«شارع شيكاغو» مسلسل سوري سيعرض في رمضان «يغفل الرواية»

شاكر الأنباري

"شارع شيكاغو" محور رئيسي من محاور روايتي الراقصة، التي صدرت في دمشق عن دار المدى عام 2003، والرواية مكرسة لمدينة دمشق، وهي الرواية الوحيدة لي التي لا علاقة لها بالعراق وأحداثة، لكن بطل الرواية "رؤوف وحيد الدين" يراها بعينين مختلفتين، فهو من عائلة مهاجرة في زمن بعيد استقرت في دمشق وتكيفت مع حياتها، وبسبب كونه مهاجرا عمد إلى الاندماج مع المدينة وحياتها عبر استرجاع تاريخ المدينة، وكأن الذاكرة هي المعادل الموضوعي للانتماء إلى نسيج الواقع.

وهناك ثلاثة مستويات لتلك الذاكرة، المستوى الزمني البعيد وتمثل باسترجاع مذكرات "البديري الحلاق" وما كتبه عن يوميات دمشق في حقبة آل العظم والدولة العثمانية. وهناك مستوى الماضي القريب وتمثل باسترجاع شخصيات وأحداث "شارع شيكاغو" وقد عاش رؤوف وحيد الدين جزءا من شبابه في ذلك الشارع أو عاصر حكاياته، وأمكنته.

وزمن شارع شيكاغو في رواية "الراقصة" هو فترة الستينيات من القرن الماضي.

ثم هناك الحاضر الذي يتحرك فيه رؤوف وحيد الدين متنقلا من الخمارات إلى شلل الصداقات وتجاربه الروحية بعد أن صار شيخا ثم مات لاحقا بعد أن فقد عائلته وبات وحيدا في الحياة. وهو قبل موته يتذكر تفاصيل الشارع "شارع شيكاغو" بوضوح، حانة "الوردة الزرقاء"، والراقصة ماغي، ووجهاء دمشق، وأجواء المدينة الصاخبة.

وعبر تواشج تلك المستويات من السرد، والشخصيات، والأحداث، قيض لرؤوف أن يحس بالانتماء إلى المدينة، لقد امتلك ذاكرتها، وهي بشكل عام مشكلة كل المغتربين، والمهاجرين الذين يجدون أرواحهم وقد اقتلعوا من بيئة الطفولة وزرعوا في بيئة جديدة، وهم يحاولون تكوين هوية لهم لذلك ينغمرون في تفاصيل الأمكنة وذكرياتها سواء القريبة أو البعيدة. ذلك هو المبرر الفني، حسب رؤيتي، لحضور شارع شيكاغو في روايتي الراقصة، وكان على أية حال اجتهادا فنيا لرسم شخصية بطل الرواية.

وقبل أيام كنت اتفرج على محطة "دراما" السورية وقد جذب انتباهي خبر تصوير مسلسل "شارع شيكاغو"، ويرصد قصة فتاة دمشقية منذ فترة الستينيات وحتى الآن، وبدلا من "ماغي" الرواية، سماها كاتب المسلسل "محمد عبد العزيز"، وهو المخرج أيضا "ميرامار"، ومشاركة طاقم عمل منهم دريد لحام وسلاف فواخرجي وفايز قزق ووائل رمضان وأمل عرفة وسواهم، وانتاج شركة "قبنض" وسيعرض المسلسل في رمضان، أي الرابع والعشرين من نيسان.

وقد تساءلت مع نفسي هل أن العمل مستند إلى روايتي "الراقصة" ومن ضمنها "شارع شيكاغو"، لأنني اتناول في محور شارع شيكاغو فتاة متمردة ايضا وتمتهن الرقص، وتغوص في بيئة دمشق الفكرية والاجتماعية وليالي المدينة الحمراء؟ وعرفت من خلال تتبعي لمجريات المسلسل أنه تم إجراء بحث عن تفاصيل الشارع من بعض المرويات ولقاءات مع أشخاص عاشوا في الستينات، ومنهم ما زالت محلاته في نفس الشارع، وتدور أحداث المسلسل بين فترتي الستينيات من القرن الماضي والوقت الراهن. ويتناول قصة ميرامار (سلاف فواخرجي) فتاة تهرب من عائلتها بمساعدة مراد (مهيار خضور) شخص بمثابة بطل شعبي لتتحدى المجتمع في ”شارع شيكاغو“، وهو شارع كان معروفاً في دمشق خلال تلك الفترة حيث كان يجتمع فيه المثقفون وأصحاب الموضة وتحصل فيه نقاشات فكرية واجتماعية.

وقد أوضح المؤتمر الصحافي الذي قام به فريق العمل أن مسلسل "شارع شيكاغو" جاء على أنه عمل رومنسي بوليسي، تدور أحداثه بين فترتين زمنيتين، ستينيات القرن الماضي والزمن الراهن، ويروي حكاية فتاة دمشقية، تهرب برفقة بطل شعبي، وتلجأ إلى “تياترو” في شارع شيكاغو، لتواجه المجتمع والجهات التي تلاحقها… جملة من الأحداث والصراعات، تنتهي بجريمة قتل، تبقى غامضة، حتى تقودها الصدفة إلى يد محقق يكشف خيوطها في الزمن الحالي.

وعن سبب اختياره لهاتين الحقبتين الزمنيتين، صرّح المخرج محمد عبدالعزيز لـCNN بالعربية، قائلاً: “ستكون استعادة ملامح حقبة الستينيات من خلال هذا العمل، والعودة إلى الزمن الراهن، بمثابة المرآة للجمهور السوري والعربي، حينما يقف أمامها، سيكتشف الكثير من التفاصيل التي تحدث حالياً على كل المستويات”.وأشار إلى أنّ ستينيات القرن العشرين “حقبة ثرية جداً، ووسيطة بين تغييرات هائلة حدثت وتحدث في منطقتنا، بذورها بدأت من تلك المرحلة، خاصة أنّ المنطقة ككل بطيئة التغيير، فهناك وقائع حدثت قبل مئات السنين، لكنّها لازالت تفعل فعلها إلى اليوم.”

طبعا قبل أن أكتب رواية الراقصة وشارع شيكاغو لم أجد أي نص يتعرض للشارع، وأحداثه، الشارع الذي شغل المدينة طوال عقود من حياته، وهو يقع قرب ساحة المحافظة ولا يتعدى طوله المائة متر، وأغلقت حاناته ومقاصفه في الثمانينيات من القرن الماضي. لذلك جاءت أحداث شارع شيكاغو في الرواية سبقا متخيلا لاستعادة تلك الحقبة، حقبة الستينيات، وتمركزت الاستعادة على شخصية الراقصة "ماغي".

وشخصية الراقصة ماغي هي الشخصية الوحيدة التي تحمل رغم عبثيتها أيضاً، بعداً انسانياً، تشعر بالكراهية لنسيم بيك الذي كان واحدا من المجتمع الارستقراطي، كان يمتلك قصرا في الزبداني بواجهات عديدة وشرفات مليئة بالزهور والنباتات. فهي تكره ذلك الجو المرتبط بالاستعمار الفرنسي، البسطاء أقرب الى روحها” (ص 41).. بجنون تتيم ذلك الارستقراطي بماغي، التي كانت “تلعّبُ الرجال على أصابعها، ترقّصهم، تفتعل بينهم المعارك، تقودهم إلى المذبحة، الجمال يقود إلى الموت، والدم يسفح على ساقي ماغي وجيدها وعينيها النجلاوين اللتين رمتا السيد نسيم بسهام لا تخيب” (ص42). هكذا أذلت ماغي هذا العجوز الارستقراطي المتصابي، لذلك طلبت منه أن يزورها في عملها لكنه استكبر أن يذهب إلى حانة "الوردة الزرقاء" لأن المكان لا يليق به فشارع شيكاغو عبارة عن شلة من اللصوص والسكيرين والقتلة. غير أن ماغي ظلت تلعب بأعصابه..

لكن: “العشق، كما تعلمت لاحقاً، ينبغي أن يكون بين شخصين متكافئين وإلا تحول إلى لعنة ومرض وهوس” (ص42). فخضع ووعدها بأنه سيشرب العرق، أمام الجميع من حذائها. بدم بارد ستحطم سمعته الكاذبة، ذلك العجوز المخصي، فاقد الذكورة، مصاص دماء الشابات الفقيرات. وذات ليلة تفاجأت ماغي بدخوله إلى الحانة.. جالبا معه ذلك المغني الذي لا يحبذ سوى: "الهوان وياك معزة" لمحمد عبدالوهاب. عمت المكان دهشة هائلة: البوابون، السائقون، الآذنون، الموظفون الصغار، رواد الوردة الزرقاء، صعقوا من دخول نسيم بيك، الموظف الكبير، المتنفذ، صاحب الأطيان والمحلات الذي يفك المحكوم من حبل المشنقة كما يقال. بفرح المنتصر دعته: “- ابدأ يا نسيم بيك! تدعوك ماغي إلى جنة أقدامها. تلك متعة لا يحصل عليها أي رجل. نزع حذاءها بأبهة، وصب فيه العرق. نزل إلى الأرض وسجد، متأهباً لارتشاف الوجبة النسائية التي ستنقله إلى ملكوت المرأة المتأهبة للانقضاض عليه وكأنها متاهة لا قرار لها”(ص50).

“كانت ماغي في العمق، تنتقم من تلك الطبقة الحقيرة التي تربعت على سلطة هذا البلد عشرات السنين. البوهيمية القاتلة في شخصها نار، تحتقر كل ما هو مادي”. وتلك هي شذرات من أجواء شارع شيكاغو، كما جاءت في رواية الراقصة.

ومشاهدتي لبعض الفيديوهات المصورة عن أجواء المسلسل شعرت وكأن المداميك الرئيسية في المسلسل مأخوذة من الرواية، ومنها أيضا جريمة القتل التي حدثت في ليلة ثلجية من ليالي دمشق، ولم تكتشف جثة القتيل حتى ذاب الثلج عنها. لا يخفى أن المسلسل يوصف على أنه مسلسل رومانسي بوليسي. وهذه اللقطة موجودة أيضا في المسلسل، رغم أنني لم أره حتى الآن، أما استرجاع الزمن بين فترة شارع شيكاغو والوقت الحاضر فهي حاضرة في نسغ الرواية عبر بطل الرواية رؤوف وحيد الدين، والمسلسل يستفيد من هذه الفكرة، الانتقالات بين الماضي القريب والحاضر، عبر "ميرامار" ، "ماغي" في الرواية، أي حياتها الحاضرة وتلك الفترة من تاريخ المدينة.

طبعا لا يدرك تواشج أحداث المسلسل مع رواية الراقصة سوى الكاتب، فهو من خبر التفاصيل ورسم الأجواء ويتذكر رائحة شارع شيكاغو وأضواءه وقد زاره بعد الإغلاق أكثر من مرة، وهذا ما سيكشفه عرض الحلقات كاملة في رمضان القادم.

من صفحة الروائي شاكر الأنباري على الفيسبوك

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم