انتشرَ خبر، في مطالع الثمانينيات، عن أن جائزة نوبل ستُعطى لأربعة من الأدباء العرب (مجلة "الدستور"، لندن): نجيب محفوظ، وأدونيس، ومحمود درويش والطيب الصالح. 
مثل هذا الخبر "مدسوس" من دون شك؛ وقد كتبتُ ابتداء منه تعليقًا ساخرًا في مجلة "كل العرب" (باريس)، مشيرًا فيه إلى أن هذا الأمر غير ممكن الحدوث (أربعة لنوبل!)؛ وهو ما أطلقتُ عليه تسمية: "جائزة بالتراضي". وما لبثتُ، في تعليقٍ تالٍ، أن رشحتُ نجيب محفوظ للفوز بجائزة نوبل للآداب...
سخرَ درويش عند انتشار خبر الفوز المرتقَب للأربعة، عندما فاتحتُه بالأمر. لكنه لم يُبدِ رأيًا في الفوز، أي في هوية المستحق والجدير. وهو ما لبث أن ذكَّرني به بعد فوز محفوظ بالجائزة (1988). 
كان درويش قد نشر، قبل ذلك، حوارًا مع يوسف إدريس أجرَتْه الزميلة السورية سلوى النعيمي، ونشرتْه في "الكرمل": عنوان المقابلة كافٍ في دلالاته، وهو توقعُ فوزِ إدريس القريب بالجائزة، إذ ذكرَ، في الحوار ما يلي: "الحقيقة هي أن هناك من كتبَ مقالات، مثل الدكتور (المصري) صبري حافظ، أستاذ الأدب العربي في جامعة استوكهولم، ليقول إنني رُشحت، هذا العام، للمرة الرابعة للحصول على جائزة نوبل. كان اسمي في القائمة القصيرة التي تضم أربعة أو خمسة كُتاب. وكنت الثالث. حتى ليوبولد سنغور لم يكن في القائمة". ثم يتابع: "أنا المرشح العربي الوحيد لهذه الجائزة. ليس هناك غيري. وإذا قيل لك إن محمود درويش مرشَّح لها، فهذا ليس حقيقيًّا. ولا نجيب محفوظ. ولا توفيق الحكيم. أنا فقط" (سلوى النعيمي: مقابلة مع يوسف إدريس: "أنا، أنا، أنا فقط"، مجلة "الكرمل"، قبرص، العدد الثالث عشر، 1984، ص 193).
لكن درويش عاش مأساة إدريس عندما حلَّ في القاهرة، بعد فوز محفوظ بها، وإثر اتصال زوجة إدريس بالشاعر للتخفيف من حالة زوجها المكتئِب: كانت حالته (على ما أخبرني درويش) تتراوح بين الاكتئاب والغضب... عندها سألتُ درويش: وماذا عن فوزك بالجائزة المرموقة؟ هل انتهتْ حظوظك؟ فكان أن أجابني بحزم وإصرار: لكَ أن تسأل أستاذك (والمقصود أدونيس)... 
نوبل أصابت أعدادًا من الكتاب العرب المرموقِين بسِهامِها، فيما أكدَ لي محمود درويش في مناقشة تالية على الفوز: لستُ متضايقًا من هذا الفوز... كثيرون من الأدباء المصريين يعتبرون أن توفيق الحكيم هو "الأحق" بها من غيره. وهو ما قالَه لي، قبل ذلك، الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عند ترشيحي لمحفوظ، وأديبة مصرية كانت تعمل في إذاعة "مونتي كارلو الدولية" بباريس... 
غير أن حكاية نوبل "العربية" لم تنتهِ فصولًا، بدليل ما حصل معي قبل فوز محفوظ بها، وبعده، ابتداء من مكالمة هاتفية أجراها معي المستشرق الفرنسي جاك بيرك، ذات يوم، في بيتي. كانت مكالمته مفاجِئة، إذ لم يتصل بي في السابق، وكنتُ المبادِر إلى ذلك دومًا. موضوع المكالمة كان مفاجِئًا لي بدوري، عندما فاتحني عن موقفي من نشر رواية نجيب محفوظ: "أولاد حارتنا" مترجَمةً إلى الفرنسية في "دار سندباد"، لصاحبها بيار برنار.
هذه الدار كانت دقيقة في خياراتها الترجمية، ومتقنة الصنع في إنتاجاتها، وهي الدار شبه الوحيدة (في تلك الأيام) للأدب العربي منقولًا إلى الفرنسية، بقديمه وجديده (فيما خلا بعض الدور التي كانت تتوكل بنشر بعض الكتب البحثية لكبار المستشرقين الفرنسيين). هذا ما كان قد شرعَ فيه بيار برنار إثر هزيمة حزيران-يونيو 1967 (على ما أخبرَني، ذات يوم) بتوافق مع سياسات الجنرال ديغول "المتفهِمة" للحق العربي.
بدت عليَّ الدهشة –من دون أن أُظهرها في صوتي عبر الهاتف- عندما فاتحَني بيرك في خيار الترجمة: لماذا تتوجه إليَّ؟! 
لم أتردد في قول موقفي "السلبي" من هذه الرواية، فكان أن أعاد الكلام عنها معي، مؤكدًا على ما كنتُ أعرفُه، وهو أن محفوظ يتخذ في هذه الرواية موقفًا نقديًّا من المعتقدات الدينية، ما كان يُشكل ردًا "مسبَقًا" (إذا جاز القول) على "الأسلمة السياسية" الناشطة التي كانت تتبدى في المشهد العربي العام.
كانت دهشتي مزيدة، بعد أن أقفل بيرك السماعة، وقد عاد وكررَ موقفه، مستعيدًا دفاعه عن الرواية المذكورة. فكان أن انتهيتُ، من النقاش معه، بالقول بعدم ممانعتي لترجمتها ونشرها.
هذا ما استذكرتُه، ذات صيف، عندما انتقلتُ في القطار في مطالع شهر تموز-يوليو للتوجه إلى منطقة "اللاند" (غربي جنوبي فرنسا)، للقاء بيرك بعد اعتزاله التدريس الجامعي، واعتكافه في بيت والده، في قرية سان-جوليان أون بورن. تذكرتُ مكالمة البروفسور الهاتفية، وإذا بي أتذكر كوني رشحتُ محفوظ للجائزة، وهو ما تناقلتُه بعض الصحف المهاجرة حينها (مثل "الطليعة"، مع الزميل العراقي الشاعر فيصل جاسم). وتذكرتُ "بيان" الأكاديمية السويدية الذي ركَّز على رواية محفوظ: "أولاد حارتنا". أيكون بيرك أحد "مستشاري" الأكاديمية، في هذا الفوز على الأقل؟ أيكون قد استلمَ منها ملف ترشيحات محفوظ، ومنها ترشيحي؟
ضحكتُ، يومها، من نفسي، ومن حسي "المؤامراتي"... هذا لم يمنعني، مع ذلك، من مساءلة بيرك، بعد انتهاء حواراتي الطويلة معه، عن سبب مكالمته تلك. فأجاب أنه يُقدِّر مواقفي الأدبية، وأن الناشر بيار برنار نفسه شجعَه على ذلك لمعرفته بي. لكنني أتبعتُ جوابه بالقول: ما علاقة هذه المكالمة بفوز محفوظ؟ ضحكَ بيرك، يومها، ضحكتَه العريضة من دون أن يُصدر أي صوت. وعندما أعدتُ طرح السؤال، بعد أن أغلقتُ آلة التسجيل الصغيرة، أجاب: لا تعليق.
لا تعليق.

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم