سيدي محمَّد بن مالك

       تأسيسًا على مقولة التّشاكُل/ التّبايُن التي يتضمَّنها مفهوم ما وراء التّخييلla transfictionnalité، بوصفه "الظّاهرة التي، من خلالها، يرتبط، معًا، نصّان، على الأقلّ، للكاتب نفسه أو لا، في التّخييل ذاته، سواء بتكرار الشّخصيات، وتمديد حبكة سابقة، أو تشارُك الكوْن التّخييلي"([1])، تتقاطَع رواية "مورسو؛ تحقيق مُضاد" لكمال داود مع رواية "الغريب" لألبير كامو؛ فمن منظور تلك المقولة، تستحضر رواية الكاتب الجزائري بعض شخصيات النّص الأصلي، وهي الشّخصية الرّئيسة مورسو وأمّه وسلامانو ورايمون وماري والكاهن والعربيّ وصديقه، وتستوحي بيئته التّخييلية، التي تتمثَّل في المكان الجغرافي ذي السّمة المرجعيَّة (مدينة الجزائر وبلدة مرِنغو marengo أو حجّوط)، والمكان المفتوح (الشّاطئ)، والمكان المغلَق (السّجن)، والزّمن العامّ الذي يقع فيه حدث قتْل مورسو للعربيّ، وهو صيف 1942 (وهو، في الواقع، زمن الإبداع، أو الزّمن الذي نُشِرَت فيه رواية "الغريب"، وليس زمن الحدث الحكائي الذي لا يذكره مورسو)، والزّمن الخاصّ أو التّوقيت الذي يرتكب فيه مورسو فعل القتْل، وهو الثّانية ظهرًا.  

       وإلى جانب استلهام النّص الثّاني بعضًا من حكاية النّص الأوّل، والذي يتمثَّل في الشّخصيات، خاصّةً منها المؤثِّرة والفاعِلة، مثل مورسو، وجريمة القتْل، باعتبارها نواة الحكاية وبؤرتها، وتقاسُمه شيئًا من الكوْن التّخييلي معه، نظيرَ المكان والزّمن، تحذو رواية "مورسو؛ تحقيق مُضاد"، على مستوى الخطاب، حذْو رواية "الغريب" في اعتماد التّبئير الدّاخلي الثّابت الذي يُقدِّم الرّاوي السيرذاتي، من خلاله، الأعمال والأخبار، حيث تُهيْمِن وجهة نظر هارون شقيق موسى "العربيّ" (وانتقاءُ هذيْن الاسميْن يُلْمِحُ إلى وجود علاقة بين نصّ كمال داود، بوصفه نصًّا لاحقًا، والنّص الدّيني، باعتباره نصًّا سابقًا) في النّص المحاكي، ومورسو في النّص المحاكى، وهي وجهة نظر تقوم على جملةٍ من التأمُّلات والخواطِر التي تعْتلج في صدريْهما، وتحثُّهما على مُمارَسة التّحليل الذّاتي الذي يُصيِّر حكايتيْهما محكيَّ أفكارٍ يركَن إلى خطاب داخلي مُسرَّد أو مرويّ([2])؛ فباستثناء حدث الجريمة، الذي يُمثِّل فعلًا مركزيًّا في الحكايتيْن، تنْساب أفكار الرّاوييْن السّيرذاتييْن وآراؤهما في موضوعات الحياة والموت والعبث والحب، التي تُحفِّز إليها، تارةً، أقوال الشّخصيات وحواراتها، التي يضطلع الرّاويان، في كثيرٍ من الأحيان، بإعادة صياغتها سرديًّا (وهنا، نكون، مرّةً أخرى، أمام خطاب مُسرَّد أو مرويّ، ولكنّ موضوعَه الأقوالُ)، وتبعث عليها، تارةً أخرى، نظرتهما الشّخصية للعالَم، لتُشكِّل تلك الأفكار والآراء، بذلك، محور التّخييليْن.

       غير أنّ نصّ "مورسو؛ تحقيق مُضاد" لا يكتفي بارتحال بعض المعطيات الحكائيَّة من نصّ "الغريب" إلى حكايته، وانتقال بعض المكوِّنات الخطابية من ذلك النّص إلى خطابه، إنّما يعمد، في الوقت عينه، إلى تعديل تلك المعطيات والمكوِّنات بما يعكس هويَّة كمال داود ويُحقِّق سلطته التّخييلية، حتّى وإنْ جرى تقليد اللُّغة التي كُتِبَت بها الرّواية الأصلية، وهي اللّغة الفرنسية، واقتباس citation بعض مَقاطِعها، مثل تلك الجملة – الأُمنية التي يختم بها مورسو حكايته قائلًا: "لم يبق لي سوى الأمل في أن يكون هنالك الكثير من المشاهدين يوم إعدامي، وأن يستقبلوني بهتافات الكراهيَّة"([3]).

       لقد سعى كمال داود إلى تغيير عناصر نصّ "الغريب" التي استثْمرها في مُحاكاته له، مُعارِضًا طريقةَ ألبير كامو في بناء الحكاية ورؤيتَه للعالَم على وجه الخصوص؛ فقد انصرف إلى تمديد الحبكة التي تقوم عليها رواية "الغريب" (والحبكة يُراد بها، في هذا المقام، الطّريقة التي تُنْسَج بها الحكاية عند الشّكلانيّين، وقد يدنو مفهومُها ذاك، نوعًا ما، من تصوُّر مصطلح الخطاب عند البنيويّين)، مُقابِلًا بين شخصيات حكاية النّص اللّاحق وشخصيات حكاية النّص السّابق (هارون – موسى باعتبارهما ثنائيًا / مورسو، وأمّ موسى / أمّ مورسو، ومِريم / ماري، والإمام / الكاهن)، وبين الحدث المركزيّ في حكاية النّص اللّاحق والحدث الجوهريّ في حكاية النّص السّابق (قتْل هارون لجوزيف لاركيه / قتْل مورسو للعربيّ)، وبين عدد طلقات المسدّس التي يقذفها القاتل في حكاية النّص اللّاحق وعدد طلقات المسدّس التي يقذفها القاتل في حكاية النّص السّابق (طلقتان اثنتان / خمس طلقات)، وبين المكان الذي يحتضن حدث القتْل في حكاية النّص اللّاحق والمكان الذي يجري فيه حدث القتْل في حكاية النّص السّابق (شاطئٌ في مدينة الجزائر / مستودعٌ موجودٌ في المنزل الذي يأوي إليه هارون وأمّه في بلدة حجّوط)، وبين الزّمن العامّ الذي يقع فيه حدث القتْل في حكاية النّص اللّاحق والزّمن العامّ الذي يقع فيه حدث القتْل في حكاية النّص السّابق (صيف 1942 / صيف 1962)، وبين توقيت الحدث في حكاية النّص اللّاحق وتوقيته في حكاية النّص السّابق (الثّانية صباحًا / الثّانية ظهرًا)، وبين الدّافع إلى اقتراف فعل القتْل في حكاية النّص اللّاحق والباعث على ارتكابه في حكاية النّص السّابق (الانتقام / الصّدفة)، وبين تبرير فعل القتْل في حكاية النّص اللّاحق وتبريره في حكاية النّص السّابق (استعادة حقّ / ضرْبة شمْس)، وبين سلوك القاتل في حكاية النّص اللّاحق وسلوكه في حكاية النّص السّابق (الارتباك والتّردُّد / الصّراحة والوضوح).

       وتحيل هذه التّقابُلات التي يتشكَّل، على أساسها، تخييلُ "مورسو؛ تحقيق مُضاد" ما بعد الكولونيالي إلى رغبة كمال داود في مُعارَضة المنطق الذي يقوم عليه تخييلُ "الغريب" الكولونيالي؛ ذلك المنطق الذي يضرب صفْحًا، حكائيًا وخطابيًا وتلفُّظيًا (أيْ سرديًا)، عن هويَّة "العربيّ"؛ فيغْفَل تحديد كيْنونته، من اسم وملامح وصفات، ويتجاهل أفعاله، سوى أنّه يتشاجَر مع رايمون عشيق أخته، ويظلّ يُلاحِقه بعْد أنْ يعتدي عليها بالضّرب، ويهمل مسار حكايته الذي يُفترَض أنّه يُناقِض مسار حكاية مورسو قبل أن يتشابَك المساران لحظة وقوع حدث القتْل، ويحرمه من سرْد ذلك المسار انطلاقًا من رؤية سرديَّة ذاتية تُسْعِفه في إظْهار موقفه من الأحداث ونظرته للوجود. من أجل ذلك، يُحاوِل الكاتب الجزائريّ توسيع حبكة رواية "الغريب"، بالإعْراب عمّا سكت عنه نصُّ ألبير كامو وأضْمره تخييلُه، وإحْلال منطق آخر محلّ منطق التّخييل السّابق، يُنْصِف "العربيّ"، من خلال منحه كيْنونة تليق ببطولته التي غيَّبتها بطولة مورسو "العبثيَّة" (وتلك كانت رؤية ألبير كامو للعالَم) وحضوره المهيْمِن على صعيد الحدث وروايته، ويثْأر لموته الذي لم يلتفت إليه لا مورسو ولا جلسات التّحقيق معه ولا مُحاكَمته ولا الصّحافة التي واكَبت القضية (وذلك موقفٌ ينمّ عن الاحتقار الذي تُعامِل به الأنا – المركزيَّة الغربيَّة التي يُمثِّلها الرّجل الأبيض الآخرَ – الهامشَ الذي يُمثِّله العربيّ). ومن ثمّ، فقد أراد كمال داود "إعادة كتابة هذه القصّة، باللّغة نفسها، لكنْ من اليمين إلى اليسار"([4]).   


([1]) Richard Saint – Gelais: «fictions transfuges; la transfictionnalité et ses enjeux», seuil, paris, 2011, p 7.

([2]) Gérard Genette : «Figures III», Seuil, Paris, 1972, p 191.

([3]) كمال داود: "مُعارَضة الغريب"، ترجمة: ماريّا الدويهي، جان هاشم، دار البرزخ، الجزائر، دار الجديد، لبنان، ط. 1، 2015، ص 174. والعنوان الأصليّ للرّواية هو "meursault; contre – enquête".

([4]) الرّواية، ص 14.

 المركز الجامعي مغنيَّة – الجزائر

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم