تبقى المسافة بين الإنسانية والفن هي المساحة التي يتمدد فيها الإبداع ليتنفس هواءً نقيا ساحرا، علاقة تلازم وتناقض ورؤية لم تكتمل ولن تكتمل ،أشبه بنظرية ناقصة يتحتم على البشرية إكمالها..

الأدب، المعرفة، الجنون، العظمة، الحرية ...الخ ،وكل ضروب الجموح الإنساني، لا تفتأ تشغف بسبر تلك المساحة وزيادتها كغاية تتجدد بتجدد الأزمنة، وكلما أوغل الكتاب والمبدعون في قياس ذلك القصر البين بين غاية الإبداع والفن وقدراته المحدودة، زادوه رمادية وتماهيا، لتغدو كل نظريات الفن والمعرفة محض اجتهادات وفرضيات قاصرة كبعد لانهائي وقصيرة الأجل ما تلبث أن تدحض نفسها بنفسها،كمتواليات براقة سرعان ماتسقط في عتمة التقادم لتغدو عجزا غائرا يثلب قناعات الأمس بإحتياجات الحاضر وبمآزقه المناقضة لثقافة الأمس.

قبل فترة قصيرة قرأت كتابين نقديين عن الفن الروائي خلال القرن العشرين ووجدت في طياتهما اختزالات شتى لتقلبات السرد صعودا وهبوطا، جودة ورداءة، كظل مصاحب لصعود وهبوط الحضارات والأمم بشقيها الاقتصادي والسياسي، وكانت رواية (قواعد العشق الأربعون) للتركية أليف شافاك هي الكتاب التالي للكتاب الأول..

تظل الرواية - أي رواية - محاولة صادقة لكشف تلك العلاقة الأزلية بكل تغيراتها الخفية..

ربما أجادت أليف شافاك في إتقان أساليب الحداثة ومابعدها، ومضت في بناء قصتها في متن ميتاسردي سلس مشوق، ضمن توليفة تاريخية تحاكي عصرا لايحفل كثيرا بجماليات المثل إلّا من باب تشويهها وخرق مسلماتها، رغم أنها أجادت لحد ما في الإيحاء بتخطي بعض ممايهيؤه ذلك التشويه من إشتغال مباشر في مناكفتها، تبدو في آخر المطاف وكأنها تلقي بأدواتها الطموحة في جوف لم تزده الإ سقما وعبثا.

للوهلة الأولى بدا لي أن شافاك كاتبة متصنعة تجيد التأليف وحبك القصص وشيئا فشيئا أضحت كاستحالات مجردة تناهض مخيلة الأجيال من داخل الحب، وتذود عن حرية الإنسان ولو بحثه على الحركة ومن غياهب الخطيئة، لكن ذلك لايعفينا من التساؤل: هل السير بركب العولمة والإخلاص لنظرياتها النقدية، باتت كل أدوات الفن و الإبداع؟

لقد دفعت موجة ما بعد الحداثة الأدب والفن بشكل قسري للغرق بإرث الحضارات كلها، بحيث لم تبق من غاية للإبداع سوى الخوض ملابساتها دون مواربة ،كفتات أخير يحاول أن يخرج السرد من مآزق الطرق المسدودة بعدما جففت العولمة بكل تغولات الشركات العملاقة ذهن الإنسانية من جماليات الفكرة الخلاقة وجردت المبدع من آمال كثر ، وأبقت للفنون بما تتيحه لها من غوايات لإرضاء ذائقة سادرة بتقنيات عصر موغل في تغييبه للاعتداد بنفسه.

ربما حذت شافاك في السير على الحواف الرفيعة لمعضلات الأدب حذو المغتنم للفرصة الأخيرة، وأجادت في مضيها في سبر حاجة العصر للحب ولو بإغراق الإنسان في قعر الضياع وفق مآلات تراجيدية للأمل حين يغدو تفتقا خادعا للجمال في سياقات اللامعنى واللأثر لإستلهام طاقة الحب في عصر الماديات الصماء.

ربما لم تعد مشكلة شافاك وحدها، بل هي مأزق كوني أوصلته القوة إلى التشيؤ في مسخ جوهري لروح الحضارة التي تشكلت من ماء الإبداع الإنساني..

هكذا يحاول أغلب كتاب العالم عيش اللحظات الأخيرة في حياة الإبداع السردي على وجه الخصوص، كل حسب تحجيمه لإنزلاقات أكثر بؤسا لايمكن تفاديها، في توهان قد يبدو محمودا لدى الكثيرين للإنسان في ردهات الزمان والمكان تمضي وفق متطلبات الحكاية المسلية او الحكاية ذات السمات المابعد حداثية مهما انطوت على إيحاءات لمعان سامية، تظل في المحصلة سلوى البحث عن متلقين، أشبه بنداءات تنشد الالتحام بالجوقة بحيث لن يلقى لها بالا.

مثلما قيدت الحرب العالمية الأولى الفن، لاسيما الفن الروائي، ودفعته لأقاصي السكون لتخمين ذبذبات الوعي، ما حدا بالناقد جورج لوكاش بانتقاد ذلك الجمود وتقييد حركة الإنسان، تصل به تغضنات الرأسمالية لأقاصي اللاجدوى بدفعه قسرا للخوض في إرث الحضارات والشعوب وإخضاعها مجددا للعبة التجريب والتخييل ليس لغرض صوغ جمالي يرتأي تنقية حصيفة لالتباسات خلت، بل اشتغال ذاتي لاينطوي الإ على محاولات محضة لإنعاش فن لايملك الغاية الخالصة لمحاكاة الحقل الشائك ،وغدت المشاعية هنا ضمن تداخلات السرد بالمخيلات الخصبة للأمم ، فلم تعد آفاق الإنسانية صنيعة الإمبريالية العالمية فحسب بل بات الموروث الإنساني برمتة بيئة خصبة لأكثر من خيال لبعثها للأذهان وفق ماتقتضيه طموحاته وفلسفته ،وغدا العالم وكل موروثات الامم والشعوب فضاء مكانيا لحركة شخوص سردية من كل الجنسيات في متن سردي واحد، في تناقض مؤلم لحركة سكان المعمورة على الأرض، والتي تزداد تعقيدا من دولة لأخرى، بحيث تبدو لنا فصاءات السرد كفتح فني لتلك القيود..

لقد وجد كثير من القراء والكتاب بغيتهم في كتابات شافاك، بحيث مثلت لهم صيغة عصرية جاهزة لإعتلاء موجة الكتابة، خصوصا في القوميات المجاورة لتركيا بلد الكاتبة، وفعلا تنامت موجة سردية في محاكاة تلك التقنية التي اختمرت واكتسبت ثقة الفاتحين الأوروبيين، فحينما يتفتق في البلاد العربية لون أدبي أو فن من الفنون يتوجب علينا أن نبحث عن أبوة جاءت به إلينا، قبل أن نغدق عليه كل سمات واقع قاحل من كل الأنماط الحية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم