حسن داوود

يكاد لا يمرّ يوم لا نقرأ فيه، عبر الفيسبوك، عن صدور رواية جديدة. نرى عناوين وصور أغلفة لا أكثر، ولا نسعى إلى معرفة المزيد، إذ أوصلتنا تجارب النزول إلى المكتبات، إلى أننا لن نجد فيها ما جئنا من أجله. الجديد الذي أفادنا به الفيسبوك هو أننا بتنا نعلم أن هناك روايات تصدر، وبأعداد ما فتئت تزداد سنة بعد سنة، حتى بلغ ما يصل منها إلى لجان تحكيم الجوائز ما يزيد عن الألف في الدورة الواحدة.
لكن الروايات هذه لا تحضر مجتمعة إلا هناك، حيث مراكز الجوائز ومقرّاتها. أما في ما عدا ذلك فتبقى متفرّقة، ماكثا كل منها في بلد صدوره فتكون، في اجتماعها هناك، أشبه بفيدراليات التقت، على ما يقتضي اجتماعها الدوري، مرة في العام.
في بيروت علينا أن نقوم بتلك الزيارات، التي اعتدناها لدور النشر لنطّلع على إصداراتها المحلية، وكذا يفعل الراغبون في القراءة في المغرب مثلا، حيث أحسب أن ما يصدر عندنا، هنا في لبنان لا يصل إليهم، كما لا يصل إلينا ما يصدرونه هناك. وكذا هو الحال مع العراق مثلا، أو مصر، أو السودان، إلخ. البعض يرجع هذا التفرّق الثقافي إلى توزّع النشر بين الدول المختلفة، وانفراط المركز التشاركي الذي كان قد صيغ في معادلة شاعت على مدار سنوات طوال: «مصر تكتب، لبنان يطبع، العراق يقرأ». هذه المعادلة باتت متجاوَزة وقديمة. بدلا منها بات يمكننا أن نصيغ ما يلي: «لبنان يقرأ ما يصدره لبنان، ومصر كذلك، وكذلك العراق أو سوريا…». وذلك، كما كشف منذ أيام تحقيق لعبدو وازن في «الإندبندت» العربية، يصل حتى إلى ترجمات الكتب، معدّدا ست ترجمات لرواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات» صدرت في عام واحد، وفي بلدان عربية مختلفة، كأن لتكون لكل بلد ترجمته الخاصة به من تلك الرواية.

ربما ينبغي عدم التعويل في ذلك على الدور الذي لعبه توزع النشر بين البلدان واختصاص كل بلد بأدبه. ذاك أن البلدان نفسها تغيّرت. أقصد أن مثقيها ونخبها ما عادوا مشتركين في محاور نقاش، تلك التي كانت تعمل على طرحها وإثارتها أحزاب سياسية عقائدية.

وما يصدر في كل من البلدان هو رواية كتّابِه، وكذلك هو الحال في ما يتعلّق بما يُقرأ. لم نعد في الزمن الذي كانت الثقافة العربية تجمع أعلامها من أمكنة عربية مختلفة، حيث في مجال الرواية مثلا، كنا نقرأ لنجيب محفوظ والطيب صالح وكاتب ياسين وحنا مينه وجبرا إبراهيم جبرا، هؤلاء كانوا كتّابنا المعاصرين، المكملين للأدب العربي القديم الذي ندرسه في المدارس والجامعات. وهذا ظلّ مستمرا مع أجيال أعقبت جيل هؤلاء فكنا، حتى الأمس غير البعيد، نقرأ ونحتفل بإبراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم وهاني الراهب ومحمد برادة. كان يمكن للمهتم بالأدب أن يرسم في ذهنه ما يشبه الخريطة لحال الرواية العربية في ذلك الزمن، على الرغم من التباعد الجغرافي لأركانها. الآن تبدلت الخريطة. باتت أضيق، محليّة أو «وطنية، حسب المفهوم الآخذ في الاتساع الآن. هنا، في بيروت مثلا، تبدو الخريطة مكتملة بالرواية اللبنانية وحدها. وعن مصر لاحظ صديق عاد من هناك كيف أن نجيب محفوظ يزداد حضوره تجدّدا عبر الكتب التي لا تفتأ تصدر عنه أو عن كتبه، فيما هنا في لبنان، وربما في بلدان عربية أخرى، تُرك الرجل في زمانه القديم ذاك.
ربما ينبغي عدم التعويل في ذلك على الدور الذي لعبه توزع النشر بين البلدان واختصاص كل بلد بأدبه. ذاك أن البلدان نفسها تغيّرت. أقصد أن مثقيها ونخبها ما عادوا مشتركين في محاور نقاش، تلك التي كانت تعمل على طرحها وإثارتها أحزاب سياسية عقائدية. لطالما كانت مجلات، كـ»الطليعة» المصرية على سبيل المثال، تدعو إلى نقاش عربي عام، حتى حين تتناول أوضاع العمال المصريين. وفي أوساط ثقافية عديدة كان الشائع أن الأحزاب الـ»بان آراب» هي التي تبرز كتّابا واتجاهات كتابية أو تدعو إلى إهمالها. لم يعد هذا قائما. ما يحدث الآن يحدث في مكانه، ويبقى في مكانه.
في المرّات التي نزلتُ فيها للمشاركة، أو للتفرج، على المتظاهرين في ساحة الشهداء في بيروت، لم أتوقف عن إجراء المقارنة بين ما يدعو إليه هؤلاء وما كان يدعو إليه متظاهرو الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
في خطاب هؤلاء، السابقين، كان العالم حاضرا بمحاور دوله وقادته العالميين وانتفاضات مجتمعاته وثوراتها وحركاته التحررية، من أوروبا الشرقية إلى الصين وآسيا والإمبريالية العالمية.. وهلمجرّا. الآن باتت الشعارات التي ترفع لا تذهب إلى ما يتعدى فساد المنظومة الحاكمة، وضرورة إجراء انتخابات مبكّرة، وهذا ما يسمح بإجرائه الدستور اللبناني.

كاتب لبناني

عن القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم