعيد رواية "المغاربة" لعبد الكريم جويطي قراءة التاريخ المغربي وسط مفردات مثل الاستبداد السياسي والخرافة الدينية وتطويع الشعوب كما تعرض سيسولوجية شعب المغرب بتنوعه بين الأمازيغ والعرب، وتنوعه السياسي بين القبائل والأحزاب السياسية مختلفة المشارب والأيديولوجيا.
والخلاصة أن الرواية بشكل عام، والعربية بشكل خاص، والإفريقية أيضا، باتت تتجه نحو المجتمع بصورة أكثر عمقاً وجرأة، لترصد الأحوال والتحولات والتشظي النفسي والروحي في حياة الأفراد، نتاج عدم المقدرة على التواصل الاجتماعي، ونتاج الهوة العميقة التي أحدثتها التطورات التكنولوجية المتسارعة.
0 تعليقات