أمين غانم

هل للرواية نهاية؟ أو بالأحرى كيف سيواصل شخوص العالم السردي حياتهم بعد أن ينهي الكاتب قصته؟  بعد قصة عشنا أحداثها لبضع سنين ضمن حياة متخيلة موازية؟ أم أنّ الرواية والرواة بمثابة حياة (خارج الحياة) خاطفة مختلسة لمخادعة الحياة الأم ومقاومتها، لهذا لسنا بحاجة للذهاب لما بعد برهتها الزمنية المحددة بالنهاية الافتراضية لعالمها وكأن شغفنا كله يتجلّى بالميل الفطري لبتر حياتنا عن مسار الوجود الإنساني المستمر إلى ما لا نهاية؟

وهل خلود ابطال الروايات هي واحدة من خداع الصورة الثابتة المبتغاة بحيث تظل في ذهن الناس لعقود عديدة، كأناس لاتشيخ ولا تمرض ولا يداهمها الوهن والضعف الإنساني؟ لهذا فالروايات التي تعتمد على مساحة زمنية صغيرة هي من تشتغل على إعلاء الصورة الخاطفة،من دون أن تدري، وخلودها صورة أبطالها في الأذهان يشي بالعجز الإنساني اولاً قبل ان يكون توقاً لقوته كإنبعاثات للخلاص الأبدي من الظلم والجهل.
أم أن فكرة الخلود المطلق للأبطال هو واحدة من الطرق الصادقة لرسم الحب السامي وهذا بمثابة الفعل المنوط بالخليقة للسمو خارج مفاسد الجسد الزائل؟

لطالما يراودني هذا السؤال، بمعنى ان السرد يحاول ان يقدم شيئا للناس في سياق حكاية ادبية، لكننا لو امعنّا النظر في أية  رواية وافترضنا بعد حقبة من الزمن كيف سيكون مآل حياة الشخصيات المتبقية منذ اعلان الكاتب نهاية حكايته، فمثلا لو نتخيل كيف عاش راسكوليكوف بطل الجريمة والعقاب حياته بعد اكمال سنوات العقاب في سيبيريا؟ وكيف عاش الاديب الشاب بطل رواية زوربا حياته بعد فراقه بزوربا؟ وكيف ياترى ستغدو حياة رؤوف علوان الصحفي بعد مقتل سعيد مهران في نهاية رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ.

الرواية ليست إلا بداية لحكاية متشعبة للمصير الإنساني ولن تنتهي إلا بنهاية البشرية.
فكل قصة تنتهي عند زمن ما، هي بلاريب نهاية الفكرة عند الكاتب ولكنها تعني لنا مجرد إقتطاع لحدود معينة جدلية الوجود الانساني، بمثابة لحظات بسيطة من حياة هائلة لانهاية لها، وستظل حياة كل شخصية في العقود التي تعقب نهاية الرواية التي افترضها المؤلف محوراً خصباً لاكثر من حكاية ورواية.
لهذا نلاحظ أنّ الروايات التي تشتغل على حيز زمني كبير هي من تنال حظاً، لأنّ امتداد الأحداث وتقلبها على أكثر من جيل يبين كيفية تشكّل الإرادة وكيفية فقدانها، بمعنى يفسر وبصورة جلية صيرورة الحياة والوجود إلى ماوراء الإرادة الإنسانية.

ثلاثية نجيب محفوظ حملت ابوّة ومخاضات جيل ثورة ١٩١٩ واستمرت الحكاية لمابعد الحرب العالمية الثانية، عبر نهاية جيل الثورة باكراً كإعلان لتحرك عطب المجتمع المصري وصعوده كوريث للأفق المسدود، جمال الثلاثية جاء بالتخلّي التدريجي عن تشييد الحكاية عبر الإتكاء على الحدث العظيم بكل إرتداداته وتركه يسري بإنسيابية لذيذة لتحور الخطيئة كإرادة بديلة لتوهان العقل وضياعه، كأن قوة الحياة تأت من  جدلية مبهمة لتفسخ المجتمع وتبدله، فمن قوة ألإنسان وتماسكه تُفقد القيم ومن ضياعه وتفسخه تنبت الإرادة الملتبسة ويتشكل النسيج الإجتماعي وفق مستويات من تراجع المُثل ويغدو تحلل الغايات ضرباً من الإنبعاث الغير مباشر لأوجه مُشينة لتحقيقها، بإعتقادي فإن محفوظ يجيد ترك إرادة شخوصه إلى عواهن الزمن بتفننه في نقل الغايات والمُثل من جيل إلى آخر، فالنهاية ليست إلا إيمانا خالصا بدوران الأيام وفق ماترسمه الأقدار والصدفه، فبطل اليوم لن يظل بعد ربع قرن على نفس المسلمات، ومومس اليوم ستغدو حالة مختلفة  أشبه بإرادة جبارة للعيش.

في مائة عام من العزلة لماركيز مثالاً لتجانس الإرادتين عبر ثلاث أجيال، في مقاربة خصبة لدمجها ضمن صيرورة حتمية للوجود عبر إستقراء متشعب لحكايات شتى أفضت في نهاية المطاف لمآلات جوفاء لفرط الانسان في تمثل القوة كمادية محضة للشهوة، وتحولت فسحة الجسد وتطلعاته في مساحة عريضة للزمن(مائة عام) لتفسخ هائل لعالم فنتازي بات حتما أنصياعا وذوبانا بحركة التاريخ والوجود كإرادة كليّة ومطلقة للكون، بعكس مآلات الفنتازيا في روايات الزمن القصير والتي سعت للتحليق فوق حدود الطاقة الانسانية لكن لو أمتد بها الزمن ستتفكك حتماً وتمضي ضمن وتيرة الإرادة غير المنظورة.

كل هذا يؤكد مدى هشاشة فكرة النهايات التي يقفل بها الرواة حكاياتهم السردية، لان قصصهم هي جزء من حياة مستمرة لم تنته، فالرواية هي جزء ضئيل جدا من حياة مهولة، فإنتصار الشخوص وهزيمتهم هي بلا ريب ليست نهاية للعالم السردي بقدر ماتكون نهاية لعيش خيالاته عند الكاتب.

اغلب الكتاب يعتبر تكييف الاحداث والشخوص على نهاية ما لقفل الرواية مهارة، والبعض يتركها تمضي إلى حيث تشاء لكنه على كلٍ يعتقد بإنها نهاية مناسبة، المشكلة ليست هنا بل في مدى يقين الكاتب بأن ثمة نهاية خالدة لهذا العالم -عالم الرواية- وهذا ينم عن قصور معرفي عن العالم الذي يتخيله والذي يعيشه ولو جاء النص بديعاً.
فالإرادة داخل عالم السرد وان حققت مكاسبا في زمن الرواية المحدود، هي مسألة نسبية ولو قُدّر للروائي أن يواصل الكتابة عن مآلات شخوصه عبر الجيل الثاني والثالث لشخوصه لأختلف الأمر كليّاً، لإن الافكار والاحداث والشخوص بعد أكثر من عقد من الزمن سيتبدل حالهم وتتغير قوتهم وهوانهم، بمعنى أن كل شيء سيؤول لإرادة الزمن حتماً كإرادة عليا غير منظورة، وكأن الرواية هي فكرة جزئية لرسم صيرورة الوجود في مستوى ضيق من توقّف الحياة والزمن عند نهاية ما أشبه بالإكتفاء لإستلهام الإنسان ضمن دائرة صغيرة مغلقة، حين نعتبر مآلاتها كصورة باعثة للأمل و اليأس.

من هنا سنعتبر الرواية مدخلاً او فتحاً لعيش جزءا من صيرورة قصة مستمرة للوجود الانساني، ومتعتها تتفاوت تبعاً لمحدودية الفهم الإنساني.
ووفقاً لمدى تجانس وإختلاف إرادة العالم الموازي بإرادة الوجود تتمدد وتفكك معان كثيرة في كلا العالمين، ويغدو جموحها في عالم السرد فسحة صغيرة لمجابهة الإرادة الكلية لكنها تبقي خدعة محبوسة في حيز زمني صغير، أشبه بالإكتفاء بمعركة صغيرة في مقتبل حرب كبيرة، لان وحدة الزمن بنسقها التراكمي لا تتوافق بالجزئية الزمنية للعالم السردي.
لهذا يتوجب علينا ألا نعتبر نهاية الروايات كحتمية مطلقة لشخوصه، بل يتحتم علينا فهم حركة الشخوص وفعلهم على متن السرد لنتبين كيفية بناء عالمهم كمدى لإستلهام الإنسان لطاقته وقدراته.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم