علي السياري

يحتاج الأدب إلى الخيال ليبني خطاباته ويشكّل نفسه، فعمليّة القصّ ذات النسيج اللغوي والشكل السيميائي تقوم أساسا على التخييل وذلك عبر اعتماد مرجعيّات واقعيّة لها وجود حقيقي أو اختلاق مرجعيّات محتملة ولا تتعارض مع الواقع على مستوى استيعابها منطقيّا وعقليّا. ولكنّ المبدع يلجأ أحيانا إلى تخيّل عوالم متناقضة كلّيا مع الواقع الماثل أو الممكن، فتكون متعارضة مع أحكام العقل ولا يمكن تفسيرها تفسيرا يحتكم إلى المنطق والمعقول والمألوف في حدود الطبيعة وإدراكات العقل. وهنا يكون الخيال الوسيلة الأمثل للأدب ليتجاوز الواقع والمعقول فينشدّ إلى عوالم عجائبيّة لا حقيقة لها خارج حقيقة اللغة والخطاب الأدبي المنجز بواسطة العلامات والشيفرات.

ولقد نجح الخيال منذ القديم في اقتياد الأدب إلى مجاهل غامضة ومغرية ومدهشة وباعثة على الغرابة، حيث حفلت الآداب العالميّة بارتياد آفاق واسعة للخيال وهو ما يظهر لدى رائدها الأبرز هوميروس الذي ألّف رائعته "الإلياذة" متأثّرا بالأساطير الإغريقيّة القديمة المغرقة في الخيال ومجاوزة أحكام العقل والمنطق، وكذلك  لدى نيكوس أبوليوس الذي ألّف "تحوّلات الحمار الذهبي"، ودانتي مؤلّف "الجحيم"، ثمّ مرورا بكتاب "ألف ليلة وليلة" الذي أنتجته الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وانتهاء بأبرز الأعمال القصصيّة والروائيّة العالميّة الحديثة منها والمعاصرة، حيث أثبتت جميعها دور الخيال في ابتداع أدب راق يجذب إليه القرّاء ويحثّهم على الاهتمام به واكتشاف عوالمه.

ويميل النقد ما بعد الحداثي إلى الربط بين تعقّد الحياة المعاصرة واحتوائها على قدر كبير من اللامعقول واللامنطق والكتابة الأدبيّة، حيث إنّ هذه الكتابة أضحت مطالبة بمعالجة "عجائبيّة" الواقع في حدّ ذاته، فهي إذا كتبت عن عوالم خياليّة لا يجب أن يكون ذلك من باب "الترف الإبداعي" أو البحث عن جماليّات يبحث عنها نوع محدّد من القرّاء، بل إنّ ذلك يتنزّل في صميم تفكيك الواقع والبحث عن سبل معالجته إبداعيّا وثقافيّا. فهل هناك عجائبيّة يمكن أن يوظّفها المبدع في أدبه القصصي أكثر من عجائبيّة الواقع ذاته الذي نحياه ونعيشه؟ ذلك أنّ مظاهر اللامعقول واللامنطق أضحت ماثلة أمامنا وما على المبدع إلاّ التقاط الأسرار المبهمة والغامضة وتحويلها إلى مجال الأدب عبر استخدام اللغة والتخييل.

نحن نعيش اليوم في عالم مفكّك لا منطق فيه ولا عقل من خلال الحروب والتهجير والإرهاب والتجويع والاقتتال الطائفي والعرقي، وجميعها فاقت الخيال حدّة وغرابة، كما أنّ العالم المعاصر أضحى عالم جنون وتوحّش مرئيّين بالعين المجرّدة، ولقد أضحى الإنسان مغتربا وغريبا وفاقدا للألفة والانسجام مع ذاته ومع الآخرين.. ومن هنا ازدادت علامات "الغرابة المقلقة" التي عالجها سيغموند فرويد في كتابه الحامل للعنوان نفسه. والأكيد أنّ هذه "المظاهر الواقعيّة" ذات البعد العجائبي قادرة على مدّ الأدب بوسائل جديدة لارتياد الآفاق الواسعة للخيال خاصّة إذا أضاف المبدعون إلى كلّ ذلك عناصر أخرى ذات وقع على نفوس القرّاء مثل الحلم والأسطورة..

ولقد نجح روائيّون عرب معاصرون في نسج علاقة تقاطع ذات فائدة كبرى بين الخيال والأدب، ومن هؤلاء سليم بركات وإبراهيم الكوني وفاضل العزاوي والطاهر وطّار وعز الدين جلاوجي وعبد الجبّار العش وإبراهيم الدرغوثي ورشيد بوجدرة وموسى ولد ابنو وغيرهم كثير، ولقد كتب هؤلاء بعض أعمالهم الروائيّة وفق أشكال تلتقط من الواقع ماهو سرّي وغامض منه، وما هو غريب وغير خاضع لأحكام العقل بسهولة. والواضح أنّه على الأدب خاصّة الرواية أن تقتحم مجاهل الخيال أكثر فأكثر وأن تبحث عن آفاق جديدة لها بعيدا عن القوالب المستهلكة كي تستمرّ، وتحافظ على وهجها، وتحقّق مقروئيّة أكبر.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم