هيثم حسين

“لكل شيء إذا ما تم نقصان” هكذا قال الشاعر الأندلسي أبوالبقاء الرندي، لكن رغم النقصان الذي يسري في كل شيء، يبقى المبدعون من أكثر البشر سعيا إلى الكمال، سعي يضخونه في أعمالهم، وهم واعون بأن لا كمال أبدا. بعضهم يتعرض إلى ضغط نفسي يصل حدّ المرض، وبعضهم ينكسر فيتوقف، فيما آخرون يفهمون شروط الاستمرار، ويوازنون بين طموح الكمال وحقيقة النقصان.

هل الكمال حلم الأدباء التاريخيّ أم أنّه وهمهم المتجدّد عبر الأزمنة؟ أليس البحث عن الخلود دأب الإنسان منذ قرون؟ هل بإمكان الأدب الالتفاف على فكرة النقصان وزعم الاكتمال من خلاص النقصان نفسه؟ وهل بالإمكان التأكيد على أنّه ليس هناك أيّ كمال بالصورة المتخيّلة والمشتهاة التي لا تستدلّ بدورها إلى بلورة أو تصوّر واضح؟

هل مؤلفات دويستويفسكي، أو ليو تولستوي، أو مكسيم غوركي، أو فيكتور هوغو، أو فرانز كافكا، أو غابرييل غارسيا ماركيز، وغيرهم الكثير من الأدباء من مختلف الثقافات والأزمنة والأجيال واللغات تظلّ محتفظة بمفهوم أو توصيف “الخلود” أم أنّها كانت خالدة لفترة محدودة، بمفهوم مؤقّت ولفئات من الناس؟

ما هو الكمال

لماذا لا يقتنع الكثير من الأدباء بأنّ أعمالهم تكون لمرحلة أو مراحل معينة، وأنّها كحيواتهم نفسها، لها عمر محدّد، قد يطول أو يقصر، لكنّ دربها في النهاية يوصل إلى كهف النسيان الذي يبدو فاغرا فاهه بانتظار الكثير من الأعمال المتراكمة عبر عقود وعقود من الكتابة والإبداع؟

يحاول بعض الأدباء تقييد نفسه بالصرامة والتعاطي مع كتاباته بنوع من جلد الذات، وعدم الاقتناع بأنّ المنجَز بات صالحا للخروج إلى الضوء والتنقّل بين أيدي القرّاء والنقّاد، لأنّ هوس البحث عن الكمال أو المثال، يغلبه ويغالبه، ويدفعه ليكون نزيل وهمه بوجوب اكتشاف الأمثل المخبوء في سرّ ما ينبغي كشفه.

الكمال في صيغة من صيغه يتجلّى في الجمال (لوحة للفنان ضياء العزاوي)
الكمال في صيغة من صيغه يتجلّى في الجمال (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

وهناك شعور يلازم الكثير من الأدباء، وهو الارتياب بأنّه ربّما كان بإمكانهم الارتقاء بعملهم أكثر نحو الكمال الأدبيّ المنشود، وأنّهم كانوا يحتاجون إلى المزيد من الصبر والتأنّي -حتّى ولو كانوا قد صبروا وتأنّوا لسنوات- قبل أن يدفعوا العمل إلى النشر، وإلقائه في عالم القراء كي ينبشوا في تفاصيله، ويبحثوا عن نقاط القوّة والضعف فيه، وتجريده من وهم الكمال الذي يرومه صاحبه.

ولعلّ الكمال في صيغة من صيغه يتجلّى في الجمال، الذي هو بدوره نسبيّ، ويختلف تعريفه أو توصيفه من شخص إلى آخر بحسب نظرته له، ولمّا يرتقي به إلى مرتبة عليا يتجرّأ على وصفه بالجمال المنشود، أو الاقتراب من الكمال والمثال..

وربّما سيبقى الصراع متجدّدا بين توصيف الكامل؛ المؤمثل، المؤسطر، والآخر المؤنسن، الواقعيّ، الناقص الذي يرتضي نقصانه ويتقبّله كنقطة تُعلي من مقامه، لأنّ ما يتمّ البحث عنه وهمٌ متعذّر تحصيله أو الوصول إليه، لذا فإنّ الواقعية تقتضي الرضا بالممكن ومحاولة تطويره ونفخ روح التجديد فيه عبر محاولات التجريب.

يصف البرتغالي ماريو بارغاس يوسا الكمال بأنّه سر غريب ومقلق. وأنّه لا يمكن أن نبلغ الكمال في حياتنا ولكن نشعر من وقت إلى آخر أننا نتقدم باتجاهه خطوات قليلة. وأنّ هناك دائما حلم الكمال حيث هناك يحصل الدمج ما بين الشكل والمضمون؛ ففي كل شيء تختفي الحدود، وكل شيء يضمحل ويندمج في شيء واحد.

وتراه يحار في إيجاد تعريف شافٍ له، فيقول إنّ الكمال ربما هو أيضا في الجمال المطلق إضافة إلى الحقيقة المطلقة، ويستدرك بالتأكيد على أنّ هذا صعب، لذا لا نقارب الكمال إلا في لحظات قليلة وبأحاسيس خفية تجعلنا نشعر أحيانا مثلا بأننا أمام شيء من الكمال مثل تحفة فنية أو كتاب رائع. أمام شيء كهذا نشعر بأننا نمتلئ، نشعر أيضا بعجزنا. فالفن، والأدب أحيانا قليلة وليس دائما، يعطينا هذا الشعور بالامتلاء، بالكمال.

يختلف تعريفنا للكمال، بمعناه الأدبيّ، من مرحلة إلى أخرى، فالكمال المتخيّل في مرحلة المراهقة، يتبدّد ويتحوّل إلى صورة باهتة مفعمة بالتشقّقات التي تخلّفها السنوات، لأنّ الوعي المكتسب، بالإضافة إلى الخبرات الحياتية المتراكمة، تجعل المرء يعيد حساباته من جديد، ويقف على أفكاره، وما كان يضفي عليه القداسة، قد يراه أبعد ما يكون عن تلك النظرة السابقة.

الخلود والتجدد

لا يتجسّد الكمال الأدبيّ في بعض الأعمال التي توصَف بأنّها خالدة، وهذا بدوره توصيف لا يخلو من جانب دعائيّ وتسويقيّ، أو حتّى من جانب تهويليّ وتعظيميّ، لأنّ العمل الذي قد يراه شخص ما خالدا وكاملا، قد ينظر إليه آخر على أنّه مملّ وبائس ولا يرقى إلى أن يوضع في خانة الأعمال التي توصف بالخالدة، وأنّ الخلود في حدّ ذاته مفهوم مراوغ، وما يمكن أن يعتبر خالدا بالنسبة لهذا الشخص، أو الشعب، قد يكون منسيّا ومهملا ومتواضعا لآخرين.

بإمكان المشتغلين في حقول الأدب والفكر والفنّ التحلّي بشيء من الواقعيّة والتعايش مع فكرة مفادها أنّ معظم ما ينتجه البشر في مرحلة من المراحل، ومهما بلغ من علوّ وإيحاء بالكمال، يتحوّل في مراحل لاحقة إلى تزيين أركان المتاحف الإنسانيّة، ويأتي بعدها من يضيف إليه، ما يبني عليه وينطلق منه ويدفعه إلى زوايا أبعد، ليحتلّ الصدارة مؤقتا، إلى حين صدور أعمال أخرى تدفعه بدورها إلى الوراء، إلى شيء من العتمة، أو تأخذ حيّزا من الضوء المسلط عليه، لأنّ هذه دورات الزمن التي لا تساير أحدا، ولا تنساق لوهم أو حلم مهما بلغ من قداسة أو تهويل.

هناك شعور يلازم أدباء كثيرين هو الارتياب بأنه ربما كان بإمكانهم الارتقاء بعملهم أكثر نحو الكمال الأدبي المنشود

ومن الضروريّ الإشارة إلى أنّ المناداة بفكرة التحلّي بالواقعيّة لا تضمر تيئيسا أو إقعادا عن المحاولة، أو دفعا لمهاوي القنوط والتعديم من احتمال إنجاز الفريد والساحر والمدهش في ميدان الفنون والآداب الإنسانية، لأنّ الابتكار وحده يوسّع دائرة الزمن، ويطيل عمر دوراته، ويسبغ على الآنيّ أو المؤقّت عمرا أطول حتّى ليكاد يتوهّم الكمال أو الخلود.

وهذا بعينه أحد أسرار الحرص الدائم على الإبداع، وعلى التفاني في محاولة الابتكار والبحث عن دروب جديدة للوصول إلى عوالم غير مكتشفة أو فضاءات بكر غير مطروقة.. وهنا يكون رهان الكتابة وتحدّي الكاتب.

عن صحيفة العرب اللندنية

https://bit.ly/33TnXiq

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم