صبحي حديدي

انتظرتُ، بمزيج من الترقب الأدبي والفضول الفكري، صدور الترجمة الإنكليزية لكتاب «روح امرأة: حول الحبّ نافذ الصبر، الحياة المديدة، والساحرات الطيبات» العمل الجديد للروائية التشيلية إيزابيل ألليندي؛ الذي يسجّل إضافة جديدة إلى أعمالها غير الروائية، ويتميّز بالكثير من المطارحات الإشكالية حول مفهوم مركزي تسيّد حياتها وطغى على موضوعاتها ومناخاتها وشخصياتها: نسوية المرأة، مقابل بطريركية الرجل. ومنذ روايتها الأولى «منزل الأشباح» 1982، مروراً بالمؤلفات غير الروائية الأربعة التي سبقت الكتاب الأخير، انشغلت ألليندي بالمرأة؛ تماماً كما فعلت على امتداد أطوار حياتها التي بلغت بها اليوم سنّ الثامنة والسبعين، وتقلبات ما شهدت من أزمنة وأمكنة ورجال (ولادة في البيرو وليس التشيلي، ورحلات في أربع رياح الأرض، وثلاث زيجات بينها طلاق وقع في سنّ الثانية والسبعين!).
صدرت الترجمة الإنكليزية قبل أيام، إذن، عن بالانتاين، شركاء راندوم هاوس وبنغوين، وجاءت في 192؛ ويتوجب أن أقول، من دون إبطاء، أنها لم تخيّب ظنّي، لجهة الترقب الأدبي والفضول الفكري على حدّ سواء. العمل، مع ذاك، متقشف من حيث التركيب النصّي، فهو ينقسم ببساطة إلى جزئين، تتوزّع على كلّ جزء فقرات تطول أو تقصر غير ملتزمة بمنظومة عضوية محددة لجهة الموضوع، منسرحة حسب أفكار وتأملات وخلاصات لا تترابط بالضرورة مع سابقة أو لاحقة؛ حتى أنها، في نماذج كثيرة، تبدو أقرب إلى التداعيات الحرّة التي ينتظمها محور واحد مركزي: المرأة والحال النسوية في أيامنا هذه، قياساً على عقود سالفة من عمر ألليندي نفسها وتاريخ النظرية النسوية.

الفضول الأدبي كان مبعثه الذهاب إلى «روح» امرأة ليس أقلّ؛ بما يستدعيه ذلك من مجازفة الغوص في مستويات فكرية أو روحية أو ميتافيزيقية، لا مفرّ من أن يتقاطع معها نثر ثري من روائية امتلكت على الدوام لغة شديد الإشباع من حيث الدلالة وعالية الإيحاء حين تستخدم المجاز

الأصل في فكرة تأليف هذا الكتاب بدأت من محاضرة ألقتها ألليندي في المكسيك، خلال مؤتمر نسوي انعقد هناك في آذار (مارس) 2013، وأثارت ضجة كبيرة واسعة النطاق بسبب ما انطوت عليه من جسارة في المساجلة حول أوضاع المرأة الراهنة، وتشخيص واقع النظريات النسوية. بعد مضيّ سنوات قليلة اقترح ناشر ألليندي أن تصدر المحاضرة في كراس، لكنّ إعادة قراءة النصّ في ضوء تطورات عالمية حاسمة تخصّ حياة المرأة أقنعت ألليندي بصرف النظر عن المشروع، والعمل في المقابل على كتاب أشمل وأوسع وأعمق، فكان أن رأى «روح امرأة» النور. ومنذ السطور الأولى تجهد ألليندي للتمييز بين مقولات الهيمنة الذكورية، والبطريركية، والنسوية ذاتها؛ فتنأى عن المألوف والشائع والمتعارف عليه؛ أو عن القاموسي والموسوعي، باختصار.
وهي تكتب: «ما تعريفي للنسوية؟ إنها ليست ما نملكه بين ساقينا بل ذاك الذي نملكه بين أذنينا. إنه موقع فلسفي وانتفاضة ضدّ السلطة الذكورية. إنه سبيل في فهم العلاقات الإنسانية، وفي رؤية العالم. إنه التزام بالعدل ونضال من أجل انعتاق المرأة، وجماعات تعدّد الشريك الجنسي، وأيّ شخص معرّض لاضطهاد النظام، بما في ذلك بعض الرجال». بهذا المعنى فإنّ انحياز ألليندي النسوي ليس «نسائياً» حصرياً إذا جاز القول، وهي تساجل بأنّ بعض الرجال هم بدورهم ضحايا النظام البطريركي والطغيان الذكوري؛ حتى إذا كانت حوافزها النسوية الأولى قد تبلورت نتيجة ظروف اجتماعية واضحة التأثير، دفعتها إلى خيارات نسوية منذ أن كانت في مدرسة الحضانة، كما تقول.
والدها تخلى عن والدتها وترك على عاتقها مسؤولية تربية ثلاثة أطفال، مما اضطرّ الأسرة إلى اللوذ برعاية الجدّ، الذي كان وأولاده الذكور بمثابة منعكس البطريركية الأبكر؛ وفي سنّ 18 تجرأت أللينيدي على مساعدة صديقتها لإجهاض حملها، في بلد كان يعتبر هذه الفعلة جريمة نكراء؛ ولن يطول الوقت حتى تطلق مجلة «باولا» التي كانت الدورية التشيلية الأولى التي تناقش مسائل الحريات الجنسية والخيانة والعنف المنزلي والبغاء. نصوص «روح امرأة» تتوقف عند هذه، وعشرات سواها، من المحطات (بينها تجربة مع فتاة باكستانية، في بيروت حيث عمل زوج أمها دبلوماسياً)؛ التي رسمت مسارات انشقاق لم يكن نسوياً بمعنى مجاراة «الموضة» السائدة أو اقتفاء تيارات فلسفية وفكرية أوروبية. لقد كان سلوكاً انتفاضياً في وجه تواريخ بطريركية وذكورية شخصية وعائلية أوّلاً، ثمّ اجتماعية وطنية عامة تالياً؛ خاصة بعد أن اضطرت ألليندي إلى اختيار المنفى بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس الشرعي المنتخب سلفادور ألليندي في سنة 1973.
الفضول الأدبي كان مبعثه، عندي، عنوان الكتاب لدى الإعلان عنه، أي الذهاب إلى «روح» امرأة ليس أقلّ؛ بما يستدعيه ذلك من مجازفة الغوص في مستويات فكرية أو روحية أو ميتافيزيقية، لا مفرّ من أن يتقاطع معها نثر ثري من روائية امتلكت على الدوام لغة شديد الإشباع من حيث الدلالة وعالية الإيحاء حين تستخدم المجاز. مثير للفضول أن يقف المرء على، أو بالأحرى يدقق في، تفاعلات فكر نسوي ثائر داخل مخيلة روائية بدأت من الرغبة في مجاراة غابرييل غارسيا ماركيز في ارتياد مجاهيل الواقعية السحرية؛ فكيف إذا كان المزيج يسمح، تالياً، باستكشاف المزيد من أسرار امرأة عشقت الحياة على الدوام، وكانت حسّية في معظم أبعاد وجودها؛ هي التي وهبتنا كتاب «أفروديت: ذاكرة الحواسّ» 1998، الذي بلغ بنا ذروة غير مسبوقة في التحام الأدب بالطعام، وانشطار صحاف المائدة إلى استعارات إيروسية باذخة!

عن القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم