رامي أبو شهاب

يقول والتر بنيامين: إن مهمة المترجم تقوم على الإفراج بلغته الخاصة عن اللغة النقية، التي تقع ضمن مجال سحر لغة أخرى، فتحرير اللغة المسجونة في نص ما يجب أن يتحقق عبر إعادة إنشاء واعية، ومن هنا ينظر إلى الترجمة على أنها من أصعب المهمات كونها تقع بين عدة مجالات تتصل بالمعرفة، والبحث والتدقيق، بيد أنها تحتاج إلى الكثير من الموهبة.
يمكن القول إن الترجمة، على الرغم من بعدها العلمي، وحاجتها لزاد معرفي عميق في كلا اللغتين، إلا أنها تعدّ فناً. ولعل هذا الفن يتصل بالقدرة على امتلاك حساسية عالية تجاه النصوص، بحيث يتخطى المعرفة القائمة عن مراكمة اللغة ومعانيها، والتبحر في شؤونها، أو تراكيبها، إنما ينبغي توفر القدرة على أن يكون المترجم قارئا حذقاً للعمل المترجم، عبر ما يمتلكه من رهافة الحس المتصل بالقيم الجمالية والموضوعية، التي ينطوي عليها النص عامة، أو الرواية خاصة، وبمعنى آخر يجب الانطلاق من شغف عميق، كما القدرة على تتبع تكوين الحبكة، ووعي الشخصيات، والنماذج السردية، وانسيابية الوصف، وتوتر الحوار، كما عكس روح البهجة، أو ربما الألم لدى الشخصيات، وفي مجمل التجليات السردية.
وإذا كان السرد في المقام الأول لغة، فإن هذه اللغة لا تعدّ عاملاً منفصلا عن الوعي السردي، إنما اللغة معنية ـ حقيقة – بتفعيل مجموعة من الأفكار، والمشاعر والأحاسيس، والأهم التصورات الخاصة بالعالم، الذي تُعنى الرواية بتقديمه. وهذا يحتاج لدرجة عالية من الخبرة في الفضاء الآخر، بما في ذلك خصائصه وأسراره. إن قراءة مئات من الأعمال المترجمة – روائية أو غيرها – سيجعلنا نخرج بالكثير من الملحوظات التي تتعلق بإشكاليات التصدي لمهمة الترجمة، حيث إن الكثير من الترجمات تفسد العمل، الذي ربما يكون من أهم الأعمال، وأفضلها في لغته الأصلية، ولكن عندما ينقل إلى العربية يصيبه الشحوب والخمول، ويفقد رونقه، والأهم من ذلك فقدانه للروح، حيث يمسي أقرب إلى عمل ثقيل الظل باهت، ما يتسبب بتكوين فكرة سيئة عنه، أو ربما نسارع إلى استهجان الشهرة التي نالها في لغته الأصلية، أو الثقافة المنتجة له.
إن لكل عمل أو نص حالة من الإيقاع، الذي يتحدد دوره بخلق أو تثبيت النسق النفسي أو الشعوري للنص بلغته الأصلية، وهكذا تتحقق قدرة المترجم وبراعته، من خلال التوصل لهذا البعد، ونقله إلى اللغة المترجم إليها، وغالباً ما ينشأ هذا الخلل في هذه العملية، نتيجة أخطاء تتعلق بفعل التلقي لدى المترجم، الذي ربما يكون متمكناً من اللغة المترجم منها، غير أن حسه الأدبي لم يرتقِ إلى تذوق العمل الأدبي؛ لينعكس بدوره على النص الذي يفقد ماءه، فتخفت روح التوهج فيه، وبناء عليه، يفقد القارئ شغف القراءة، فتتولد فجوة بينه وبين النص، ومن ثم يتولد لديه شعور سلبي متمثل بكراهية النص، على الرغم من أنه يحمل كافة السمات الفاعلة في خلق نص متماسك، وجذاب، ولكن في لغته الأصلية.
ومن الإشكاليات التي تتصل بالترجمة، أن بعض المترجمين يتصدرون للترجمة، بدون أي وعي عميق بلغة النص المترجم منه، فضلا عن افتقار البعض لمعرفة عميقة باللغة المترجم إليها، وهي في هذه الحالة اللغة العربية، ما يصطنع المزيد من الحواجز التي تحول دون تلمس النص الروائي، وتذوقه، وهنا يلاحظ أن بناء الجملة باللغة العربية لدى بعض المترجمين، يخضع لاضطراب شديد، ولاسيما الضمائر والإحالات، كما القدرة على تفعيل السلاسة والانسيايبة القائمة في النص الأصلي، بيد أننا نفتقدها في الترجمة؛ ما يبعث شيئا من الضيق والسأم.
إن فاعلية الترجمة تتأتى من تمكين الشغف والخبرة والمراس، ولكن الأهم استدعاء الحالة الكامنة للغة في تكوينها. فإشكالية ترجمة الرواية تتأتى من كونها لا تخضع لمعيارية معينة؛ أي أنها لا يمكن أن تدرك عبر النموذج الاصطلاحي أو الإجرائي، إنما هي تخضع للوعي، والقدرة على التقاط الفيض الأدبي (للفضاء الثقافي) الذي يخلقه المؤلف، وعلى المترجم أن يحدده، أو يقتنصه، وفي بعض الأحيان تأتي محاولة المترجم لنقل النص ضمن المبدأ الحرفي جزءاً من المعضلة التي تعاني منها بعض الترجمات، وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض التصرفات، أو التصرف في الترجمة لإدراك روح النص ـ في حال عدم توفر خبرة عميقة- ربما يحدث آثاراً أشد ضررا على النص من الترجمة الحرفية عينها؛ لأن هذا التصرف يقتل روح اللغة التي تكمن في بعض النصوص الأدبية، وهذا ما يجعلنا نؤمن نسبياً بمقولة أمبرتو إيكو بأن الترجمة هي فن الفشل ( في بعض الأحيان).

إن فاعلية الترجمة تتأتى من تمكين الشغف والخبرة والمراس، ولكن الأهم استدعاء الحالة الكامنة للغة في تكوينها. فإشكالية ترجمة الرواية تتأتى من كونها لا تخضع لمعيارية معينة.

في ظني أن الترجمة التي تطرأ من ذلك الوهم بالقدرة على نقل نص عظيم، أو اعتيادي بلا وعي حقيقي بالترجمة وآلياتها، والاكتفاء بالمعرفة الأكاديمية للغة أخرى في حدود نمطية ضيقة، قد ينتج آثاراً سلبية على التثاقف، ويخلق سوء فهم في تكوين الذائقة الأدبية، كما أنها تعدّ جنايات على النصوص العظيمة، أو أنها جناية عابرة للثقافات والآداب، بحيث يقع الإفساد على ثقافتين: المترجم منها، والمترجم إليها.
إن صناعة النشر تتصل بهذا الفعل الاستهلاكي الرأسمالي، ولعل هذا دفع الترجمة إلى حدود بائسة لإغراق الأسواق بأعمال رديئة على مستوى الترجمة، وبذلك فإن عملية الترجمة لا تتبرأ من هذه القيم السائلة، تبعاً للانسياب غير الصحي لمتوالية الإنتاج الثقافي التجاري، التي بدأت تخلق حساً بأن عالمنا يخلو من القيمة. لقد كانت الكتب المترجمة سابقا تخلق حالات تحول عميق في الوعي المعرفي أو الأدبي النقدي، كما القدرة على الانفتاح على الآخر، ولكنها هذه الأيام تبدو بلا أثر حقيقي، وكأن ثمة حواجز تحول دون تحقيق التأثير المطلوب؛ ما ينقلنا إلى المسارعة في البحث عن الأسباب، فهل ثمة قصور معرفي لدى المتلقي؟ أم أن النتاجات الحديثة تبدو مكررة، وتعيد نفسها؟ أم أن الترجمة أفقدت الروح الحقيقة لتلك النصوص، وخرجت بها عن طاقات التأثير التي ينبغي لها أن تحدثها؟
إن الكثير من الروايات فسدت على مستوى التلقي نتيجة الصخب والفوضى التي تحدثها الترجمات الهزيلة، بل إن هذه الترجمات الرديئة تسهم في تعرية أرواحنا من ولعها بالقراءة، ولطالما خرجت المتعة القرائية عن مسارها، أو توقفت نظراً لتلك العثرات التي تشبه نتوءات في جسد النص الصقيل، وروحه ما يحول دون إكمال القراءة، فتسارع للبحث عن ترجمة أخرى لعلها تعيدك إلى حالة النص الحقيقية، وإيقاعه الذي فقدته مع هذه الترجمة، أو تلك، وهنا لا بد للتنبه إلى الأدوار التي ينبغي أن تضطلع بمساءلة الترجمة، سواء على مستوى المؤسسات التي تعنى بها، أو حتى دور النشر، كما المرجعية التي تخول أياً كان للاضطلاع بالترجمة.

عن صحيفة القدس العربي

٭ كاتب أردني فلسطيني

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم