عندما فاز محمد حسن علوان بجائزة البوكر عن روايته (موت صغير) وصفتُ فوزه بالزلزال. وقد عنيتُ بذلك أن أثر فوز السعودية للمرة الثالثة بالبوكر لا يسعد بعض الذوات العربية المنتفخة بأوهام التفوق والأسبقية والريادة ليس في كتابة الرواية وحسب، بل في مجمل الأداء الثقافي. وذلك في إطار الاسطوانة المملة حول دور النفط والبترودولار وغيرها من تهم لحظة البدواة المتخثرة. وهذا هو ما حدث بالفعل، إذ يصر بعض المثقفين الغائبين عن حركة التاريخ على الاستمرار في الانتقاص من ذلك الفوز، مع إصرار سافر على عدم قراءتها، وذلك ضمن سياق مبتذل لا يتعامل مع المنتج الأدبي العربي إلا من منطلق ما كان يُعرف بالمراكز الثقافية مقابل الهامش، الذي يُراد له أن يبقى هامشًا ومهمشًا إلى الأبد.

اليوم تفوز الروائية العمانية جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر للرواية المترجمة عن روايتها (سيدات القمر). وقبل أن تُطلق أول زغرودة بهجة، وقبل أن يّعلق أول قنديل للفرح العربي بهذا الفوز الكبير والمستحق، انطلقت الاتهامات من ذات المصدر المستنقع في نعرة الحط من قيمة كل ما هو خليجي، للتشكيك في الرواية والروائية والجائزة. حيث امتلأ الفضاء الإعلامي والميديائي العربي بتعليقات الاستنكار والشتم تحت مظلة مراوغة يسمونها الثقافة، ومن قبل أسماء ذات صيت أدبي. وبعض هؤلاء للأسف اندفعوا في هجاء الرواية من دون أن يراودوا أنفسهم بقراءة سطر واحد منها. هؤلاء الهجاؤون الذين ما زالوا يتدربون على نطق إسم الفائزة، المحمولون على عمى الغيرة والحسد، ما زالوا يخطئون في تهجي اسمها، وكأنهم يدللون بذلك الغيظ الموجب للزلل على جهلهم المضاعف. فمنهم من يسميها خوخة، ومنهم من يسميها خوجة وهكذا.

الخليج ليس فضاءً منفصلًا عن العالم العربي، لا على المستوى السياسي ولا الثقافي. والخليجي كإنسان وكمثقف يقر بمديونيته للآخر العربي داخل لحظة تاريخية متدحرجة. ولكنه اليوم ليس ذلك الكائن السلبي الذي يكتفي بالتلقي والانبهار إزاء منجز الآخرين. وكل تلك التحولات التاريخية والاجتماعية والثقافية بقدر ما سمحت للخليجي باكتساب صوته الأدبي والتعبير عن وجوده الحياتي، كشفت بالمقابل عن تآكل ملحوظ في عواصم المركز. كما أن مهبات العولمة العاتية، ولحظة الديمقراطية الكونية قلصت المسافة بين المنتجات الثقافية على قاعدة الوعي الفرداني للوجود. حيث تساوت فرص كل الذوات الإبداعية في ظل التوزيع الشامل والعادل للمؤثرات الأدبية واللاأدبية. وبالتالي فإن رواية (سيدات القمر) بقدر ما هي رواية عمانية، هي رواية خاضعة لشروط وتقنيات وآليات الكتابة الروائية كمكتسب إنساني عالمي. بمعنى أنها جزء لا يتجزأ عن الصيرورة الإبداعية الكبرى للبشر.

جوخة الحارثي ليست استثناءً إبداعيًا عُمانيًا، فهي واحدة من أسماء عُمانية حُسنى تمتلك منجزها الثقافي اللافت، على كل المستويات الأدبية والفنية. وهي حالة منفصلة ومتصلة في آن برحيق تجربة إبداعية ممتدة في الزمان والمكان. ورصيدها الأدبي والأكاديمي يشهد لها بذلك. والمفرح أنها نجت من قدر الانطماس داخل أسوار عُمان الحديدية، حيث يعاني المنجز العماني من الموت داخل حيز مكاني ضيق، على الرغم من مناشداتنا الدائمة لأحبتنا في عُمان لإيجاد طريقة ما لتصدير ذلك المنتج الإبداعي المتنوع والمتعدد، وذلك عبر مؤسسة رسمية أو أهلية تعي معنى الثقافة كمنتج قابل للتصدير والتأثير.

وإذا كان المنجز العماني بكل تجلياته الإبداعية لا يحتاج إلى رافعة من خارجه للوصول إلى الآخر، فإن رواية (سيدات القمر) لا تحتاج إلى من يترافع عنها من الوجهة الإبداعية. فهي في المدار الصحيح اليوم، حيث الوعد بمطالعات عالمية ستكون هي الفيصل في الحكم على كفاءتها ونواقصها. أما حفلة الزار البطرياركية العربية المسنودة بعويل الغيرة الأنثوية، فلم ولن تكون هي المعيار الذي يُحتكم إليه. وعلى القارىء والناقد والمثقف العربي أن يتجرأ على الارتطام بالرواية وقراءتها من داخلها كنص إبداعي، بدل التطواف البائس حول ظروف الفوز بالجائزة، والبحث العبثي عن مبررات للامتناع عن قراءتها.

عن صفحة الناقد محمد العباس في الفيسبوك

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم