ترجمة وتقديم "الرواية نت"

يُعد أنطوني ترولوبي (Anthony Trollope) واحداً من أبرز الروائيين الإنجليز في القرن التاسع عشر، وُلد عام 1815 وتوفي عام 1882. اشتهر بقدرته الاستثنائية على تصوير المجتمع البريطاني في عصره من خلال رواياته الواقعية التي جمعت بين التحليل النفسي العميق، والنقد الاجتماعي، والأسلوب السلس. من أشهر أعماله سلسلة "Chronicles of Barsetshire" التي تُسلّط الضوء على الحياة الريفية الإنجليزية، ورواية "The Way We Live Now"  التي تُعد واحدة من أهمّ الروايات النقدية في الأدب الإنجليزي.

كان ترولوبي غزير الإنتاج، إذ كتب ما يزيد عن 40 رواية، وكان أيضاً موظفاً في الخدمة البريدية البريطانية، حيث ساهم في تحسين خدماتها وأبدع في تنظيم أعمالها. امتزجت حياته العملية مع إنتاجه الأدبي، مما أضفى طابعاً عملياً على أسلوبه في تناول القضايا المجتمعية والأدبية.

في مقاله "عن النقد الأدبي" (On Criticism)، يسلّط ترولوبي الضوء على أزمة النقد الأدبي في زمنه، حيث يطرح قضايا تتعلق بفقدان النزاهة في العمل النقدي وتحوله من فن يرتكز على قواعد محددة إلى مهنة تسودها المصالح الشخصية. يشير الكاتب إلى الأثر السلبي للتأثيرات الشخصية والهدايا التي يتلقاها النقاد من المؤلفين، ويدعو إلى استقلالية النقد وموضوعيته. كما يناقش أهمية الحفاظ على علاقة نزيهة بين المؤلف والناقد، مؤكداً أن النقد الأدبي يجب أن يكون وسيلة لتقييم العمل الأدبي بموضوعية، وليس أداة لتحقيق المكاسب أو التودد.

هذا المقال يتناول قضايا تتجاوز زمن كتابته، حيث لا تزال أزمة النزاهة والموضوعية في النقد الأدبي تثير النقاش حتى اليوم. من خلال استعراض أفكار ترولوبي، يتسنى للقارئ العربي فهم التحديات التي واجهها النقد الأدبي في القرن التاسع عشر، واستلهام دروس حول القيم التي يجب أن تحكم هذا المجال.


هنا ترجمة المقال:

أصبح النقد الأدبيّ في الوقت الحاضر مهنة، ولكنّه فقد كونه فنّاً. لم يعد هدفه إثبات أنّ عملاً أدبياً معيناً جيد أو سيئ بناءً على قواعد يستطيع الناقد تحديدها. النقد الإنجليزي الحالي نادراً ما يدّعي الوصول إلى هذا الحدّ. بل يسعى، في المقام الأول، إلى إخبار الجمهور عمّا إذا كان الكتاب يستحق الاهتمام العام أم لا؛ وفي المقام الثاني، إلى وصف مضمون العمل بطريقة تتيح لأولئك الذين لا يملكون الوقت أو الرغبة في قراءته أن يشعروا بأنهم قد تعرّفوا عليه من خلال طريق مختصر. كلا الهدفين، إذا نُفّذا بشكل عادل، يمكن أن يكونا مفيدين.

حتى وإن لم يكن الناقد نفسه حكماً عميقاً، وغالباً ما يكون شابّاً يخوض أولى محاولاته الأدبية بذوق وحكم لم يتبلور بعد، فإنه على الأرجح لديه ضمير تجاه عمله، ولما كان ليُختار لهذا الدور لو لم يُظهر بعض الكفاءة. قد لا يكون أفضل دليل للقرّاء العاديين، لكنه يظل أفضل من عدم وجود دليل على الإطلاق. النقد الجاد الحقيقي مكلف بطبيعته، وما يطلبه الجمهور يجب أن يكون على الأقلّ ميسور التكلفة. تُقدَّم النصائح لآلاف الأشخاص، حتى وإن لم تكن دائماً أفضل نصيحة ممكنة، فإنها تظل أفضل من عدم تقديم أي نصيحة على الإطلاق. إضافة إلى ذلك، فإنّ وصف العمل الأدبي واختزاله في كلمات قليلة، وهو ما يفعله العديد من النقاد أو المراجعين المعاصرين، يتيح للعديدين معرفة شيء عمّا يُقال، في حين كانوا سيبقون في جهل لولا ذلك.

لا أعتقد أن من واجبي الآن أن أسمّي الدوريات التي يُنجز فيها هذا العمل بشكل جيد، أو أن أنتقد تلك التي تؤديه بشكل سيئ. قد يكون ذلك مسيئاً وربما غير عادل. ولكن يمكنني القول بالتأكيد إنه بينما تستحق بعض الدوريات الثناء على الطريقة التي تُنفّذ بها هذا العمل عموماً، فإن البعض الآخر يستحق أشد اللوم. الثناء واللوم يرجعان في الغالب إلى فضيلة واحدة ونقيضها. ليس من حقنا أن نطالب بمهارة نقدية عالية، أو أن نأسف على غيابها؛ فهذه المهارة ليست شائعة، وغالباً لا تُقدَّر حقّ قدرها. لكن من حقّنا أن نطالب بالنزاهة، ومن واجبنا فضح عدم الأمانة النقدية. إذا قال الكاتب ما يعتقده بصدق، حتى وإن كانت أفكاره غامضة وغير مجدية، يمكننا أن نسامحه. ولكن إذا عبّر عن شيء لا يعتقده، بدافع من الصداقة أو العداوة، فلا ينبغي أن يُغفر له. هذا هو الخلل الأبرز في النقد الإنجليزي الحديث الذي يثير أكبر قدر من الشكوى.

من المؤسف أن رجالاً ونساءً ينخرطون في هذه الممارسات، ليس بدافع الحقد أو الخداع، بل لأنها أصبحت "عادة في المهنة". عندما يتعلم كاتب صاعد أنّ فلاناً استفاد من نقد إيجابي في هذه الصحيفة أو تلك بسبب مصالح شخصية، فإنه بدوره يلجأ إلى التواصل مع المحرّرين أو معارفهم للحصول على نفس الامتيازات. وعندما يشعر المحرّر أو الناقد أنه يمكنه أن يتأثّر بعوامل أخرى غير الواجب الذي يدين به للجمهور، يفقد كلّ شعور بالنزاهة التحريرية أو النقدية. في وقت قصير، يصبح الالتزام بالنزاهة أمراً سخيفاً بالنسبة له. وبذلك تنتشر اللا أمانة حتى تصبح جميلة في نظر البعض.

قبل سنوات، أظهر لي ناقد أدبي معروف مخطوطة كتاب حديث النشر، قدّمها له المؤلّف كهدية تقدير لنقد إيجابي. عندما سُئلت عن رأيي في هذه الهدية، قلت إنها لم يكن ينبغي أن تُعطى ولا أن تُقبل. قوبل رأيي بالسخرية، ووُصف بأنه صارم وغير واقعيّ. الضرر لا يكمن في الهدية نفسها، بل في شعور الناقد بأن وظيفته لا تُهان بقبول هدايا من أولئك الذين يقيّم أعمالهم.

أعتقد أنّ الحلّ لهذه المشكلة يكمن في ضمير وسلوك المؤلفين أنفسهم. إذا ترسّخ الإحساس بأن طلب الثناء أمر مشين، ستبدأ هذه العادة بالتراجع تدريجياً. على المؤلفين أن يتركوا التقييم للنقاد دون أي محاولة للتأثير على آرائهم. يجب أن تكون العلاقة بين المؤلف والناقد خالية تماماً من أيّ تأثير متبادل. النقد الإيجابيّ لا يجب أن يولّد الامتنان، والنقد السلبيّ لا يجب أن يثير الغضب.

عندما يتلقّى الكاتب نقداً، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، عليه أن يتعامل معه كأنه نزل من السماء، كالمطر أو البَرَد، ويقبله كجزء من مصيره. لا شيء يُكتسب من مهاجمة الناقد أو محاولة دحض رأيه. إذا كان العمل الذي انتقده جيداً، ستدحض آراء النقاد الآخرين رأيه السيئ. وإذا كان سيئاً، ستؤكد آراء الآخرين رأيه. الصراخ أو الجدال أو التهديد لن يُنتج سوى شعور بالعجز والغضب لدى الجمهور.

أعرف أن ما أقوله هنا قد يُعتبر مبالغاً فيه، وربما يُنظر إليه كنوع من التزمّت أو عدم الواقعية. لكنّني مقتنع أن الأدب الإنجليزي يعاني من هذا الشرّ بشكل كبير. الحلّ يبدأ من المؤلفين أنفسهم، وإذا أُدركت خطورة التودد للمديح، فإن هذه العادة ستصبح تدريجياً منبوذة حتى من أولئك الذين يمارسونها.

ــــــــــــــــ

ملاحظة: تمت ترجمة هذا المقال من كتاب An Autobiography of Anthony Trollope، وهو العمل الذي يُعد بمثابة سيرة ذاتية لأنطوني ترولوبي، حيث يطرح فيه أفكاره حول الأدب والنقد وحياته المهنية. النص المُترجم يمثل الفصل المعنون بـ "On Criticism".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم