محمد حجيري

لا تتوقفُ الأقلام السيالة عن تناولِ سيرة الشاعرة الأميركية، سيلفيا بلاث، زوجة الشاعر البريطاني تيد هيوز. والإسراف في الحبر على الشاعرة، مردّه جملة أسباب، تبدأ بشِعرها و"حسّها الأدبي المرهف"، وعلاقتها الغرامية المميزة والملتبسة بزوجها (الشاعر) وإنجابها طفلين، واكتئابها، وصولاً الى "خيانة" زوجها الشاعر لها. وتبقى القضية الشائكة والأبرز والأشد وقعاً لإطلاق التخمينات والتقديرات، وتتمثل في انتحارها اختناقاً بالغاز في شباط/ فبراير 1963... وبحسب مترجمة رسائلها فاطمة نعيمي(1) فإن التفاصيل المأسوية التي تتناول حياتها ومعاناتها مع الاكتئاب، حجبت "عظَمتها كشاعرة مبهرة"، وبالتالي فقد بقي الجدل دائراً إلى اليوم حول علاقتها مع تيد هيوز الذي كان، بشكل أو آخر، أحد الجناة أو سبباً في نهايتها المأسوية.


وتناوُل قصة الشاعرة والشاعر يتسّم، مرة بالاتهامية، ومرات بشيء من العاطفية، خصوصاً أنها تحولت "قضية نسوية"... فالشاعرة قيل إنها كابدت مع زوجها، ودوّنت كتابات متقلّبة حول علاقتهما، وهو حاول محو بعض كتابتها تهرباً من تحمل المسؤولية حول معاناتها وحرصاً على مستقبل ولديهما. والصورة حول تلك العلاقة ليست واحدة، فالروائية التركية أليف شافاق، كتبت في كتابها "حليب أسود"(2) أنه على الرغم من أن سيلفيا بلاث كانت شاعرةً رائعة تتميّز قصائدها بحساسية عالية وبقدرٍ كبير من الإبداع، فإنها عانت خلال حياتها مختلف "مشاعر القلق بخصوص الأنوثة والأمومة. وعندما رُزِقَت بأطفال استبدّ بها القلق من العالم الخارجي". و"كان البقاء في البيت لتربية طفليها خياراً صعباً، لكنّها لجأت إليه رغم ذلك، وغرقت في دوامة الأشغال المنزلية وتغيير الحفاضات، بينما كانت تراقب بصمت ما يحدث في عالم الأدب. في ذلك الوقت كان زوجها يواصل حضور المناسبات الثقافية واستمر في كتابة الشعر وإقامة علاقات جديدة في مجال الإبداع الأدبي وتعزيز شهرته".

كانت سيلفيا تراقب كل هذا بحسد وتشاؤم وقلق لم تخفِه حتى في قصائدها نفسِها. بعد طلاقها من تيد هيوز، قررت أن تجمع شتات نفسها، فكتبت أجمل قصائدها في تلك الفترة. كانت تكتب كثيراً وفي كلّ مكان وبلا هوادة، تكتب بحب وبصدق من دون أن تنسى أنها أمّ أيضاً. "كانت تريد أن تكون بارعة في كلّ شيء: أمّ وربّة بيت وكاتبة وشاعرة"، تقول إليف شافاق.

وفي روايتها "أنت قلت" قررت الكاتبة الهولندية كوني بالمن(3) أن تعيد إحياء هيوز ليسرد عن حياته وتنحاز إليه بحسب آراء النقاد، بدءًا بلحظة معرفته بتلك الشاعرة، المكسورة ذات الروح السوداوية والمكتئبة والبريئة (سيلفيا) العام 1956، إلى إغلاقهِ باب الفرن الذي انتحرتْ داخله العام 1963، متحدثًا عن سنواته مع (سيلفيا) من وجهة نظره. مبرئاً أو مبرراً الاتهامات التي لاحقته ومازالت تلاحقه بعد موته، بعدما فضّل ألا يبوح أو يعلّق عليها في حياته. قال: "ما الذي كنت أنتظره من امرأةٍ عضتني في أول لقاءٍ بيننا بدلاً من أن تقبلني؟ كان يجب أن أفهم أن الحب بالنسبة إليها مرادفٌ للعنف أو القتال، أن انتزاع قرطها يعني تجريدها من تحضرها للأبد، وحمل القرط كوسام، من يبدأ حبًا كهذا يعرف أنه في قلب هذا الحب يختبئ العنف والدمار، وفي النهاية يختبئ الموت، من البداية كان أحدنا قد انتهى: هي أو أنا. أحببتها منذ اليوم الأول وحتى آخر يومٍ في حياتي، وإذا كانت بانتحارها قد رغبت في سجني داخل موتها للأبد". ثمّ يقول: "بعد موتها تحوّلت الشرنقة التي لطالما حاولت إخراجها منها خلال سنوات زواجنا، إلى قفص يسجنني داخله، وتركتُ ثعلب أحلامي الذي كان يقفز أعواماً أمام زجاج زنزانتي في الخارج، غير سامح له بالدخول. سحبتْ كلابُ الدم زوجتي بعيداً مني، ومزّقت أطرافها أمام عينيّ. وتحولت قصة حبنا لملاحق أو قصص مشوهة، وكنتُ أكثر عناداً، وأكثر أدباً من أن أدخل طرفاً في غوغاء ولغط منشورين في كل مكان، وكتابات أدينها أخلاقياً، عرقلتْ طويلاً رحلة استعادة نفسي وتوازني".

تتزايد الصور والأسئلة والتخمينات، حين نقرأ في مقال لجين إينيس (ترجمة صالح الرزوق) يقول: "هل "أخطأت" بلاث أم لا، حينما وضعتْ حداً لحياتها وتركتْ طفلين صغيرين وراءها في العالم من دون أمّ. ألم تكن مفارقة ساخرة أن تضر بلاث ولديها من خلال ما فعلته بحياتها الشخصية - فقدان أحد الأبوين في عمر بالغ الحساسية؟ وفي النهاية، كيف يمكننا أن نحكم على امرأة كانت قد انتقدت بحنق أمها وألّهت والدها، ثم اختارت طريق أبيها في تدمير الذات (مع أن أوتو بلاث لم ينتحر، فقد تسبب بالتأكيد بموته المبكر كما يتضح من كل التفاصيل، حيث أنه امتنع عن علاج مرضه، وهو السّكري، حين كان في مراحله الأولى). ويبدو أن ذلك شجعها على أن تفعل بزوجها، ما فعله الأب بأمها. ولا شك أنّها مفارقة تدعو للسخرية أن قصيدة بلاث "والدي" قد خيمت بجوها على الطريقة التي ستنهي بها حياتها. في هذه القصيدة تعريف بوالدها، فهي ترسمه بشكل شخصية نازية لكنها تعرّف نفسها كيهودية. تقول بالإشارة لوالدها: "حسبت أن كل ألماني هو أنت". ثم تتابع لتصف قطاراً "يجأر" وينقلها مثل يهودية إلى داشو، وأوشفيتز، ثم بيلسين. ثم بحدة تعلن في العبارة التالية "ربما أنا يهودية قليلاً". وهنا يحين الوقت لنتذكر كيف ماتت بلاث: لقد خنقت نفسها بالغاز". يضيف مقال جين إينيس "إن انتقاد أخلاقيات بلاث، يسهل علينا أن نتذكر "فن الانتحار" لجويس كارول أوتس. تتكلم أوتس عن "الانتحار الذي يحمله المجاز". وهذه الفكرة تنطبق على بلاث، التي يبدو غالباً أنها تجعل رؤاها وأفكارها الشعرية متداخلة مع مشكلات حياتها الحقيقية. هل كان جانب من مشكلة بلاث هو في مشاعرها عن مدى جودة شعريتها؟ من الملاحظ، أنها تعاني القليل من الدونية. لقد اعتقدت أن عليها ألا تكون مضطرة، مثل بقية الكائنات الإنسانية، لتنظيف الأطفال. لكن هل ضاعت تماماً في شعرية تيار الشعور لدرجة أنها لم تكن قادرة على العودة للواقع كي تتعامل مع الهموم الأرضية؟ إن تصوفية الإبداع مجال يعاني فيه الإنسان، بطريقة ما، من التشتت، مثل أستاذ مشغول الذهن. لكن، في الوقت نفسه، إن إبداعية شخص تكون واضحة ومركزة. وهذا العالم، غير الإبداعي، لا يمكن لبلاث أن تتعامل معه، لا سيما بعد فترة مكثفة من الكتابة، وهي الفترات التي شغلتها في نهايات عمرها، كما حصل معها بعد فترة من النجاح وقبيل محاولة الانتحار. ويبدو لنا كأن بلاث تعاني كآبة "بعد الإنجاب" حالما تنتهي من كتابة أي عمل، أو كما لو أنها لا تستطيع التعامل مع خمول الحياة بعد فورة الإبداع".

رسائل
و"رسائل"، التي نشرت قبل سنوات وترجمت الى العربية، تحوي تفاصيل مهمة عن الحياة المضطربة للزوجين بلاث وهيوز وذلك بعد موافقة مالكتها، ابنة سيلفيا، فريدا هيوز، والتي هي نفسها لم تعرف بوجودها حتى العام 2016، ولم تستطع تحمل فكرة بقاء هذه المراسلات، مهما كانت خاصة ومدفونة في مكتبة. الرسائل الأولى منها موجهة إلى والديّ سيلفيا في شباط/ فبراير 1940. عثر عليها في منزل عائلة بلاث في وينثروب ماساتشوستس حين كانتْ بلاث في السابعة من عمرها وتقيم مؤقتاً في بيت جدها عندما بدأت مراسلاتها. تتضمن الرسالة الأولى الموجهة إلى والدها، أوتو بلاث، والمكتوبة بقلم الرصاص في 19 فبراير/شباط، غلافاً على شكل قلب، وتعرب فيه عن قلقها على صحته. هذا الغلاف يعود بقرّاء بلاث إلى صورة شعرية في قصيدتها "والدي"، عندما تصف والدها على أنّه "قلبي الأحمر الجميل المنقسم إلى جُزأين". توفي اوتو بلاث في وقت لاحق من ذلك العام. في 20 فبراير/ شباط كتبتْ بلاث أولى رسائلها إلى والدتها، وهي الأولى من بين أكثر من 70 رسالة أرسلتها إليها على مدار 23 عاماً، مضيفة أحياناً رسوماً أو عبارات ملوّنة، إذ كثيراً ما كانتْ سيلفيا تعبّر بالرسم في رسائلها.

وجاء في مقدمة الترجمة العربية للرسائل، أنّ بلاث قضتْ بين العامين 1943 و1948 عطلات الصيف في مخيمات الطالبات في نيوهامبشاير وماساتشوستس. في هذه العطلات بقيت ترسل كل يوم تقريباً إلى والدتها، وبشكل أقل تواتراً إلى شقيقها وأقاربها. وتبيّن هذه الرسائل، منذ البداية، الأهمية الممنوحة للمراسلات في أسرة بلاث. في نهاية فبراير 1956، كتبتْ بلاث إلى والدتها رسالة تقول فيها: "بالمناسبة، قابلتُ شاعراً رائعاً، هو طالب سابق في كامبريدج، في حفلة حضرتها الأسبوع الماضي، من المحتمل ألا أراه مجدداً، لكنني كتبت عنه قصيدتي الأجمل، إنه الرجل الوحيد الذي ألتقيه وأشعر أنه قوي بما يكفي ليكون مساوياً لي، يا لها من حياة". لاحقاً في رسالة أخرى لوالدتها تصف بلاث هذا الشاعر (والذي سيصبح قريباً زوجها): "هذا الشاعر المسمى تيد هيوز، طويل القامة، ذو وجه كبير، وشعر بني داكن، وعينين خضراوين زرقاوين متوهجتين، يرتدي الملابس القديمة نفسها طوال الوقت، سترة سوداء سميكة، وسروالاً خاكياً ملطخاً بالنبيذ". ورغم أنه تم عقد قرانهما، إلا أن الأمر بقي سراً، إذ كانت بلاث تخشى فقدان منحة فولبرايت الجامعية إذا اكتشفت السلطات أنها متزوجة.

ثمّ تبدأ الرسائل بتقديم صورة تفصيلية لزواجهما وتستمر الى النهاية المأسوية، إذ تتناول الرسائل الاخيرة الأحداث المتعلقة بانفصال سيلفيا عن تيد وانتقاله للعيش مع عشيقته، و"نضالها" من أجل البقاء مع طفليها، وصولاً إلى الاكتئاب والانتحار. تمتلئ خطابات سيلفيا المكتوبة في هذه الفترة بالتشنج والنقد اللاذع ضد هيوز، في الوقت الذي تحاول فيه اتمام الإجراءات القانونية للحصول على النفقة والانفصال القانوني ومن ثم الانتقال إلى لندن. وتفاصيل انهيار الزواج واللحظات الحميمة، يمكن توثيقها من رسائل بلاث المرسلة من 18 فبراير/شباط 1960 و4 فبراير/شباط 1963 إلى الدكتورة روث بيوشر، معالجتها النفسية السابقة في بوسطن، لأن بلاث تثق فيها وتحترمها لدرجة أنها تسميها "الأم الروحية" وتحدثها بصراحة تامّة. ويستبد بها الغضب والاحتجاج على معاملة تيد لها، وكذلك بسبب نزواته الجنسية، ورغبتها في أن تكون صوتها الخاص، لا مجرد التابع أو مكسورة الجناح، فتقول: "أنا لست بنيلوبي (في إشارة لزوجة أوديسيوس في الأوديسة، والتي بقيت مخلصة لزوجها في غيابه الطويل)، لكنني سأكون ملعونة إذا كنتُ أرغب في الجلوس هنا مثل بقرة ترضع الأطفال، أنا أحب أطفالي. لكني أريد حياتي الخاصة أيضًا. أريد أن أكتب، ألتقى بالناس وأسافر... وهي انتحرت رغم تكرارها عبارات مثل: "أنا قوية وعنيدة ومحاربة".

ودائماً يُطرح السؤال: هل كان هيوز السبب؟ وهل كان ينبغي أن تنتحر لتترك المشقة على طفليها؟ نقرأ في مقال لفريا جونستون (ترجمة سعد البازعي) يقول لنبدأ بالنهاية. بتعبير الشاعرة روث فينلايت: "الجميع يعرف نهاية القصة". في صباح 11 فبراير/شباط 1963، في عامها الثلاثين، دخلت بلاث مطبخها في شقتها بلندن وأغلقته بالورق اللاصق، فتحت الغاز وأسندت رأسها على باب الفرن المفتوح. استعداداتها للموت كانت محسوبة واستجدائية. تركت طفليها الصغيرين في غرفة نومهما، باب الغرفة مغلق تماماً وشباكها مفتوح، مع بعض الخبز والزبدة والحليب. ورقة صغيرة في عربة الأطفال تضمنت طلباً مهذباً، بالأحرف الكبيرة، بالاتصال بالطبيب الذي كتب لها وصفة المهدئات. وحين وصل الدكتور هوردر، كانت قد ماتت منذ ساعات. ومع أن هوردر كان يحاول إدخال بلاث إلى قسم العناية النفسية قبيل انتحارها، فقد أعلن: "كنت مندهشاً جداً أنها فعلت ذلك بنفسها". يضيف المقال: "إلى جانب الملاحظة المتعلقة بالطبيب - التي قد تدل أو لا تدل على أنها كانت تأمل أن يُعثر عليها حية - تركت بلاث ملفاً أسود على مكتبها. وتضمن الملف المجموعة الشعرية الريادية، المهداة لطفليها فريدا ونيكولاس، والتي عنونتها "أرييل". كانت بلاث قد استمرت تكتب الشعر حتى قبل وفاتها بستة أيام (يومياتها الأخيرة، التي ظلت تكتبها حتى قبل وفاتها بثلاثة أيام، أتلفها زوجها تيد هيوز)، وعملها الأخير فسّره العديد من القراء بنهم على أنه إعلان عن الكيفية التي ستنتهي بها حياتها. وقد صادق هيوز على ذلك التفسير. أعلن العام 1998، قبل وفاته بفترة قصيرة، أن القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها "أرييل" كانت "نبوءة بانتحارها"، وهي قراءة تستدعيها الأسطر الأربعة الأخيرة:

قطرة الندى التي تطير
منتحرة، متوحدة بالنزعة
نحو العين
الحمراء، مرجل الصباح... 

وهي كانت تقول "الموت فن". إثر وفاتها منتحرة، اتهمت جمعيات نسوية ونسويات ونسويون، زوجها، بأنه كان سببًا في انتحارها، وتظاهروا ضده في الكثير من الأمسيات الشعرية التي كان يقيمها، كما أزالوا اسمه عن قبرها أكثر من مرة. وقد أصبحت بلاث مثالاً للمرأة-الضحية بالنسبة للحركة النسوية، فيما أصبح تيد هيوز مثالاً للرجل-المضطهِد غير الوفي. ومع أن هيوز آثر طوال 35 عامًا (1963 - 1998) الصمت حيال الاتهامات التي وجهتها إليه المؤسسة الأدبية البريطانية، وكذلك الأوساط النسوية، في ما يتعلق بوفاة بلاث، إلا أنه خرج عن صمته في العام الأخير من حياته حين نشر مجموعته الشعرية التي كرسها لذكرى سيلفيا بلاث. في إحدى قصائد "رسائل عيد الميلاد"(4) يتذكر هيوز، سيلفيا بلاث، بوصفها عروسًا خجولة:

بثوبك الصوفي الزهري اللون
وقبل أن يلطخ أيُ شيء أيَ شيء
وقفتِ على المذبح
وكان شكلك مختلفًا
ذاتَ قوام أنحف، جديدةً وعارية،
غصنًا مزهرًا مترنحًا من الليلك الريّا
كنت ترتجفين وتبكين من البهجة،
كنت بعمق المحيطات
يحرسك الله.
_______
(1) منشورات تكوين في الكويت.
(2) صدرت عن منشورات الآداب ترجمة محمد درويش
(3) صدرت ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة العامة للكتاب، بترجمة الشاعرة التونسية لمياء المقدم.
(4) صدرت ضمن سلسلة ابداعات عالمية 1998، ترجمة محمد عيد ابراهيم.

عن المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم