البعض ممن لا يفقه معنى أن ينزفَ أحدهم من روحه فتراهم يتأبطون رؤاهم بكبرياء قيصر دون خوذة وسيف وكليوباترا، يطلقون الحكم المسبق بدافع ما يتأبطون مما تجود عليهم الصحف وبعضٍ أحلام اليقظة، وكتابٍ عابر قرأوه واستقروا عند فهرسته، عباقرة أو نقاداً او كتبة اعمدة يومية عن البطاطا ومتشردي محطات المترو والحكومات الزائفة التي تعيش فينا. هؤلاء لا يفقهون أصلاً أن هناك رواة وشعراء ينبغي أن نتركهم كأباطرة وملوكٍ جرمانيين.

هذا تفكير الروائي الفرنسي آلن روب غريه أصنعه أنا في متخيل مشاكس تماماً لما يفكر فيه في رده على سؤال صحفي وهو يحدد قيمة أن نترك أولئكَ الذين يدفعهم حرصهم وصمتهم وموهبتهم ليكتبوا رواية، وأنا هنا أترك كل هواجس الكتابة الروائية ومذاهبها وأتجهْ الى الرواية  الشعرية) معتقداً ومؤمناً إنها وحدها القادرة أن تفهم العالم بمستوى الوعي السقراطي الذي ينبغي أن نحصل عليه ومن خلاله يمكن تفسير العالم بالنظرة المثالية التي حملتها الحكايات السماوية ومراثي صلب القديسين والانبياء وتلك المآثر الحقيقية والحزينة التي كتبها العشاق والفقراء وأصحاب الموهبة.

لا أعرف سوى أن أكتب رواية شعرية، هذا قدر تفكيري آمنتُ به وبحرص كموروثٍ من جيب ابي المخروم ودمعته: إن التعامل مع الأشياء عن طريق موسيقى الكلمات  يؤدي بالغرض المثالي لتكون أنتَ وحدكَ من ينظر الى منجزكَ ومن ثم الشعور بالفخر.

ذلك الإحساس الذي ينمو في الحكاية ويجعلها تزاوج المحار على وسائدِ الرمل وبمقدورهِ أن ينجزَ شيئاً للتراثِ الروائي العالمي، وربما يستطيع أن يستوعبَ كل التراث الشعري المحكي قصائد وأساطير منذ خليقة الحرف والى اليوم، وبحياء وصمت سينسحب الشعراء الى زاوية المتحف وليتركوا الروائي (الشاعر) ليؤسس القدر الجديد للأدب، الأدب الذي أشعر أن متعته توازي تماماً متعة الأصغاء الى موسيقى حالمةٍ لحظة الارتماء في حضنِ امرأة شهية.

قد ينزعج الشاعر من فكرة إلغاء موهبته واحساسه، وربما سيلجأ الى مجده الغابر ليقول إنه المنشد الأول في هذه الحياة، عندما وحدهم الشعراء من جعلوا الحناجر تطلق أغانيها والقيثارات تعزف ألحانها، وعلينا أن نعترف أن هذا الحق الأزلي يرتهن بالشعراء، لكن التفكير الذي صنع الثبات الحضاري وطور التفكير في ذاكرة البشر وجعلهم يكتشفون قبل أيام أن حشرات طائرة آتية من كواكب بعيدة تعيش اليوم في الغلاف الجوي للأرض هو نتاج النص المبتكر بطريقة السرد والوصف والموعظة الدينية والمقال العلمي والبحث النفساني وحتما وراء كل هذه النصوص التي صنعت هكذا ظواهر وعصور حضارية هناك حكايات وأحداث تعتمد في أغلبها على الشعور الذي يتحول الى فعل بفضل ما يروى عنه كما في الكتب السماوية وأساطير الشعوب وتواريخ الملوك والأمم والاكتشافات العلمية.

لا أعرف لماذا سكنني الهوس بشعرية ( الحَكيّْ ) وقدرته على انتاج الهاجس الجميل الممتلئ بالمشاعر الانسانية والروحية والعولمية، حتى انني اشعر أن النص في قصيدة شعر مثلا يقودني الى تخيل العالم المنظور في رواية شيء ما يسكن قلب الشاعر ليرويه بأيفاعه ليتحول الموزون لديه الى حكاية العالم الذي يراه بطريقة المغشي عليه ولكنه هنا كرواية يؤسس لحدث الحكاية وليس لقصيدة يُطرب فيها سامعيه. وعليَّ الآن جعل قصيدة ( آناباز ) لسان جون بيرس انموذجا لشعرية الروي في قلب أحدهم، ودائما يطلق على آناباز ملحمة وليس قصيدة لأنها واحدة من روايات الحكاية الانسانية في موقفها الصعب والحرج ولكن هذه الرواية كتبت بشعرية فائقة التصوير والدهشة والبلاغة والغموض والحكمة.

كتب بيرس قصيدته تحت تأثير القصة الاغريقية المؤسطرة في الرؤية البطولية والحكيمة للقائد الإغريقي ( اكزينون ) في حملته العسكرية المسماة ( حملة العشرة آلاف جندي ) وراح يسرد الحكاية بالشكل السيمفوني العالي المفردة والايقاع وهو يجمع  قدرة الوصف والحديث عن المشاعر والمصائر بصيغة الانشاد المروي، وكأنه يجر في حكايته وقائع ما فاتنا ليحذرنا مما سيكون، انه كما عند ديستوفسكي الروح الشعرية القلقة مما تعيشه وتراه وتحسه وتقوده ليكون مجرماً او تائهاً او مرتعشاً .

هذه الرواية ( الشاعرة ) التي كتبها بيرس تمثل في معناها واحدة من خيال الوصف المقتدر للتبشير برؤية جديدة لهذا العالم، وكأنه هنا يريد أن يجعل هذا الروي مفتاحاً للتبشير بالمتغيرات التي ستبشر بفتوحات جنونية بدأت مع الحرب الكونية الاولى وانتهت بانهيار أبراج منهاتن والربيع الجديد للأوسط الشرقي الذي كان من بعض روايات بيرس الشعرية يمثل الوقوف عند اسوار صور وبابل ومجاملة الاسكندر في تفكيره بالذهاب مع حكايات ذاكرته الاستعمارية ..

وربما هذا المقطع من آناباز يرينا حجم المروي الشعري في نبض وحبر قلم شاعر كبير مثل سان جون بيرس: ((شعوبكم المبادة تنبثق من العدم، ومليكاتكم الطعينات يتحوّلن إلى يمامات في العاصفة، في إقليم الصواب عاش آخر فرسان القرون الوسطى، ورجال العنف ينتعلون المهاميز لأجل العلم. وبكتابات التاريخ الهجائية تلتحق نحلة الصّحراء، وعزلات الشرق تمتلئ بالخرافات. والموت ذو القناع الإسبيداجي يغسل يديه في ينابيعنا)).

أنه هنا يختصر الشعر كله في رواية التأريخ لكل احداثه والرؤى التي شكلت منذ أبدية آدم وحتى حوارات التعايش الحضاري بين الفاتيكان والأزهر، صورة المعاش قديماً وحاضراً ومستقبلاً.

أميل للرواية ( الشعرية ) وأفكر بكاتبتها والابقاء على إحساسي ضمن ما تفكر فيه حواسي مع كل تفكير جديد بصفحة اخرى في مشروع كتابة عن جمع ( الآلهة والجواميس في زنزانة في مديرية امن مدينة الناصرية )، أحتفي بالموسيقى النثرية التي تسكن ذكرياتي وانا اتلبس شخصية البطل والبطلة واتخيل المرئي في تفكيرهما وحكايتها في سيناريو لن يكون مكتوبا دون موسيقى خيال رومانسي وجميل حتى مع ايقاع صفعات المحققين ما دمت انا اشتغل المحكي في رواياتي على هاجس شريط الذكريات واستعادة ما حدث لأخت بطل رواياتي بعد غياب بعيد له في مهجره.

أشعر أن المنفى المروي بدون شعرية يبدو باهتاً وغير مكتمل التفاصيل وأن الواقعية لم تعد تعطي ما يبتغيه العولمي في الحصول على جمال مبتكر يتفوق على منافسة الفضائيات ومقاطع اليوتيوب والموضة المنفلتة في كل شيء بدءاً من مبتكرات الايفون وانتهاء بمهزلة سرقة مشاعرنا في فوضى البرنامج السياسية.

وسط هذه المحنة تأتي اساطير المحكي ( الشعري ) لتخلصنا من الضجر الذي كان أول دافع للملوك ليموتوا مبكرين ومن الضجر كما يصفه جاك بريفير، وهو أيضا يحكي في نصه الهائل هذا رواية البشر في تعاقب وجودهم وتصنيفاتهم وطبقاتهم عندما يضع نهاية الانسان الى عدم واحد تختلف طرائقه في قوله ( جاك بريفير ) :

(( الكل يموت ..الملك والحمار وأنا ..الملك من السأم، والحمار من الجوع، وأنا من الحب ...!))

لهذا أجعل وعلى هدي من بريفير الرائع روايتي تتفوق على أي مشاعر اخرى ليكون الحب (لُبها وقصيدتها) وبذلك يرتفع في وجداني الهاجس السقراطي وأستطيع أن اقف امام المرآة بغرور أني استطيع أن انتج مادة جيدة، امضي بها لصناعة المرح والفائدة في افئدة آخرين اتألم تماماً حين أراهم يصيرون أبناء بررة لآبائهم الطغاة واللصوص أو اولئك الذين يقتنعون ببؤس من خَلَفَهُم ليكونوا مثلهم قانعين بقدر أن يظلوا عمال طين أو وقودا للسيارات المفخخة.

إن قدرية التاريخ هي المتغير أبداً، ولن يوقف هذا المتغير أي صاروخ بلاستيكي ولا حاملة طائرات أو فتوى إرهابي ملتح. أو قس متعنت، إنما الحركة بوجودها وإرثها ومنتجها مرتهنة بالإنسان الذي يقترب من وجدان الحلم وتخيل ما كان موجوداً ليؤسس عليه ما يريد أن يُوجده.

وعلينا أن نختصر حركة التاريخ وطموحنا في هذه الرؤية ونمضي معها بعيداً في صناعة منتج يجعل حضارتنا أكثر ثمراً ومبرراً وحقيقة لتُعاش كما كان يتمنى أجدادنا أن تُعاش في تفكيرهم:

ابحث عن الفردوس الذي في الأرض قبل أن تبحث عنه في السماء.

وحتماً الفردوس الأرضي لن نجده دون أن تكون هناك مشاعر محفزة وتفكير جميل على مستوى الثقافة والعلم ومجمل ظواهر الابداع من الموسيقى الى التبشير بالحب عن طريق قناني العطر.

 

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم