لطفية الدليمي

الأفكار التي تأتي في إطار جسم حكائي وتتناول تفصيلات غير مطروقة، أو تمّ تناولها بأشكال روائية مختلفة، هي العنصر الجوهري الأهم في تشكيل الرواية
اللغة ساحرة مغوية تصلح لتمرير الأفكار الرفيعة، وهي ـ في الوقت ذاته ـ ماكرة لعوب يمكن أن تكون وسيلة لتمرير الألاعيب الفارغة، والقارئ الحاذق هو وحده
من يعرف التمييز الذكي بين اللغتين.
يحفل العالم الفيسبوكي، رغم صخبه ومظاهر الرثاثة السائدة فيه بالكثير من المطارحات الفكرية، التي قد يرقى بعضها إلى مصاف الأطروحات الجوهرية؛ وهي إذ تتناول معضلة حقيقية، أو سؤالاً وجودياً وتشبعهما قراءات متباينة ورؤى متنازعة فهي تمتلك فضيلة إزاحة الغطاء ـ الثقيل أحياناً والمسكوت عنه أحياناً أخرى ـ عن موضوعات لربما صارت لدينا في عداد البداهة. إنّ تحريك المياه الراكدة عن الموضوعات الجوهرية فضيلة كبرى، لا تقل أهمية عن السعي الدؤوب وراء الإجابات، التي لا أحسبها ستكون ناجزة أو حاسمة أو متفقاً عليها.
طالعتُ قبل بضعة أيام منشوراً فيسبوكياً تناول موضوع (اللغة الروائية)، وتقصّدتُ التدقيق في كلّ التعليقات التي كتبها الأصدقاء الفيسبوكيون لكاتب المنشور، وكشفت لي هذه التعليقات عن المدى الشاسع للتباين في طريقة الفهم والرؤية لموضوعات قد تبدو يسيرة لنا عند المقاربة العامة، وليست هذه الحقيقة بغريبة أو مستهجنة أو غير متوقعة ؛ فهذا بعض منطق الحقائق التي نعيشُها في عصرنا هذا؛ غير أنّ هذا التسليم بمنطق الاختلاف في جوهر (التذوّق الروائي) يجب بأي حال أن لا يكون مصدّاً لتمرير كل الرؤى والقناعات، التي تجعل رواية ما تحوز موقعاً متفوقاً يتقدّم على ما سواها، خاصة إذا علمنا أنّ مقبولية رواية دون أخرى هي موضوع إشكالية خاضعة لتباينات كبرى في طبيعة التلقّي والتفاعل معها، تبعاً لمؤثرات بيولوجية ونفسية وبيئية، فضلاً عن طبيعة (البروفايل) الشخصي للقارئ.
ما الرواية؟ قد يبدو هذا التساؤل غريباً في هذا الموضع؛ لكن واقع الحال أنّ أغلب المؤلفات التي تتناولُ نظرية الرواية وتأريخها، لم تعد تضعُ في أولوياتها تقديم تعريف مدرسي للرواية، لأن المنظّرين والمؤرخين الروائيين باتوا مقتنعين بأنّ هذا التعريف سيكون عرضة لتغيير حتمي في السنوات القليلة اللاحقة، بسبب الارتباط العضوي بين الرواية، والتسارع المتعاظم للتغيرات الحاصلة في الحياة البشرية، خاصة من جانب التأثير العلمي والتقني، في إعادة تشكيل صورة الفرد والبيئة. كيف يمكن أن نتصوّر مقبولية تعريف للرواية كُتِب في القرن التاسع عشر (أيام شيوع الواقعية التصويرية في الرواية) في عصرنا هذا؟ وهل يصح الأمر مع منتصف القرن الماضي أيضاً؟ الرواية ليست جسماً مشخصاً ذا ملامح محدّدة، يتوجب على الروائي نحتُ مثال له في عمله الروائي حتى يحوز القبول وبطاقة الدخول في نادي أكابر الروائيين.

اللغة ساحرة مغوية تصلح لتمرير الأفكار الرفيعة، وهي ـ في الوقت ذاته ـ ماكرة لعوب يمكن أن تكون وسيلة لتمرير الألاعيب الفارغة، والقارئ الحاذق هو وحده من يعرف التمييز الذكي بين اللغتين.

ثمة إشكالية أخرى: كل تعريف يستوجب إيراد توصيف ذي معايير إجرائية دقيقة لكلّ مفردة تردُ فيه، وهذه ملعبة طويلة متغيرة معقدة لا حدود لمتطلباتها العسيرة.
إذا كانت المصنفات الخاصة بنظرية الرواية لا توردُ تعريفاً محدّداً لها، فهي تقدّمُ في المقابل ما يسمّى (أركان الرواية): الدعائم الأساسية التي يقومُ عليها كلّ هيكل روائي رصين. اللغة ـ بالتأكيد ـ هي واحدة من هذه الدعائم الأساسية. هنا يمكن أن نتساءل: هل اللغة هي العنصر الأهم في الرواية؟ أجيب بطريقة حاسمة: لا، ليست اللغة هي العنصر الأهم، أو لأضع الجواب بصيغة أكثر دقة: باتت القيمة الاعتبارية للغة تتضاءل عمّا كانت عليه في حقبة نشأة الرواية وتطوّرها حتى عصرنا هذا. لنجرّب ـ على سبيل المثال ـ الرجوع لأحد المصادر المرجعية الحديثة في نظرية الرواية، وسأختارُ كتاب (نظرية الرواية Theory of the Novel ( لمؤلفه غيودو مازوني، الذي أصدرته جامعة هارفرد عام 2017، وسنرى أنّ التركيز يتناول موضوعات تختصّ بميكانيكية السرد، التي ترد فيها اللغة باعتبارها عنصراً سردياً، وليست كينونة فاعلة بذاتها، وسنشهدُ في السنوات المقبلة تراجعاً واضحاً لما يسمّى (البلاغة اللغوية)، خاصة عقب ارتقاء تطبيقات الذكاء الاصطناعي، التي ستعمل على إعلاء شأن نمط من اللغة التي يمكن توصيفها بِـ(اللغة الخوارزمية) تلك اللغة التي تعتمدُ تركيبات لغوية بسيطة، من حيث المحتوى النحوي syntactic والدلالي semantic بأعظم ما يمكن لكنها قادرة على تمرير حشد غير مسبوق من الأفكار. الأفكار إذن، التي تأتي في إطار جسم حكائي وتتناول تفصيلات غير مطروقة، أو تمّ تناولها بأشكال روائية مختلفة، هي العنصر الجوهري الأهم في تشكيل الرواية.
لنجرّب أن نتناول الأمر بطريقة اختبارية، تبعاً للمنهجية العلمية السائدة، لنأخذ عيّنة بشرية عشوائية من المتعلّمين (نجتهدُ فقط أن تكون ممثلة لكلّ الأطياف المهنية)، ولنسأل أفراد العيّنة: أي الروايات تحبون؟ سيكون الجواب المتوقّع متوافقاً مع منحني التوزيع الغاوسي Gaussian Distribution الذي يشير إلى نمط التوزيع الطبيعي: ثمة قلة قليلة منهم لم تقرأ أي رواية، وثمّة قلة قليلة أخرى تقرأ روايات متطلبة لكثير من إعمال الفكر والجهد العقلي والنفسي، وما بين هاتين الفئتين ستتوزع البقية الباقية وهي العدد الأكبر بالطبع، وستكون حصيلة مقروءاتهم الروائية بعض ما اختزنته الذاكرة من روايات مدرسية أو سائدة (على شاكلة: البؤساء، أحدب نوتردام، الشيخ والبحر، لمن تقرع الأجراس؟، مرتفعات ويذرنغ…). هذه الفئة هي التي تشكّل الهدف النهائي الذي تستهدفه سوق النشر مثلما يستهدفه الروائيون الذين يسعون لتحقيق أعلى المبيعات، وسيكون من الطبيعي مخاطبتهم بطريقة تحفّز فيهم مخزوناتهم الروائية النوستالجية، عبر اعتماد حكاية عاطفية أو بوليسية، ومن ثمّ تخليق جسم حكائي يعتمد إعلاء منسوب الحبكة البوليسية، وتخفيض منسوب الأفكار التي تتطلب شحذاً للعقل وعنتاً نفسياً ليس باليسير. لنجرّب، للتثبت من مصداقية هذه الفكرة، أن نقارن بين حجوم مبيعات رواية لكاتب مثل دان براون أو ستيفن كينغ أو هاروكي موراكامي مع رواية كتبها إيان ماكيوان أو جوناثان فرانزن أو ريبيكا غولدشتاين، فماذا نتوقع؟ هل سمعتم مرّة أنّ شركة النشر المسوّقة لأحد أعمال ماكيوان، احتجزت فريق المترجمين لأحد أعماله إلى معظم لغات العالم في حصن محمي بأعتى أشكال الحماية المتصورة، خوفاً من أي تسريب غير قانوني للمادة المترجمة غير المنشورة؟ لماذا حصل هذا الأمر وتفوق عمل على شاكلة «شيفرة دافنشي» أو «الأصل» للروائي دان براون، وبمعايير النجاح التجاري، على أعمال ماكيوان، الذي تناول في عمله ما قبل الأخير «آلات مثلي» Machines Like Me موضوع تغوّل تطبيقات الذكاء الاصطناعي؟ القارئ في يومنا هذا صار يسعى إلى قراءة يسيرة تمدّه بالمتعة اللحظوية، وتجعله يعيشُ حلم يقظة ممتداً يبعدهُ عن منغّصات معيشه اليومي، وليس أيسر من تحقيق هذا الأمر بالتعكّز على لغة يسيرة جذابة بعيدة عن مشقة التفكّر في المعضلات الحياتية الوجودية الدائمة، أو ذات الراهنية المستجدة.
أعرفُ أنّ الحديث والتفكّر في شأن الرواية الأكثر استحقاقاً للقراءة من سواها ليس بالأمر اليسير، أو حتى المُجدي لأنّ القارئ سيرتكن إلى ذائقته الشخصية أولاً وآخراً، كما أوقنُ أن معظم القرّاء يبحثُ عن نمط خاص من النشوة التي تتكفل بها كتابات خاصة، وكُتّابٌ مشخّصون بذواتهم (أو كاتباتٌ أيضاً)؛ لكنني أرى الانتباه إلى الملاحظات التالية أمراً في عداد الضرورات القصوى، لكي لا ينخدع القارئ بالموضات الروائية الصاخبة :
ـ الرواية الرصينة تهتم بالأفكار لابالألاعيب اللغوية: إن واحداً من أهم تمظهرات غلبة تقاليد المرويات الشفاهية على ثقافتنا هو الاهتمام المفرط بلغة الحكي عوضاً عن المادة المحكية؛ إذ صار المطلوب من اللغة أن تختزن شحنة انفعالية حسية قادرة على الإمساك بالاستجابات الغرائزية لدى المتلقّي، عوضاً عن مساءلة أفكاره بهدوء وشغف. يحتاج الروائي العربي (وربما أكثر من سواه) إلى إزاحة أيّ زوائد، أو حذلقات لغوية من روايته، خاصة في لغة مثل لغتنا العربية، التي يسهل الانزلاق معها في مصيدة الألاعيب اللغوية المفرطة والتلذذ الهوسيّ (العصابي) فيها (تراكيب لغوية تنطوي على ثنائيات متضادة متقابلة مثل: شهْوَنَة العقل/ عقلنة الشهوة).

أن الكثير من المستحدثات السردية ما بعد الحداثية، التي طالت الرواية بدأت تتراجع وتخلي الساحة للتقنيات التي طبعت عصر الحداثة الروائية، وتبنت ميلاً واضحاً نحو الموضوعات الوجودية الكبرى؛ إنما في إطار رؤية فردانية، وليس في سياق كليّ شمولي مثلما فعلت السرديات الكبرى لعصر الكلاسيكيات الروائية.

اللغة ساحرة مغوية تصلح لتمرير الأفكار الرفيعة، وهي ـ في الوقت ذاته ـ ماكرة لعوب يمكن أن تكون وسيلة لتمرير الألاعيب الفارغة، والقارئ الحاذق هو وحده من يعرف التمييز الذكي بين اللغتين.
– الرواية وهَوَس المستحدثات السردية: هناك رغبة – لاواعية معظم الأحيان – لدى بعض الروائيين في توظيف الأشكال السردية المستحدثة في متن أعمالهم الروائية، وتظهر هذه الرغبة غالباً في هيئة اندفاع قسري لاستخدام تلك الأنماط السردية تحت لافتات الجدّة والحداثة؛ غير أن المعيار الحاسم لتقييم الرواية لدى الروائي والقارئ في كل زمان ومكان يتمثل بأن العمل الروائي ليس لعبة شكلانية أو إيهامية بل هو جهد مدروس، اعتمد أدواتٍ وأساليب جعلت منه عملاً جديراً بجهد كتابته وقراءته؛ فينبغي أن لا ينساق القراء عديمو الخبرة مسحورين وراء موجة الإطراءات والتعظيم، التي تعج بها مواقع مراجعات الكتب العالمية وعروضها؛ إذ ليس هناك ما هو أفضل من ذائقة القارئ الرصين، الذي يعرف ما يريد من الكتاب ويتوفر في الوقت ذاته على قدر مقبول من الخلفية الثقافية، التي تغذيها متحسّساته الشخصية وتطلعاته واهتماماته وأخلاقياته، وخبرته الواقعية ورؤاه الميتافيزيقية.
أود الإشارة في هذا السياق إلى بعض الموجات الروائية الموصوفة بما بعد الحداثية ( وربما ما بعد بعد الحداثية المتقنعة برداء الفصاحة الجديدة) – تلك الموجات التي تسعى لجعل السرد الروائي قائماً على نصّ مستل من قاع المجتمعات البشرية ولغتها الفجة وتعابيرها السوقية مسنوداً برؤية ديستوبية حالكة القتامة، وتوظُف هذه النصوص في العادة لغة خشنة تجري على ألسنة الشخصيات المهمومة بمتطلبات الحياة البيولوجية والغرائزية في أدنى أشكالها، وغالباً ما يعمد الكاتب إلى استخدام لغة مستهزئة – أو غير عابئة في أحسن الأحوال – بالتراكمات الثقافية والفلسفية، واعتبارها انشغالات متعالية على الهمّ الفردي اليومي ومُفارقةٍ له بالضرورة، ويتمظهر هذا المسعى في توظيف مفردات القبح والبذاءة، وكل ما يشيع في قاع المجتمع ودهاليزه المعتمة.
يبدو لي- عبر متابعتي للإصدارات الروائية العالمية الجديدة – أن الكثير من المستحدثات السردية ما بعد الحداثية، التي طالت الرواية بدأت تتراجع وتخلي الساحة للتقنيات التي طبعت عصر الحداثة الروائية، وتبنت ميلاً واضحاً نحو الموضوعات الوجودية الكبرى؛ إنما في إطار رؤية فردانية، وليس في سياق كليّ شمولي مثلما فعلت السرديات الكبرى لعصر الكلاسيكيات الروائية، وليس غريباً أن يتزامن هذا الأمر مع خفوت النظريات السردية الكبرى، التي شاعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي صبّت جلّ اهتمامها على البنى اللغوية، ويخيل إليّ أن هذا الأمر سيتعزّز في السنوات المقبلة بوتيرة أسرع بكثير ممّا نلمسه الآن، وقد نشهد مع تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي عودةً – أشبه بالتوق المضني – إلى توظيف الكلاسيكيات الأدبية، مع مراعاة أن لا تبدو الشخوص الروائية كآلهة متعالية على البشر، بل متماهية مع الكائنات البشرية التي ستغرق في ثقب رقمي أسود هائل، لا يمكننا اليوم التنبؤ بمدياته ومفاعيل مؤثراته.
– الرواية واعتماد اللغة الصحافية: ثمة نمط من التبشير المحموم في السنوات القليلة الأخيرة، بنمط من الكتابة الروائية الأقرب إلى جنس الكتابة الصحافية بخصائصها المعروفة: الجمل القصيرة المتلاحقة التي تعبّر عن مشهديات بصرية من جزئيات وقائع المعيش اليومي، وقد تعزّز هذا الميل بطريقة مرضية عقب حصول الروسية سفيتلانا أليكسييفتش بجائزة نوبل عام 2015. تعاظم هذا التوجّه لدينا بشكل مستكره عندما راحت الروايات (الصحافية) تترى بشكل محموم طلباً لجوائز الرواية العربية، التي تكاثرت وصارت عاملاً لتكريس هذا اللون من الكتابة الروائية.
الوصفة سهلة يسيرة وأقرب إلى خوارزمية تحضير طعــام ما: انتخب واقعة (أو مجموعة وقائع ) من التأريخ، ثم شكّلها في سياق محكية حوارية تعتمد لغة صحافية ميسّرة قادرة على اجتذاب القرّاء الذين يعيشون نوستالجيا قراءاتهم الغابرة أيام شبابهم، ولا بأس من تطعيمها بالكثير من اللغة العامية قدر ما تستطيع، وأحرص على تضمينها بعض المفردات (الخشنة أو البذيئة)، حينها ستتوجُك الكثرة الكاثرة من القرّاء ـ ومنهم أكاديميون معروفون ـ روائياً مقتدراً ومستحقاً لأعظم الجوائز الروائية وأدسمها، وسيطوّبك أعضاء لجان التحكيم في الروايات العربية روائياً يستحق الشهرة وما تأتي به من مزايا اعتبارية ومالية.

القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم