لونيس بن علي

تساؤل خاص:

كان عليّ أن أقرأ كِتاب ( حليب أسود ) للروائية التركية ( أليف شافاق ) من زاوية مُغايرة، أقصد ليس من وجهة نظر ( الأمومة ) الذي هو موضوعه المركزي، بل من وجهة نظر (الأبوة)، التي تعنيني كأب لطفلين، عايش هو الآخر جانباً من تلك الأسئلة التي طرحتها شافاق بوصفها كاتبة – أم.

هل يعني هذا أنّ مستويات القراءة سيحددها الموقعان ( أم / أب )؟ بمعنى آخر: كيف هي علاقتي ككاتب  وأب مع الكتابة؟

أكيد أني سأحتاج إلى تأليف كتاب آخر أتحدث فيه عن تجربتي، وأتصوّر أنّ عنوانه على الأقل لن يكون ( حليب أسود )؛ فالكاتبة كانت ترمز إلى علاقة الحِبر الأسود بحليب الرضاعة، فدمجت بينهما، كما لو أنّ الحبر هو أيضا حليب يغذي كائناتها التخييلية.

قد تختلف التجربتان ( تجربة الأمومة وتجربة الأبوة ) في بعديهما البيولوجي، وحتى الاجتماعي، لكنّهما تشتركان في طبيعة الأسئلة التي يُمكن أن تُطرح:

ما معنى أن أكون أبا؟ هل وصول الأطفال سيهدد علاقتي بالكتابة؟ هي نفسها الأسئلة التي طرحتها أليف لكن من زاوية كونها أمّا.

هل الأمومة خطر على الكتابة؟

لقد عبّرت صاحبة ( لقيطة أسطنبول ) عن القلق الذي عاشته قبل زواجها ( كانت قررت أصلا أن تشطّب على لفظة " الزواج " في وعيها ) وأثناء حملها، وبعد ولادة ابنيها. ومصدر هذا القلق هو الكتابة. فهي لا تتخيّل نفسها بدون كتابة. وبلغ بها الأمر إلى درجة الانشطار إلى ذوات متعددة داخلها أطلقت عليها اسم ( نسوة الأصابع): بلو بيلي بوفاري، ماما الرّز بالحليب، جناب التشيخوفية الطموح، الآنسة المثقفة الساخرة، السيدة الدرويشية، الآنسة العملية القصيرة... فكان النقاش مُحتدما بين هذه الذوات الداخلية حول هذه المسألة بالذات.

مداخل لقراءة الكتاب:

أقترح أنّ أفضل طريقة لقراءة هذا الكتاب هو هذه المداخل الثلاثة:

أولا،

يُمكن قراءته بوصفه نصاً سيريا يُغطي مرحلة حاسمة من حياة الروائية، وما كان يلفها من جو متخم بالقلق والارتياب؛ فنحن أمام كتابة سير ذاتية امتلكت عناصر وخصائص هذا النوع من الكتابة ( شذرات من طفولتها، أسرتها، تربيتها، تكوينها العلمي والأدبي، لقائها بزوجها، تجربة الحمل ثم الولادة...إلخ ) فكانت فرصة لتسليط الضوء على حياة أليف التي بدت معقدة أو تميل إلى اختيار الطرق الأكثر تطرفا، بدءا من تغيير لقبها، وتبني لقب والدتها ( شافاق ).

ثانيا،

يُمكن قراءته بوصفه نصا أدبيا تخييليا، بحضور كائنات تخييلية ( نسوة الأصابع، الجني )، وقد حضرت هذه الكائنات لتعبّر عن الصراع الداخلي الذي عاشته الروائية، فكانت أقرب إلى شخصيات مفهومية، كل شخصية تعكس بُعدا من الأبعاد النفسية للروائية.

ثالثا،

يُمكن قراءته في بُعده النقدي، فلقد خصّص الكتابُ مساحة للتعريف بتجارب أدبية نسائية خاضت، كلّ وخصائصها، في جدل الأمومة و الكتابة. وأعتبر شخصيا هذه الصفحات الأكثر إمتاعا لأنّها استعرضت تجارب أدبية من ثقافات مختلفة، لكاتبات فشلن في العثور على التوازن الضروري بين الأمومة والكتابة.

 تحدثت شافاق عن تجربة صوفيا أندريفنايرس زوجة تولستوي التي كانت أما لعدد كبير من الأطفال، وفوق ذلك كانت تساعد زوجها في إعادة تسويد مسودات رواياته، لتنتهي العلاقة بينهما بالكره، والاضطراب وانعدام الثقة. كما تحدثت عن تجربة الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث التي انتحرت لما صارت الكتابة غير ممكنة تحت ضغط الحياة الأسرية. كما أنها كتبت عن التجربة المثيرة لزيلدا زوجة صاحب رواية ( غاتسبي العظيم ) سكوت فيتزجيرالد، وما شبّ بينهما من حب مركّب ومعقد، اجتمعت فيه جميع العواطف المتناقضة، حتى أن زيلدا قد كتبت عن زوجها الروائي الذي سرق من يومياتها بعض الأحداث، لتجدها مبثوثة في روايته ( غاتسبي العظيم ): (( أظنّ أنّ السيد فيتزجيرالد (...) يعتقد بأنّ على السرقات الأدبية أن تبدأ من البيت أولا )) ( ص203) وانتهت حياتها في مصحة للأمراض العقلية، قبل أن تأكل النيران جسدها في الحريق الذي أتى بالمصحة. ومن بين ما قالته زيلدا: (( مهما كان الذي جرى، أعرفُ من داخل قلبي أنّ الحياة لعبة قذرة وبلا رب، أنّ الحب مر، ولاشيء فيه غير المرارة، وأما ما يبقى عداه فهو ما يجنبه متسولو العواطف على هذه الأرض)) ( ص 206)

وكما قلنا في مدخل هذا المقال، أنّ الكتاب طرح عدة أسئلة مهمة من بينها: هل الأمومة تجربة طبيعية أم هي تجربة ثقافية؟ فهذا السؤال هو تحوير لسؤال ما فتيء يتكرر في الأدبيات النسوية : هل الأنوثة جوهر طبيعي أم مكسب ثقافي؟

تقول شافاق: (( عندما يبدو كل شيء مثقلا بالميراث الثقافي، كيف لي أن أعرف ما إذا كان ما أشعر به وأفكر فيه طبيعيا؟ ومن قال إنه ليس إملاء مفروضا عليّ من الوسط الذي أعيش فيه؟ )) ( ص 199)

ما قامت به شافاق أنها أشكلت الأمومة وحولتها إلى عتبة للحديث عن واقع المرأة الكاتبة، والتحديات التي تفرضها الأمومة. فإذا عدنا إلى أساسيات النزعة النسوية نجد أنها ترتكز على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وبذلك من حق المرأة أن تمتلك جسدها، وتقرر هي ما تفعل به. وهذه الأفكار جرّت بعض النسويات إلى معاداة المؤسسة الأسرية، ورفض فكرة الزواج ذاتها، لأنها في نظرهن تمثل قيدا اجتماعيا ينتهي دائما بتنازلات قاسية. وبالعودة إلى التجارب التي تحدثت عنها إليف شافاق فأغلبها انتهت نهايات مأساوية.

  • ناقد من الجزائر

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم