مفيد نجم

لا مفاضلة بين الشعر والسرد في التعامل مع الأحداث الكبرى التي تطرأ على حياة البشر لتحولّها إلى جحيم حقيقي، حيث يقف كل من الشاعر والروائي في وجه الكارثة ويفككانها لقراء اليوم والغد. لكن ربما يمكن للروائي أن يكون أكثر تفصيلا في نقله لما يحدث. بينما يبقى الرهان هو الابتعاد عن التوثيق التأريخي.

في أزمنة شديدة الوطأة والرعب كالتي نعيشها الآن مع وباء كورونا تتجدد أسئلة الكتابة في مواجهة المصائر التراجيدية التي يواجهها الإنسان في هذا العالم، وقد وجد نفسه محاصرا على امتداد الجغرافية الكونية بهذا الوباء.

يذهب البعض إلى أن الكتابة يمكن أن تشكل الذاكرة الحية التي تحفظ وقائع هذه المعاناة الإنسانية الصعبة وصورها المعبرة عن فظاعة المحنة وآلامها الكبيرة. والسؤال هو كيف يمكن لهذه الكتابة أن تفعل ذلك دون أن تسقط في فخ المباشرة والانفعال.

الحفر عميقا

بداية يمكن القول إن الرواية هي الأكثر قدرة على تمثل هذه التجربة القاسية والتعبير عن آلام الإنسان المهزوم في مواجهة هذا الخطر الداهم، لكن كيف يمكن للرواية أن تكتب عن هذه الأزمنة حيث لا حدود للألم والرجاء. رواية الطاعون للروائي الوجودي ألبير كامو التي نستعيد وقائعها في هذه اللحظة الكونية لم يكن للذاكرة الإنسانية أن تستعيدها لو كان همّها التأريخ لمحنة الطاعون وتسجيل وقائع ما حدث. لقد حاولت هذه الرواية أن تختبر حدود الألم الإنساني في مواجهة شرطه المأساوي، وأن تستنطق روح شخصياتها بما فيها بطل الرواية الدكتور الذي كان يسعى لإنقاذ الناس من حوله.

لا شيء يجعل الرواية تهتم بالمكان بقدر ما كانت تهتم بمصائر الناس والتأمل في أحوالهم وأنماط سلوكهم وفي معنى الشرف في تلك الأيام العصيبة وكذلك في معاني البطولة واليأس والقوة والحب. إنه الإنسان في امتحان قيمه وإيمانه بالحياة والشرف المتمثل في عدم نقل المرض إلى إنسان آخر وكذلك في اختلال علاقة الإنسان مع نفسه وفقدانه لسلامه الداخلي في ظل الحصار الذي يفرضه الوباء عليه.

هزيمة الإنسان وشجاعته في عالم بالغ الرهبة والتحدي لا يمكن أن تتوقفا عن توليد الأسئلة المرهقة والحرجة

هناك روح فلسفية تسأل وتبحث وتؤوّل وتستكشف الآثار العميقة للوباء في أعماق الناس وحيواتهم، من خلال علاقاتهم وأسئلتهم وهواجسهم وضروب معاناتهم القاسية ومواقفهم ممّا يحدث. الوباء عند كامو لا ينتهي مع القضاء عليه طالما أن الإنسان لم ينشغل بالبحث في قضايا المعرفة والحياة لأن ثمة وباء آخر سوف يأتي.

 إن الرواية في كل الأزمنة العصيبة التي تواجه فيها البشرية الأوبئة والحروب الدامية كانت تحفر في أعماق الإنسان وتستظهر حالات ضعفه وقوته وأسئلته عن المعنى الوجودي لحياتنا وإنسانيتنا في مثل هذه الظروف الشاقة والمرعبة. الحديث في النقد عن مصطلح التمثل بمعنى التماهي مع الواقع أو محاولة الإيهام بواقعية السرد في الكتابة الروائية هو محاولة إخضاع الرواية لسلطة المرجعية التي يمثلها الواقع.

 الكتابة الروائية ليست مهمتها تمثل الواقع أو التمثيل له بقدر تمثل رؤيتنا إليه وإلى الحياة وموقفنا منها، والشخصيات الروائية هي الحامل لهذه الدلالة المعبر عنها في سلوكها ومواقفها وأفكارها التي تقدمها عبر حواراتها مع شخصيات الرواية الأخرى، أو من خلال علاقتها معها سلبا أو إيجابا باعتبارها تمثل وجها آخر من وجوه الحياة. الرواية هي كشف واكتشاف لممكنات الواقع وأسئلته ودوافعه الغريزية والواعية في لحظات عسيرة وشديدة الوطأة والتهديد للإنسان على هذه الأرض.

الأسئلة والاكتشافات

Thumbnail

في لحظات المحنة الجماعية لا تتمثل المشكلة في علاقتك بذاتك وحدك أو بحياتك الفردية ما دام الأذى الذي يمكن أن يتجاوز حدود الذات إلى الآخرين كما عبرت عن ذلك رواية الطاعون.

 إن وظيفة الرواية هي خلق المعرفة عند القارئ وجعله يعيش الأجواء التراجيدية الحقيقة لمعاناة شخصيات الرواية خوفها وقوّتها، أسئلتها والمعنى الإنساني للقيم التي نحملها في ضوء ما يحدث من حولنا. لذلك كان طبيعيا أن ينتبه نقاد آخرون إلى المفهوم الواسع واللامحدود للواقعية وأن تتحرر الكتابة من مرجعيّاتها القارة أو سلطة الخارج وأن تذهب بعيدا في استجلاء كل ما هو إنساني والتعبير عن درامية المصائر والحيوات التي يصعب قولبتها وتنميطها كما شاع في مرحلة من مراحل تاريخ الرواية.

من هنا يبدو أن مهمة الرواية هي قول ما لا نعرفه واكتشاف المخبوء وراء ظلال الحدث الكثيفة في داخل الشخصية الإنسانية وتجسيد البعد الدرامي للحياة. إن الأعمال الأدبية العظيمة التي امتلكت قدرتها على العبور بين أزمنة مختلفة هي تلك الأعمال التي عملت على استجلاء البعد الوجودي والمعرفي للمعاناة الإنسانية والمصائر الباحثة عن الخلاص. لم تحاول هذه الأعمال أن تصف الواقع أو تجعل منه حكاية تروى بل حاولت أن تجعل الحكاية وسيلة للبحث عن معنى في مواجهة شرطنا الإنساني في مثل هذه الاختبارات الصعبة لوجودنا وإنسانيتنا، ولذلك فهي تضيء على أكثر جوانب إنسانيتنا دلالة ومعنى في علاقتنا بذاتنا وعلاقتنا بالآخر.

من الصعب التكهن في لحظة مريعة وكثيرة الصخب كما هي الحال الآن وهنا في مواجهة ما يحدث وما يصعب معرفة نهاياته وحدود خساراته. ما نتوقعه أن أعمالا كثيرة وكثيرة جدا سوف تتناول هذه التجربة الكونية غير المسبوقة، وأن كثيرا منها لن يخلو من انفعالات كتابها بالحدث أو محاول تمثل آثاره الرهيبة على المستوى الإنساني، لكن الأعمال التي ستبقى إلى ما بعد مرور زمن المحنة طويلا هي الأعمال التي ستحفر في أعماق هذا اللحظة الكونية الخاصة واستحضار ما هو أكثر درامية ودلالة فيها على صعيد علاقات بعضنا البعض كبشر وعلاقتنا بالحياة والوجود.

إن هزيمة الإنسان وشجاعته في عالم بالغ الرهبة والتحدي لا يمكن أن تتوقف عن توليد الأسئلة المرهقة والحرجة حول أسباب هذه الكارثة البشرية وسرعة انتشارها في عالم بالغ التطور والتقدم. لذلك ما يحدث الآن لا يشبه طاعون كامو ولا أيّ طاعون أو وباء حدث في ما مضى. الفضاءات  المفتوحة التي خلقتها وسائل التواصل الحديثة وتقنياتها المذهلة والتي منحت الإنسان الشعور بتفوّقه وتطوّره الكبير تحولت فجأة إلى نقمة ورعب جعل فيروسا غامضا ينتشر انتشار النار في الهشيم فارضا على المئات من ملايين البشر في جغرافياتها المتباعدة والقريبة أن تختبئ في بيوتها وأن تحبس أنفاسها بانتظار وقف آلة الترقيم اليومي لأعداد الضحايا.

 في مثل هذه الظروف الشاقة والمشحونة بالخوف والألم حيث يتحوّل كل شيء من حولنا إلى تهديد حقيقي لحياتنا وحياة من هم حولنا لا حدود للألم والمعاناة في معايشة ما يحدث. لقد تحولت الحياة التي أعادتنا إلى عزلتنا إلى اختبار حقيقي للألم والأمل، وعلى الرواية أن تنتقل من الشهادة على الواقع إلى البحث عن الجوهري والأصيل في الإنسان وعن الدرامي والأكثر تعبيرا عن بسالة الروح البشرية في دفاعها المستميت عن كل ما هو إنساني ونبيل في الحياة.

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم