سنة ١٩٣٣ صدرت رواية للكاتب الدنماركي- النرويجي أكسل ساندموسه بعنوان ”لاجئ يجتاز خطواته“. صوّر فيها مدينة خيالية أطلق عليها اسم ”يانته لاند“، التي يقال بأن ساندموسه قد أعاد إنتاجها أدبياً على غرار مدينته ”نوي كوبينغ مورس“ التي ولد وعاش فيها لسنوات ثم غادرها إثر عدم تقبله للأعراف والتقاليد السائدة فيها حيث طبيعة حياة سكان المدن الصغيرة الذين يعرفون بعضهم بعضاً وتجمعهم طباع وسلوكيات متشابهة لا تتطور أو تتمايز بسهولة. في مدينته الخيالية وضع ساندموسه عشر قواعد سلوكية وأخلاقية ستغير طبيعة الحياة الاجتماعية في اسكندنافيا حتى يومنا هذا، وتنص هذه القواعد التي عُرفت فيما بعد ”بقانون يانته“ على الآتي:

١. إياك أن تعتقد بأنك شخص مميز ٢. إياك أن تعتقد أنك بمثل مستوانا ٣. إياك أن تعتقد بأنك أذكى منّا ٤. إياك أن تتخيل أنك أفضل منّا ٥. إياك أن تظن بأنك تعرف أكثر منّا ٦. إياك أن تظن بأنك أكثر أهمية منّا ٧. إياك أن تعتقد بأنك تصلح لشيء ٨. إياك أن تضحك علينا ٩. إياك أن تعتقد بأن أحداً يكترث لك ١٠. إياك أن تعتقد بأننا سوف نتعلم منك شيئاً

تبنى الدنماركيون قانون يانته بحذافيره واعتُمد لديهم كأساس لأخلاقيات اجتماعية وجمعية لقيمهم التي تقربهم من بعض البعض لا سيما في بلد صغير الحجم قليل بعدد سكانه ومعروف بنظامه التكافلي. المثير للاهتمام هو تبني البقية من الإسكندنافيين لهذا القانون أيضاً دون أن يُستمد أو يَتفرع منه تعاليم أخرى عدى تلك الوصايا العشر التي ذُكرت في ”مجرد“ رواية، كُتبت في بدايات القرن العشرين وكانت لربما ستُنسى بعد حين. حُفر القانون في وجدان شعوب الشمال عميقاً دون تلقين، بل أن نسبة كبيرة منهم وبعد سنوات طويلة لا تعرف ما تنص عليه هذه التعاليم السلوكية بالضبط لكنهم يطبقونها باتفاق شبه ضمني ويتصرفون وفقها أخلاقياً واجتماعياً بشكلٍ تلقائي.

تحكي الصحفية الدنماكية ”أناغريتا راسموسن" التي سكنت واشنطن لفترة، حيث القيم الرأسمالية في أوجها والتي يبدو انها قد علّمت عليها بعض الشيء، تحكي أنها حين عادت لزيارة العاصمة كوبنهاغن، وفي إحدى جمعات الأسرة المحتفية بها، ذكرت عرضاً حين سئلت عن ابنها: ”يبلي جيداً في دراسته في الواقع هو الأول على صفه“. تقول إنها عرفت للتو بأنها قد خرقت الدستور الأخلاقي بهذه الكلمات حين ساد صمتٌ حرج طاولة الطعام حيث اجتمعت الأسرة. ” لو كنتُ ذكرت بأنه يرسم جيداً لما كانت هناك من مشكلة لكن التبجح بذكري تفوقه على أقرانه كان خطأً كبيراً “.

نعم، في الدنمارك يركب أعضاء البرلمان والوزراء ورئيسهم المواصلات العامة والدراجات الهوائية صباح كل يوم في الطريق الى العمل، بما أنها وسيلة النقل الأكثر شيوعاً في البلاد. ستمُر في شوارع العاصمة دون ان يلحظك أحد، كأنك شبح غير مرئى لا أحد ينظر في عينيك ليشعرك بالتميّز والانطباع الذي ستتركه مهما كان لن يلبث طويلاً وسيُنسى لأنك غير مهم، مهما كنتَ أو كانت مكانتك في مجتمعٍ تكافلي وتكاملي يدخل قانون يانته في كافة تفاصيله الدقيقة حتى تلك التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدةً عنه. فالصفة الأساسية للموضة الإسكندنافية مثلاً هي البساطة والألوان المحايدة غير اللافتة للنظر أو المميزة. إظهار الثراء عبر ارتداء الثياب الغالية يعد عيباً ومثار سخرية ويُنصح أن تترك المتأنقات الشنط الغالية في البيت اذا ما نوين زيارة كوبنهاغن. ليس غريباً أن تنبع ”المينيمالزم“ كأسلوب حياة من إسكندنافيا وترتبط بهم وبعاداتهم، من الأكلة الدنماركية الأشهر ”سمور برود“ والتي لا تعدو أن تكون قطعة من خبز الجاودار عليها إضافات متنوعة، وحتى الأثاث السويدي الملتقط من متاجر ”إيكيا“. الألقاب شبه مختفية، الطالب ينادي أساتذته باسمائهم الأولى منذ الصفوف الإبتدائية وحتى المراحل الجامعية، بل أن الملكة نفسها المشهورة بتواضعها، طالب بعضهم سحب ألقابها الفخرية منها.

مع كل ما ذكر وعلى الرغم من قناعة العديد من الدنماركيين بأن قانون يانته أحد الأسباب الرئيسية في تَصدّرهم قائمة الشعوب الأكثر سعادة في العالم، إلا أن البعض منهم بدأ بالتذمر منه مؤخراً. هذا العالم الجديد لم يعد واسعاً كما كان لتصنع لنفسك فيه عوالمك الصغيرة التي تنعزل فيها عن الآخرين. هذا عالمٌ جديدٌ كلياً، صارت خطوط الموضة فيه تصنعها فتاة مراهقة في ”سيؤل“ تطل على الدنيا من نافذة اليوتوب، وبات صعباً اليوم أن تواجهه المراهقة الإسكندنافية التي تعودت على واقعها البسيط متساوي الأضلاع.

نعم للاختلاف لا لقانون يانته هكذا يصرخ شاب دنماركي علي اليوتيوب، وهو يرفع قبضته عالياً كأنه يقود ثورة ضد المساواة التي أرهقت تميزه. عدم الارتياح هذا من قيمٍ تغلغلت عميقاً في تلك المجتمعات وغيّرت طبيعة الحياة فيها في القرن العشرين، يبدو بداية متململة لمرحلة جديدة. ربما لن يصمد طويلاً قانون يانته أمام غزو القيم الرأسمالية في هذا العالم المعولم جداً والصغير جداً. هذه الأسواق التي تمطرنا بالبضائع التي دائماً ما تشعرنا ان شيئاً ما ينقصنا وبحاجة الى اقتنائه. هذا العالم الذي لم يعد يقبل بصفاتك كما هي ولا يكتفي بأقل من صيغ التفضيل، ويريدك مغالياً رفيع المستوى ويرفضك بسيطاً. لا يقبل أن تكون جميلاً فحسب بل أجمل، أفضل، أحسن، أغنى وبالتالي سيستغني عنك حالما يخفت بريق صورتك المبهرجة ولو قليلاً ليتخلى عنك ببساطة متناهية، فلن تكون بائساً فحسب بل الأكثر بؤساً، الأكثر شقاءً، الأقل حيلة.

وإذا كان قانون يانته الذي يبدو راسخاً وقوياً في دول تتمتع بحصانة ثقافية وتأريخية غير واهية مهدد بالانقراض، فكيف إذن سنقابل نحن مثل هذا الإجتياح الفكري والثقافي والقيمي؟ لا يمكنني الكف عن التفكير في السؤال السيريالي شديد الإلحاح والذي سيبقى لربما دون إجابة: ”هل من الممكن ان نُسقِط مثل هذه المفاهيم (مع بعض تعديلاتها) عمودياً على رأس الكائن العراقي؟“ الانسان العراقي البسيط والعادي جداً؟ وكيف سيتجاوز محنته الشديدة التي سيقع فيها ما بين التعالي والتفاخر بالمعرفة والإحساس الملازم له بالقصور وعدم التقدير، في بلد التجاذبات الشديدة، والقيم غير المعنونة، والمشاعر المتنافرة؟ أسئلة تراودني دون إجابة، فكلما توغلتُ عُمقاً في العراق شعرتُ أنني (ومن رخصة المتنبي) ”أكري كما أرميت.“

ربما عليّ ان أختتم بمقولة سلافوي جيجك الصادمة، ”من السهل تخيل نهاية العالم، على نهاية الرأسمالية“. الرأسمالية بكل قيمها المهدِدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

من صفحة الروائية حوراء النداوي على الفيسبوك.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم