سعيد خطيبي

أعلنت دار غاليمار، قبل أيام، عن بلوغ مليون نسخة من رواية «نشاز» للكاتب هيرفيه لوتيليي، الحائزة جائزة غونكور الفرنسية، العام الماضي. إذا كان من الطبيعي أن تحقق رواية حازت تلك الجائزة المرموقة، مبيعات عالية، فإنه لم يسبق أن بلغت واحدة من الروايات المتوجة سلفاً عتبة المليون نسخة، بل إن معدل المبيعات في أفضل الحالات يقل عن نصف مليون نسخة، على امتداد سنة، من صدور العمل.
كيف حققت رواية «نشاز» هذا الرقم الفلكي، كسرت جميع التوقعات، دون أن تمضي سنة على صدورها؟ مع العلم أننا نعيش في جو وبائي، تتعإلى فيه الصيحات والمخاوف من تراجع سوق الكتاب، ومن غلق المكتبات أكثر من مرة ثم إعادة فتحها. كيف تحقق رواية مليون نسخة في زمن يُعتقد فيه أن الناس قد انصرفوا عن الكتاب؟
لم يُخطئ هيرفيه لوتيليي (1957) أن عنون روايته ﺑ «نشاز» لأنها خليط من كل شيء، تتشابك فيها حبكة بوليسية، مع البحث السيكولوجي، الفلسفة، الحب، السخرية، مع قصص المغامرات، تنطلق بشكل خطي، باستعراض الشخصيات: قاتل متسلسل، كاتب شهير، عاملة مونتاج في السينما، كابتن طائرة، طفلة، محامية، ثم مغنٍ نيجيري، ماذا يمكن أن يجمع بين هذه الشخصيات؟
تدور وقائع الرواية في شهر يونيو/حزيران 2021، عقب إنزال طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية في قاعدة عسكرية أمريكية، بعد أن لوحظ أنها تنقل المسافرين أنفسهم الذين هبطوا في نيويورك، على الطائرة نفسها، قبل ذلك بثلاثة أشهر. انطلاقاً من هذه المصادفة الأقرب إلى الخيال العلمي تتعدد الأصوات في هذه الرواية، وتتواتر الحكايات، حيث أن كل شخصية من الشخصيات تسرد حياتها، وتقف في مواجهة الآخرين. لقد نجح الكاتب في صناعة شخصياته، على الرغم مما تبدو عليه في البداية من الفروقات، أفلح في إحالة كل واحدة منها على أسلوب يختلف عن الشخصية الأخرى، كل شخصية تبدو أنها قصة بحد ذاتها، ولا شبه في ما بينها، كما لو أن الشخصيات تحولت فعلاً إلى بشر، إلى لحم ودم، كما لو أننا بصدد مشاهدة فيلم لا مجرد قراءة نص. كما كانت للكاتب جرأة تحسب له، أن يصدر في 2020 رواية تدور أحداثها منتصف 2021، حيث لم يرد في الرواية ما يحصل اليوم، لكنه يُدخل القارئ في عالم عجائبي وساحر، ينسيه حاله ويجعله منشغلاً بمطاردة الشخصيات ومصائرها.
قد تبدو «نشاز» رواية جماهيرية، تناسب الأعمار كلها، ليست نخبوية ولا مسرفة في الاستسهال، لكن هل يبرر ذلك أن تتجاوز رقم المليون نسخة في 2021؟

شهد الكتاب حالة أفضل مما عرفه في السنوات الماضية، وصار للوباء تبعات أحسن على سوق الكتاب، ساعد عليها هذا التجنيد المجتمعي واستجابة الناس لنداءات الدفاع عن المكتبات.

في مثل هذا الوقت قبل عام، تصاعدت الشكوك في فرنسا من أن مبيعات الكتب سوف تتقلص بأكثر من 30%، دخلت دور النشر في قلق مزمن، ألغت إصدار روايات، وأجلت الإفراج عن أخرى، كما أن لجنة الغونكور تماطلت في الإعلان عن نتائجها الأولية، وأخرت اسم الفائز مخافة ألا يتحقق النجاح المرجو، في الوقت ذاتها انطلقت حملة دعم الكتاب، في دعوة الناس إلى المطالعة، انخرط فيها الجميع، من الساسة إلى المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت حملات إنقاذ الكتاب تشبه حملات إنقاذ البشر من الحروب، وجاءت النتيجة أفضل مما توقعها أكثر المتحمسين لها، التف الناس حول الروايات، وصارت الطلبيات تتهاطل على المكتبات، رغم الغلق المؤقت في وقت سالف، فقد فتحت أبوابها من جديد، بداية هذا العام، ووجدت مئات الآلاف من البشر في انتظارها، والمبيعات لم تقتصر على رواية «نشاز» وحدها، بل غالبية روايات الموسم، وجدت جمهوراً لها أكثر مما كان عليه في سنوات ماضية، لم تكن المبيعات بدافع القراءة فقط، بل حفزت عليها حملات إنقاذ الكتاب. كورونا وحدت الناس في دفاعهم عن الكتاب. جعلوا من الأزمة سبباً في إنقاذ الأدب.

الفرق بين شمال البحر المتوسط وجنوبه

تفيد إحصائيات أن 34% من الفرنسيين انشغلوا بمطالعة الكتب، في فترة الحجر الصحي، بالتالي فقد صارت المطالعة النشاط الأكثر رواجاً، أكثر من الاستماع إلى الموسيقى، أو ألعاب الفيديو. حسب أرقام رسمية دائماً، فإن مبيعات الكتب تضاعفت بنسبة 2.7% عما كانت عليه قبل وصول وباء كورونا. فقد شهد الكتاب حالة أفضل مما عرفه في السنوات الماضية، وصار للوباء تبعات أحسن على سوق الكتاب، ساعد عليها هذا التجنيد المجتمعي واستجابة الناس لنداءات الدفاع عن المكتبات. كما لا ننسى ما قدمته الحكومة من دعم مادي للمكتبات قصد أن تحافظ على توازنها، والمثير للانتباه أيضاً أن نقرأ، من حين لآخر، في الجرائد، عن مكتبات جديدة فتحت في فرنسا هذا العام، ما يعني أن سوق الكتاب عاد إلى عافيته، والأمر لا يخص فرنسا وحدها، بل نجد شبها له في كل من إيطاليا وإسبانيا، هكذا أفلحت دول جنوب المتوسط في الحفاظ على واجهتها الأدبية، وجعلت من الوباء سبباً في إنقاذ الكتاب، فماذا يحصل على جنوب المتوسط؟ الحال في بلدان مثل الجزائر على الأقل يسير من سيئ إلى أسوأ، بخصوص سوق الكتاب في ظل عام 2021. فبعد إلغاء معرض الكتاب الدولي، العام الفارط، يكاد القارئ الجزائري يجد نفسه محروماً من كل جديد، كما أن المكتبات ليست تجارة شائعة، في بعض المدن الكبرى بالكاد نعثر على مكتبة واحدة أو اثنتين، بالإضافة إلى أن الدعم الحكومي للكتاب كان خجولاً جداً، بحكم أن السلطة لا تنظر إلى الكتاب بوصفه سلعة استراتيجية، الكثير من الناشرين تفادوا إصدار جديدهم في العامين الأخيرين، كما أن الجوائز الأدبية المحلية ألغيت، هكذا بينما استطاعت دول أن تحول مشقة الوباء إلى حافز في تنشيط عملية النشر، زاد وضع دول أخرى مثل الجزائر كآبة، ولحد الساعة لسنا نعلم ما سوف يؤول إليه العام الحالي، هل سيُلغى معرض الكتاب الدولي مرة أخرى؟ هل سوف ينتظم؟ هل سوف تتدخل الحكومة في دعم الكتاب؟ الظاهر أن الأجوبة ما زلت في قيد المجهول.

روائي جزائري

عن القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم