" امتلاك مخيلة" مفهوم غائم، يستخدم بكثرة، يستخدم بلا حذر ، ويستخدم في الغالب استخدام خاطئ.. فهي مجرد منطق مغاير

عرفنا كريستوفر كولومبس على دنيا بكاملها بغزوه لأمريكا اللاتينية ، وبخطأ جغرافي تغيرت معالم الكوكب الفاتن، أضيفت أماكن وانزاحت أخرى، منذ ذلك الحين بدأ عالم روائي شديد الغنى بالتلاقح بمزيج غريب ، وأصالة لا تضاهى مع آداب القارة العجوز ، خاصة ذاك الناطق بالأسبانية، خاصة عند تخلالكامل عن الجذور الاستعمارية لأدب البلد المحتل أيا كان، واندغامه بخصوصية المكان جغرافياً ومن ثمة ثقافياً . أصبح أدب أميركا اللاتينية يستقبل في أوساط متذوقي الأدب باحتفالية صاخبة مثل أعجوبة، أو عطية إلهية، حيث ألصقت بذاك الأدب أكثر الصفات بعدا عن الواقع، وبالتالي المنطق مثل "الغرائبية، السحر، الماورائية وفي أحسن الأحوال الواقعية السحرية.. المثير للاهتمام أنه كلما بدأ أحدنا مناقشة شروط ذاك الأدب أو محاولة استشفاف مدى أصالته أو تعقب منابع حكاياه ، تصدى لك أحد المبدعين العباقرة، و منحك إجابة تحيلك إلى نقطة الصفر قائلا: "إن أدباء أميركا اللاتينية يملكون مخيلة" فيصمت الجميع عجزا، أمام الوصفة السحرية العصية على التحقق، ويعودون إلى اجترار خيباتهم والتحسر على المخيلة المغتالة على أرصفة مدننا! فمن أين لنا بمخيلة!؟ حيث لسنا من كتاب أميركا اللاتينية ولم نقم بزيارتها قط!

فما الذي يعنيه أن يمتلك أحد فينا مخيلة؟

مع الاحتلال الأسباني لأمريكا، وعند وصول الجنود الأسبان إلى تلك الأرض الغنية بالموارد والمعادن، خاصة الذهب ، وصلوا بسفنهم ، وأسلحتهم ، وبخيولهم المروضة بالطبع، يروي أحد المؤرخين: أن أول حالة من الاحتكاك الحقيقي أصابت الجنود الأسبان بالذهول، والسكان الأصلين بما يشبه الهذيان، وصل العسكر والعلماء والقادة والمساحون و الطبوغرافيون، جاعوا فطلبوا طعاما لهم و لخيولهم، فما كان من السكان الأصلين إلا أن أحضروا ذهبا للخيول التي تمضغ لجامها "ظنوا اللجام المعدني طعاما"، وبالمقابل ظن الجنود أن السكان الأصليين هم أحفاد "ميداس" يطعمون أحصنتهم ذهبا بدل العشب!

برأيي أن هذه الحادثة الشديدة الواقعية، هي حكاية روائية بامتياز! وفيها من المخيلة ما يكفي كي تعيش، أزمنة فوق الأزمنة! أنا هنا طبعا لست بصدد شرح البعد الأخلاقي، ولا مناقشة سوء الفهم الحضاري، والأبعاد الفكرية، و الفلسفية لتلك الحادثة، لكني سأتوقف كما قلت عند المفهوم الأول لكلمة مخيلة كما تشرحه هذه الحادثة!

الاختلاف! مفتاح أساسي في قراءتنا لتلك الحادثة، لدينا الإسبان من جهة والسكان الأصليين من جهة أخرى! لدينا هنا جغرافيا مختلفة، لغة مختلفة، ذاكرة مختلفة وبالتالي حلولاً ومنطقاً بالضرورة مختلفين، ولّدا سوء فهم مبرر، ثم فرضا واقعاً مغايراً وبالنهاية ولدت الحكاية! بغرائبيتها وسحرها، وحكما بحقيقيتها وواقعها!

السؤال الآن؟ هل نحن بحاجة إلى كل هذه العناصر المعقدة لنحقق حكاية ناجحة تمتلك مخيلة!؟

الجواب هو لأ.. على الرغم من كون تلك العناصر، هي من العناصر الداعمة لأي أدب جيد

لكن بالنهاية الذي يشكل الخيال الخلاق هو العقل! الذهنية، المنطق المتخيل هما من أخرج رجل الكهوف من قبره المظلم ليبحث عن الضوء، هذه المساحة الضئيلة من الـ "ربما" هي كل ما تحتاجه المخيلة لتكون غنية! إشكالية الاحتمالات، وأسئلة الضرورة والجدل.

ــــــــــــــــــــــــــ

عن صفحة الكاتبة عبير إسبر في الفيسبوك

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم