عواد علي

إذا تأملنا مشهد نشر الروايات من الخارج، سنجد الكثير من الأرقام الإيجابية، أبرزها تزايد نسبة الكتاب الشباب، بل ووصول نشر الروايات حد الهوس بالنسبة إلى بعضهم. لكن نظرة، ولو سريعة على دواخل هذا المشهد، ستكشف لنا ما خلفه الهوس من نمطية وسطحية، قصص حب تقليدية، تكرار أماكن وشخصيات غربية وغيرها من الظواهر.

يلحظ المتابع للمشهد الثقافي في جغرافيات عربية عديدة ازدياد “هوس” الجيل الشاب بكتابة الرواية، خلال العقد الأخير، وانحسار اهتمامه بكتابة أشكال أدبية أخرى كالشعر والمسرحية، والقصة القصيرة إلى حد ما.

ومن بين أبرز أسباب هذه الظاهرة، التي تكاد تكون عدوى، اعتقاد هذا الجيل بأن الرواية غدت الفسحة المناسبة له للتعبير عن مكنوناته، وتحولت إلى “فعل حرية تتناسب عكسيا، أو تأتي ردة فعل على حياتنا المحافظة والمنغلقة على نفسها”، حسب تعبير الروائية الفلسطينية ليانة بدر، وإن كانت الأشكال الأخرى تؤدي الدور نفسه لكن بنسب متفاوتة.

وكذلك هناك إغراءات المسابقات والجوائز التي تمنحها بعض المؤسسات الثقافية العربية للرواية، مثل جائزة البوكر، وكتارا، والشيخ زايد، والشارقة، ونجيب محفوظ (الجامعة الأميركية في القاهرة)، والطيب صالح في السودان، وغيرها، وإقبال العديد من دور النشر على نشر النتاج الروائي لدوافع مختلفة.

وقد استطعت أن أرصد في الأردن فقط، حيث أقيم، أكثر من 40 رواية صدرت لكاتبات وكتّاب شبّان خلال السنوات الثلاث الأخيرة، معظمها باكورة الإنتاج الأدبي لأصحابها، منها رواية “كان.. يكن.. لتكن” لهديل نمير الرياحنة، “وتأويله الشغف” لآلاء القطيشات، “أفكار مجنونة وعقول مسلوبة” لحلا غازي الشواورة، “ابنة المطر” لحنين جمال أبوصبيح، “الثالث عشر من أيلول” لصلاح الدين فاتح، “كن خائنا تكون أجمل” لعبدالرحمن مروان حمدان، “مانشيت” للواحظ بشناق، “لطفي الهارب” لهبة فراش، “عصا نبي ضالة” للين سرسك، “يا ليته يعلم” لراما الرمحي، “على الهاوية التقينا” لضحى القضاة، “عشّاق من زمن غابر” لمحمد النجار، و”نجوى” لمصطفى أبورمّان. وسأكتفي في الأسطر الآتية بالوقوف على الروايات الأربع الأخيرة، كعينة من بين الروايات التي اطلعت عليها.

قصص الحب

الحب الحقيقي يقتضي التضحية
الحب الحقيقي يقتضي التضحية

تخوض رواية “يا ليته يعلم” في علاقة حب عذري بين طالبة سورية مهاجرة وطالب عراقي يدرسان في جامعة أردنية. تظل مشاعر الحب العارمة في قلب كل منهما تجاه الآخر حبيسة بعض الوقت، ويتعرف القارئ على تلك المشاعر من خلال تناوب الشخصيتين البوح، لكنّ ما يعيق اعتراف أحدهما للآخر بها هو المكابرة من طرف الفتاة الملتزمة دينيا، والمحافظة اجتماعيا بعض الشيء، والخجل من طرف الشاب.

إلا أن مشاعر الحب المتأججة عند الشابين ما تلبث أن تتفجر، وتفرض على كل منهما تجاوز العقبات التي كانت تحول دون اقتراب أحدهما من الآخر، وذلك عندما تجمعهما صدفة رحلة علمية مشتركة إلى دولة أجنبية، تجعلهما يتواصلان مع بعضهما بشكل مباشر، وتنفضح مشاعر الحب بينهما من خلال سلوكهما، واهتمام أحدهما بالآخر، ويتجلى على شكل تضحيات تقدمها الفتاة، خاصة عندما تجد الشاب يعاني من أزمة نفسية، تكاد تحول دون تخرجه من الجامعة، بسبب عدم تقديمه التقرير، أو البحث الذي يتوقف عليه تخرجه، فتكتبه هي بدلا منه وتقدّمه من دون علمه، فيحصل به على علامة أعلى من علامتها. وتنتهي الرواية، على خلاف علاقة الحب العذري، بزواج المحبين. وبذلك أرادت الكاتبة راما الرمحي إيصال رسالة مفادها أن الحب الحقيقي يقتضي التضحية.

الرواية مكتوبة بضمير المتكلم تارة وبضمير المخاطب تارة أخرى، وفي كلا الصيغتين تستخدم عبارات قصيرة متواترة، مفعمة بفيض المشاعر، لكن شخصيتيهما تعيشان وكأنهما قادمتان من بلدين لا تعكر صفوهما كوارث الحرب والدمار والنزوح والصراعات السياسية الدائرة فيهما، وإذا ما تطرقتا إلى المصاعب التي تحيط بهما فإنما باقتضاب شديد يلمس الجانب الإنساني في المآسي التي تسببها الحرب، دون الخوض في أسبابها وأحوالها وانعكاساتها ومآلاتها.

وتدور رواية “عشاق من زمن غابر” حول شاب فلسطيني اسمه محمود، من مخيم قرب مدينة رام الله، يغادر إلى هنغاريا لإكمال دراسته الجامعية في الهندسة الميكانيكية، وكانت أسرته قد هُجِّرت، بعد نكسة حزيران، من غزة إلى ذلك المخيم.

حكايات الناس
حكايات الناس

وفي هنغاريا يلتقي صدفة بفتاة من أهل البلد، فتجمعهما علاقة عاطفية فريدة من نوعها، تشكّل محور الرواية الذي تتفرع عنه بقية مساراتها. لكن الحبيبين يواجهان مشاكل مع الحكومة الهنغارية، الأمر الذي يعيق إتمام زواجهما، وبعد نضال مرير ينجحان في تحقيق حلمهما. وحين يعود محمود بمفرده إلى رام الله تبدأ رحلة عذاب الزوجة وابنتها من أجل الحصول على تأشيرة للحاق به، إذ ترفض حكومة الاحتلال الإسرائيلي منحها التأشيرة، لكون زوجها فلسطينيا، وتستمر في محاولاتها مدة عامين إلى أن تتمكن من الحصول على تأشيرة سياحية، وتلتحق به أخيرا وتنجب منه طفلة ثانية.

وخلال ذلك يُعتقل محمود مرات عديدة، غير أنه يقرر بعد خروجه من معتقله الأخير، وتوقيع اتفاق أوسلو مغادرة فلسطين للإقامة في بلد زوجته، نتيجة لإحساسه بفساد كل شيء، وعدم وجود مكان لمثله هناك، لكن المشاكل تعاوده في هنغاريا، ويعيش هو وأسرته أحداثا في غاية الإثارة، وما إن تبدأ الحياة بالابتسام لهم، في مرحلة معينة، حتى تدهمهم المعاناة والألم مرة أخرى.

وتتناول رواية “نجوى” تفاصيل سنة دراسية عاشها شاب أردني في التاسعة عشر من عمره، يُدعى ليث، في مصر، أراد أن يرفع معدّل شهادته الثانوية، اعتقادا من والده، شيخ القبيلة، أنه يستطيع تحقيق ذلك في مصر. وهناك خاض مغامرات وأحداثا حاولت الرواية أن تصورها وتتابع تلاطم أمواجها. فقد أحب فتاة جميلة اسمها نجوى تسكن في شقة تقابل شرفتها شرفة شقته في حي الزقازيق، تحلم بالانعتاق من مرجان الذي تزوجته أمها بعد حملها بها من طالب عراقي كان معها في الجامعة، وتركها بعد التخرج تدبّر وحدها أمور حملها. وقد جعل الروائي هذه الفتاة بؤرة مركزية للرواية، وصورها حلما ضائعا، وروحا ثائرة تشكلّت وفق ثنائيات ضدية، ونموذجا لمستقبل نازف.

وتتخلل الرواية، إلى جانب قصة ليث ونجوى، قصص حب وحكايات ناس وطلاب من شرائح اجتماعية فقيرة ومرفهة: مدير المدرسة، المعلمون، الآذن صاحب البقالة، أصدقاء الغربة، جماعة عزبة الحريري الذين كانوا أول من استقبله لأن شقيقهم يعمل مع والده في الأردن.

التراجيديا والواقع

سرد تراجيدي
سرد تراجيدي 

يشي عنوان رواية “على الهاوية التقينا” لضحى القضاة بالنهايات المأساوية التي يكون معها البطل عارفا خاتمته، ويكون اللقاء مقدمة للفراق، كما أنه يشير إلى التضاد الدلالي بين فرحة اللقاء المفترضة، والخوف من السقوط المتوقع في الهاوية.

تسرد الرواية حادثة موت شقيقة البطل “دانيال” في عيد ميلادها الرابع، وهي الحادثة التي تنعكس على حياته، وحياة والدته الدكتورة “سارة”، المرأة الطيبة التي تعاني من فقد ابنتها الصغيرة، ويكتشف أنه ابنها بالتبني، وزوجها الثري المستهتر الذي يحمل في داخله بقعة سوداء رغم أنه يثابر وينجح في حياته العملية.

وحينما يتعرض “دانيال” لاختبار الحب مع “ناي” ابنة صاحب الشركة يستعيد واقعه، وتتداعى الذاكرة بالأحداث لترجعه إلى العتبة الأولى التي لم تفارقه، وهي أنه لقيط، فيموت الحب في مهده عند أول لحظة. وتقول بطلة الرواية “ناي” أن لقاءهما كان على منحدر هاوية.

تتحرك أحداث الرواية في فضاءات اجتماعية متنوعة، بين أسرة “دانيال” ووالدته “الدكتورة سارة”، وإهمال زوجها لها، وأسرة “سعيد” والد “ناي”، وهي أسرة أرستقراطية منسجمة مع ذاتها، و”مريم” المرأة الفقيرة التي تعمل موظفة بسيطة في شركة “دانيال” الصارم، لكنه في الوقت نفسه لا يتردد في مساعدة المحتاج.

وتجري هذه الأحداث في زمنين متوازيين، بين عامي 1995 و2015، مبتدئة بحكاية الطفلة الصغيرة “ريتا” في جو من الفرح للاحتفال بعيد ميلادها، ثم مأساة موتها، وتعود لسرد أحداث تتعلق بشخصية “دانيال” الذي نكتشف أنه تسبب في موتها دون قصد، ويبقى يعاني من عذاب الضمير طوال حياته، إلاّ أنه لا يتأخر في التبرع بكليته لـ”آدم” ابن العاملة “مريم” الذي تعرض لحادث سير.

تندرج الرواية في سياق السرد التراجيدي الذي تتطور فيه الأحداث إلى نهايات مأساوية مؤلمة، لكنها في الوقت نفسه ذات بعد واقعي تشير إلى قسوة الحياة التي يأتي إليها المرء دون أن يمتلك الخيار، فيبقى مسيطرا عليه حتى الممات، رغم أن أبطال الرواية لا يذعنون لأقدارهم، بل يكابدون بحثا عن احتمالات أخرى تجدد الحياة، وتمنحها معاني إنسانية.

إن أغلب هذه الروايات ينحو منحى رومانسيا مائعا أو تقليديا، ويعوزه الإتقان والإحكام من الناحية الفنية، بل يتسم بضعف مكونات بنيته السردية، من حبكة وشخصيات وحوار ومنظور سردي، وما يتصل بها من تقنيات، وركاكة في الأسلوب، ما يدعو إلى السؤال عن أحقية انتمائه إلى الفن الروائي!

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم