أوچة فان دير ليلاي - ترجمة ميادة خليل

قبل وفاة والد زوجي بوقت قصير، قالت له والدة زوجي: "إن كان ثمة حياة بعد الموت، امنحني علامة على ذلك. لكن لا تدع المصابيح تومض؛ إنها علامة تقليدية جداً". والد زوجي كان بايولوجياً وملحداً، لكنه وعدها: إن كانت له أكثر من حياة، فسوف يُعلمها بذلك. أثناء تواجد زوجي في بيت العائلة بعد وفاة والده، انفجر مصباحان. لعلها مجرد مزحة من والده المتوفى! لكن في اليوم التالي حدث أمر فظيع لا يصدق؛ أثناء قيادة شقيق زوجي سيارته عائداً من المكان الذي سيدفن فيه والده (دفناً طبيعياً)، في وقت الغروب، شاهد ثعلباً يركض أمام سيارته على حين غرة، ظل يركض أمام السيارة وينظر خلفه نحو النافذة الأمامية مراراً وتكراراً. لقب والد زوجي هو: ده ڨوس (الثعلب) وهو لقب أولاده وأحفاده أيضاً. مهما حاولنا أن نكون عقلانيين، نجد أن القصة غريبة. هل كانت تلك هي العلامة التي طلبتها والدة زوجي من قبل؟

لا وجود للصدف، أليس كذلك؟ 

جميعنا تمر بنا أمور غريبة؛ كأن يخطر على بالك شخص ما وفي تلك اللحظة بالذات يتصل بك. أو أن تكون في رحلة وتصطدم بشخص كان حبك القديم أيام شبابك. أو أن تتخذ طريقاً مغايراً للذهاب إلى العمل، ثم تقرأ بعد ذلك أن حادثة قد وقعت على طريقك المعتاد ذلك اليوم. لا يمكن أن تكون مثل تلك الأحداث قد حدثت بالصدفة، تقول لنفسك، لابد من وجود تفسير أكثر عمقاً؛ قوة خارقة قد أحدثت ذلك، أو ملاكي الحارس. أليس كذلك؟  

بحسب عالم النفس والأعصاب ميخيل فان ألك في جامعة أمستردام؛ نحن لا نستطيع تجاهل استنتاج أن حدث ما ليس إلا "مجرد صدفة"؛ "الناس لا يحبذون العوالم الغريبة للصدفة، لكنهم في بحث دائم عن صلات ذات معنى. يبحثون عن السبب والنتيجة: فإذا رأوا غيوماً داكنة، يعني هطول المطر عمّا قريب، إذا ضُربت على إبهامك، ستتألم وبعد نوم هانئ تشعر بالتحسن. من يوجد صلات بين الأحداث، يكون لديه المزيد من الفهم تجاه الفوضى حوله وتتعاظم قابليته على البقاء حياً".

الكثير من الأنماط الملحوظة لها معنى، إلا أننا نرى أيضاً صلات ليس لها معنى. فعلى سبيل المثال: تستيقظ مفزوعاً في اللحظة التي ولد بها ابن أخيك. أو تتذكر عزيزاً متوفى فيومض المصباح. يقول فان ألك: "إنه من المغري منح مثل تلك الأحداث تفسيراً ميتافيزيقيا. ففكرة وجوب وجود صلة غير مرئية بين الناس هي الأقرب إلى فطرتنا من التفسير العلمي المبني على فكرة الصدفة". لذا فإننا انتقائيون في رؤانا وفقاً لفان ألك، إذ أننا منفتحون على إثبات الرؤى بدلاً من نفيها. "نفكر كثيراً في أصدقائنا وأفراد عائلتنا، ثم ننساهم لفترة ما. فإذا ما اتصلت صديقة في اللحظة ذاتها التي تفكر بها، يسجل دماغك تلك الحادثة على أنها ذات مغزى". كذلك حين تبحث عن دلالة، فإنك ستجدها لا محالة؛ أغنية أو عطر معروف لك، وميض مصباح، أو ظهور حيوانك المفضل فجأة. كلها أمور تستطيع تحليلها على أنها تحية من المتوفى، أو دليل على الصلة بين السماء والأرض.

الشعور بأن ثمة شيئاً غير صحيح

يحبذ الناس تصديق مثل هذا الشعور، أنا أحدهم إلى حد ما. رغم أني لست مؤمنة، إلا أني تأثرت بقصة الثعلب. وأجلس على طرف كرسيّ مضطربة حين يتحدث شخص ما عن تجارب الاقتراب من الموت، أو التخاطر والاستبصار. تفتنني مثل تلك القصص. تصور لو أنها حقيقية؟ وأن هناك أكثر مما يمكننا بيانه؟ مؤخراً مررت بتجربة مشابهة؛ صديقة مقربة كانت حامل وقد عايشت معها تلك الفترة بكل تفاصيلها، وقبل موعد ولادتها المقرر بيومين شعرت بآلام في بطني تشبه آلام الطلق. تبادرت صديقتي إلى ذهني فوراً وعرفت أن الولادة قد بدأت. ففكرة أني شعرت بها رغم المسافة بيننا أجمل بكثير من تفسير مخيب للأمل عن الصدفة. أخبرتني صديقتي فيما بعد بأمر طريف جداً؛ إحدى صديقاتها شعرت بتوجس شديد قبل أسبوع من الولادة، إلا أن صديقتي حينئذ لم تكن تشعر بأي آلام للطلق. أن تشعر صديقة واحدة فقط من بين كل صديقاتها بتوجس وفي التوقيت المناسب، أمر متوقع.

ثمة أمر آخر بخصوص ذلك؛ نحن نرى العالم من خلال نظارة تجاربنا الخاصة. كلما عرفنا شخصاً على نحو أفضل، زادت المعلومات المخزّنة في دماغنا عنه. إذا تصرف شخص بغرابة، كأن يبدو مظهره مختلفاً أو لا يعاود الاتصال فيما كان من عادته فعل ذلك، فأننا نشعر بأن ثمة شيء غير صحيح. يتضح أحياناً (وليس دائماً) بأننا تنبأنا بوقوع أمر ما. مثلما حدث معي فيما يتعلق بصديقتي الحامل. فحين اتصلت بها قبل يوم من الولادة، ردت بشكل مختلف عن المعتاد. شعرت عندئذ بأن أمراً على وشك الحدوث. لا علاقة لهذا بالميتافيزيقية، بل هو مجرد حدس ثاقب.  

الفوز بسحب اليانصيب      

ورغم ذلك تحدث بعض الأمور الفظيعة التي تثير الريبة حتى عند أعظم الشكوكيين. لكن الإحصائي البريطاني ديڨيد هاند أظهر في كتابه "مبدأ اللااحتمالية" أن حتى الصدفة المحظة سهل توضيحها للغاية. "الأحداث النادرة الميتافيزيقية هي في الغالب ليست نادرة البتة. بل على العكس، هي أحداث عادية جداً". أو بمعنى آخر: اللامتوقع هو أمر متوقع. فعن طريق "قانون الأعداد الكبيرة" نستطيع بحسب هاند تفسير أن الرائد والتر سمرفورد قد صعقه البرق ثلاث مرات في حياته وأصاب البرق من ثمَّ شاهد قبره أيضاً. أو أن إيڨيلاين ماري آدمز فازت بسحب اليانصيب في نيو جيرسي لمرتين خلال أربعة أشهر. يقول هاند: "لو تأملنا أعداد سحب اليانصيب في العالم، وأعداد الناس التي تشارك في اللعب، وأعداد بطاقات اليانصيب التي يشترونها وأعداد الأسابيع التي يلعبون خلالها، نحصل بسرعة على عدد كبير جداً. حتى لو أن احتمالية فوز كل بطاقة ضئيل للغاية؛ حين يكون لديك عدد كاف من تلك البطاقات، فأن احتمالية فوز أحدها كبير جداً. لذا فمن غير المستغرب فوز شخص ما في مكان ما في لحظة ما لمرتين باليانصيب. ويمكننا حتى الذهاب إلى وجوب توقع حدوث ذلك" مع قانون الأعداد الكبيرة تستطيع إثبات عدد هائل من الظواهر العجيبة. نحن نعيش في كوكب يقطنه حوالي 7.5 مليار نسمة. كل هؤلاء لديهم ما لا يحصى من الأفكار والأحلام والأمنيات وطقوس الولادات والوداعات. الكثير من الأمور التي تحدث في الوقت نفسه ستكون غريبة إذا لم يصاحبها تداخل ظروف غريبة. كمثل حلم تنبُّئِي، أو تصور يصبح واقعا، أو لقاء غير عادي. وكما قال عالم الرياضيات الأمريكي (والساحر السابق) پيرسي دياكونز: "يوم غير عادي حقيقي هو اليوم الذي لا تحدث فيه أمور غير عادية".

الكتاب المفقود  

تلاحظ أن الظواهر العجيبة عادية جداً حين تتأمل محيطك الخاص. فمن الناحية الإحصائية يعايش كل شخص حدوث معجزة واحدة على الأقل كل شهر، وفقاً لديڨيد هاند.   

من بين المعجزات العادية قصص استثنائية للغاية في بعض الأحيان. ذكر هاند في كتابه مثالاً رائعاً على ذلك: حين أسند إلى الممثل أنتوني هوبكنس دور البطولة في فيلم مأخوذ عن رواية "الفتاة من بتروفكا" للكاتب جورج فايفر عام ١٩٧٢، بحث عن نسخة من الرواية في متاجر الكتب المعروفة في أرجاء لندن. لم يجد أي نسخة من الرواية في كل المتاجر مع الأسف. وبينما هو جالس بانتظار المترو في محطة لايسستر سكوير، رأى كتابا متروكاً على المقعد الذي بجانبه؛ إنها نسخة من رواية "الفتاة من بتروفكا". فيما بعد حكى هوبكنس هذه القصة للكاتب جورج فايفر الذي أضاف بدوره إلى القصة المزيد من الغرائبية. إذ ذكر بأنه قد أعار نسخة نادرة من روايته عام ١٩٧١مع بعض الملاحظات التي دونها بنفسه هنا وهناك فيما يخص تحويل الإنگليزية البريطانية إلى إنگليزية أمريكية. إلا أن صديقه قد أضاع النسخة في حي بايسووتر اللندني. وبنظرة سريعة إلى الملاحظات المدونة في النسخة التي عثر عليها هوبكنس اتضح بأنها هي النسخة ذاتها التي فقدها صديق فايفر.

رواة القصص

وجود استنتاج نسبي لمثل هذه القصص الغرائبية لا يعني أنها بلا قيمة. فلقد ذكر الفيلسوف لامَرت كامپهاوس صاحب كتاب "الفلسفة من أجل حياة لا مثيل لها" بأننا نستطيع عن طريق القصص الغرائبية والقصص عموماً إضفاء معنى لحياتنا. "بحسب الفيلسوف الفرنسي پول ريكور نحن كائنات قصصية. نروي القصص لفهم أنفسنا والآخرين والعالم. نفعل ذلك طوال الوقت، فيما يخص الأحداث الصغيرة والكبيرة"، يقول كامپهاوس "فإذا سألك أحدهم: كيف كانت طفولتك؟ تصنع من الإجابة قصة؛ لا تستطيع ذكر كل الأحداث، لهذا تختار موضوعاً (حدثاً) حاسماً وعلى أساسه تروي قصة طفولتك. تدرك مدى قوة القص الكامن فينا حين تجلس في شرفة وتنظر إلى الناس؛ تستطيع تخيّل قصة لكل زوج يمر بقربك؛ حول مدة علاقتهما ومن المسيطر في العلاقة وإلى أين وجهتهما" وفقاً لكامپهاوس نحن نروي القصص خاصة لنحكم قبضتنا على الواقع؛ "إذا حدثت أمور متتالية دون أن ترتبط بأي خط أو ترتيب، نشعر حيالها باللاجدوى. وعن طريق ربط الأحداث المنفصلة مع بعضها، تصنع قبة كاملة منها؛ قصة تتحدث عن شيء ما وتمنح للحياة معنى". كذلك التجارب الغرائبية التي تمر بنا نصيغها على هيئة قصة. يقول كامپهاوس: "رغم أن عدد المنتمين إلى الأديان في تناقص مستمر، إلا أن القصص ذات الصبغة الدينية ما تزال تروى. أحباء الموتى على سبيل المثال يرون الطائر المفضل لجدهم يحلق أثناء مراسيم دفنه. فهم يرونه رمزاً لحضور الجد بينهم في تلك الأثناء". ومما يدعو لللاستغراب أننا نستطيع صياغة شيء ما من الحدث بغض النظر عن الظروف المحيطة به. فإذا أمطرت أثناء مراسم الدفن، نقول أن السُحب تبكي معنا. وحين تشرق الشمس نشعر بدفء حضور شخص ما. وأحياناً قد توحي بحكايات وصور غاية في الروعة تتوافق تماماً مع شخصية راويها.  كما هو الحال عند ظهور قوس قزح فوق مدينة أمستل في أمستردام حين نقل جثمان هاري موليش على ظهر سفينة العام 2010 إلى مثواه الأخير. "التفسير بأننا قد حصلنا على علامة من الآخرة، يبدو لي مبالغ فيه" يقول كامپهاوس، "لكن يمكنك استخدام مثل هذه القصص على أنها مرآة لمعرفة النفس. فإذا اعتقدت أن الجد يظهر لك على هيئة فراشة مرة بعد أخرى، فهذا يرينا بوضوح مدى توقك إلى التواصل معه".

قد تمنحنا الديانات الراحة، خاصة إذا أضفيت عليها معنى روحي؛ هذا ما يؤكده عالم الأعصاب ميخيل فان ألك: "كلها تخمينات، فلقد اتضح من خلال البحث أن الناس الذين مروا بتجربة الخروج من الجسد، هم الأكثر وعياً في الحياة؛ لديهم الشعور بأنهم في مهمة على الأرض لجعل البشرية أفضل. وهذا يشير إلى مدى قوة التجارب (الروحانية) الدينية. إنها مصدر للمعنى والإلهام والطمأنينة".

الوهم    

"بعض الأشخاص يجدون أن تفسير ظاهرة غرائبية تسلبها غموضها" كتب ديڨيد هاند في كتابه، "فهم الظاهرة بطبيعة الحال يفقدها الكثير من غموضها، وضبابيتها والتباسها. لكنه يمنحنا أيضاً تقدير شديد وحتى احترام لجمالية الظاهرة. كما أن تفسيرها يوضح كيفية تجميع قطعها مع بعضها ويكشف لنا العالم المذهل الذي نعيش فيه".

شخصياً أجد أن هذا التفسير العلمي الخالص ما هو إلا مهدأ؛ ابنتي الصغرى تشبثت بي مؤخراً قبل خروجي لحضور دعوة  عشاء. بكت وقالت: "ماما، أريدك أن تظلين معي دائماً" خرجت من المنزل مع شعور بعدم الراحة. وصوت في رأسي يقول: هي ليس لديها هواجس شريرة. مثل هذه الأوهام أزيحها جانباً الآن ببساطة. 

حين حكيت قصة الثعلب إلى صديق مقرب، قال: "مثل هذه الحكايات تنتمي إلى الأدب" هكذا صرت أنظر إليها أنا أيضاً. القصص الغرائبية هي قصص إبداعية تأخذها معك إلى حدود وعيك وتغمرها في شيء جميل.

إنها معبأة باستعارات حول علاقتك بشخص ما في الماضي أو في الوقت الحاضر. وفي هذا المعنى تُعد ذا قيمة وتشعرنا بالراحة.  والجميل أن المعجزات تحدث كل يوم. عليك أن تلاحظها فحسب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مجلة فلو الهولندية، 2019

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم