المقترح الجريء، غير المسبوق، الذي يقدمه الروائي الأميركي بول أوستر إلى العالم يقضي بزوال إسرائيل نهائيا من المنطقة. ورغم جسامة وخطورة عمل ـ حلم كهذا إلا أنه إذا ما كُتب له التحقق فلن يكون ذلك عبر أيّ جهد عسكري أو عنفي، وبالتالي فسوف لن يكلف قطرة دم واحدة، لأيٍّ من أطراف الصراع! لقد انشغل أوستر بالتفكير، طوال سنوات، بحلول مغرقة بالمثالية، حسب وصفه، لمعالجة هذه المعضلة التي يبدو حلها فوق طاقة البشر، وأخيراً يهتدي إلى خطته السحرية التي تتضمّن، إخلاء إسرائيل من جميع السكان الإسرائيليين وإعطاءهم ولاية وايومنغ الأميركية، هائلة الحجم، نادرة السكان (حوالي نصف مليون)، والداعمة للسلام العالمي، وذلك عبر شراء الحكومة الأميركية المزارع والمراعي في الولاية وإعادة توطين سكان وايومنغ في ولايات أُخرى. وعن هذه الولاية تفيدنا ويكيبيديا، أنها تقع في إقليم الجبال، غرب الولايات المتحدة، ترتيبها هو العاشر من حيث المساحة، والأقلّ سكاناً، وثاني أقل ولاية من حيث الكثافة السكانية في البلاد. لقد سطّر أوستر أمنيته الإنسانية الشجاعة هذه، في رسالة له إلى صديقه الروائي الجنوب إفريقي جي. إم. كويتزي، وهي واحدة من مجموعة رسائل دأب الكاتبان على تبادلها خلال ثلاث سنوات 2008ـ2011 تضمّنت آراءهما ومواقفهما العديدة من مختلف القضايا، ليشكّل كل ذلك كتابهما "هنا والآن" الصادر أول مرة عام 2013، والطبعة العربية بترجمة أحمد شافعي عن الكتب خان المصرية 2016. وانطلاقاً من عبارة لكويتزي تخص الاقتصاد، تقول: (نفضّل نحن، أو يفضّل "العالم"، العيش في بؤس الواقع الذي خلقناه، على أن نخلق واقعاً جديداً نتفق عليه)، يستعيد أوستر حلمه، الآنف، بشأن حل معضلة إسرائيل، مثمّناً جملة كويتزي، ليطبقها على ميدان السياسة، متخذاً من صراع الشرق الأوسط، كما يسميه، واحداً من أمثلة للبؤس الذي يغرق فيه العالم دون التفكير بحل جذري لأسبابه. ومن باب تخليص العالم من البعد الكارثي لكلفة وجود إسرائيل، وفي الوقت ذاته، تخليصاً لها من المصير الجحيمي الذي ينتظرها كما يتخيله أوستر، المتحدر أصلاً من عائلية يهودية بولندية، مفصحاً عن نظرته القاتمة: .."إن دمار إسرائيل سوف يتسبّب في ألم لا براء منه لكل شخص تقريباً على وجه الأرض. حرب عالمية ثالثة، أعداد لا حصر لها من الموتى، كارثة تستعصي على التصوّر). وفي رسالة لاحقة ينقل من داخل إسرائيل خلال زيارة لها عام 1997 صورة يجدر التوقف عندها، حيث يقول إنّ الشعور بالزوال هو هاجس الجميع وأن الخوف يعمي الإسرائيليين، معتقداً أن محنة إسرائيل متأتية من أنّ جيرانها العرب ينظرون إليها بتعالٍ، وهم عازمون على محوها من الخريطة، من دون التفات منه إلى منطق تجريم إسرائيل، كونها دولة احتلال وعدوان اقترفت ما اقترفت على مدى ما يقارب السبعين عاماً. غير أن كويتزي لا يشاطره أفكاره هذه، فيصحح له محدّثاً عن الظلم الهائل الذي تعرّض له الفلسطينيون، وعن الثمن الذي دفعوه لأحداث في أوروبا لم تكن لهم أي نوع من المسؤولية عنها، وإن لم يُخف سخطه على القادة الفلسطينيين، من الرجال، فهم كما يرى، مسؤولون بدورهم عن استمرار الصراع، دون طائل، ويحثّهم على الاعتراف والتسليم بالهزيمة. وهو في ذلك ينطق عن ثقافة أخرى، لا ترى المأساة الفلسطينية على حقيقتها، بل يساوي في الأخير بين الجلاد والضحية، رغم مضاهاته بين النظام الإسرائيلي ونظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا. إن الحل، تبعاً لرأيه، يكمن في أن تتولى الفلسطينيات زمام السلطة. وبالعودة إلى أوستر، الذي بدا في مجمل موقفه، مشفقاً على إسرائيل، إلا أنه في الوقت نفسه لا يكتم نقده لبنيتها الدينية، من منظوره العلماني كما ينتقد ساستها اليمينيين، كبنيامين نتنياهو الذي يصفه بالغبي والشرير.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

بحثاً عن الأسرار

تثير المراسلات بين الأدباء أو ما يعرف بأدب الرسائل الانتباه غالباً، أكثر مما يثيره نتاجهم ذاته، وقد يكون مضمونها أهم إبداعياً أو فكرياً من هذا النتاج، فهي تستقطب شغف القرّاء وفضولهم، وليس ذلك حصراً على مكان دون مكان من العالم، وما ذلك إلّا لانطواء هذه الرسائل على شيء من السيرة الذاتية، إن لم تكن كلّها. وهي إجناسياً، تنتمي إليها. ويميل الكثير من القراء إلى أدب الرسائل بغية العثور على لُقيتهم من الأسرار، حتى لو ليس ثمة من أسرار. والرسائل تحوز اهتمام القارئ وإعجابه أكثر، إذا ما اتصفت بالصدق والبساطة وعدم التكلف، فضلاً عن الميزة الأهم، وهي عمق الأفكار، إضافة إلى ما يمكن أن تقترحه من جديد كتضمنها إحالات إلى آثار أدبية وجمالية تستدعيها طبيعة الموضوعات المتناوَلة، لتكون بذلك مصدراً معرفياً مهماً، وإن انساب هذا تلقائياً في سياق نقاش المتراسلين وحوارهما. وليس مهماً هنا إن كان التراسل عفوياً، أم مخططاً له أصلاً، كما في هذا الكتاب، موضوع هذا المقال، وهو ما يذكّر برسائل الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم حين اقترح الأخير على درويش في لقاء لهما في استوكهولم منتصف الثمانينيات، بدء المراسلة، ليقول درويش لاحقاً، عن ذلك في رسالة: "لن نخدع أحداً، وسنقلب التقاليد، فمن عادة الناشرين أو الكتّاب، أو الورثة أن يجمعوا الرسائل المكتوبة في كتاب. ولكننا هنا نصمم الكتاب ونضع له الرسائل. لعبتنا مكشوفة". وهذا هو ما فعله بالضبط كويتزي وأوستر ـ وإن لم يصرّحا بذلك ـ فهما قد أعدّا كتابهما سلفاً وغذّياه برسائلهما. لقد كان كويتزي هو من افتتح هذه المراسلة متحدثاً عن الصداقة، مفهوماً وفلسفةً، منوّهاً إلى أنه بحث عن كتب تتناولها، وهي كثيرة كما يذكر، إلا أنه لم يجد سوى القليل منها الذي يمكن أن يثير الاهتمام، عكس الحب. ومن هذا القليل الذي استجاب له اهتمام كويتزي يستقي العديد من القبسات ليضيء بها رسالته إلى صديقه بول، منها قول أرسطو، "لا يستطيع أحد أن يصادق شيئاً جامداً". أو عبارة تشارلز لامب، "قد يكون للمرء أصدقاء دون أن يرغب في رؤيتهم". ويعقّب على جملة لامب اللافتة حقاً، بالقول: "وهذا وجه آخر من أوجه اختلاف الصداقة عن الارتباط الإيروتيكي". ولأن موضوعة الصداقة، شبه مهملة، في التنظير الأدبي أو الثقافي، حديثاً، فقد كان أكثر التأملات المثيرة للاهتمام هو الذي يأتينا من العالم القديم، حسب تنقيبات كويتزي، الذي يقول، بعد خوضه وتأمله في عدد من هذه الأفكار: باطن الصداقة يتفق وظاهرها ـ خلافاً للحب أو السياسة اللذين لا يتفق باطنهما، مطلقاً، مع ظاهرهما، أي أن الصداقة شفافة. بالمقابل ثمة الأفكار التي يطرحها أوستر عن الصداقة رداً على رسالة كويتزي وتواصلاً معها، فيقول، من بين ما يقوله في رسالة طويلة: أفضل الصداقات وأبقاها ما يقوم على الإعجاب. وهذه هي صخرة الشعور التي تربط اثنين على المدى البعيد. كما يذكرنا بالمبادئ التي ينبغي أن تقوم عليها الصداقة: احترام، وطيبة وثبات شعوري.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

قراءة بلا عقدة ذنب

فضاء التراسل بين اثنين هو فضاء مغلق ما لم يتم كشفه وإشراك طرف ثالث بقراءته. وبصرف النظر عن محتوى الخطابات المتبادَلة، يبدو عالم الرسائل، في عمومه، محفوفاً بالأسرار، صغيرة كانت أم كبيرة. ومع الرسائل الأكثر خصوصية التي تجد طريقها للنشر رغماً عن أرادة كاتبِيها، يتملّك بعض من يقرأها شعور مَن يتطفّل على مكان محظور، بتعبير الياس كانيتي في دراسته لرسائل كافكا إلى خطيبته فيليس، وهو ما ينطبق بنفس الدرجة، إن لم يكن أشد على رسائله الملتهبة، فيما بعد إلى صديقته ميلينا والتي قالت عنها ابنة الأخيرة، أوانَ نشرها أول مرة عام 1952، "إنها على ثقة أن أمها وكافكا ما كانا ليوافقا على نشر رسائلهما". غير أن الأمر مختلف تماماً هنا مع رسائل أوستر وكويتزي، فأحاديثهما الرسائلية تدور في فضاء مفتوح، وهي مكتوبة لقارئ ثالث، أساساً، رغبة منهما في مشاطرة الآخر تأملاتهما وخبراتهما، لذا لا يشعر قارئ الرسائل بأي عقدة ذنب حيال وجوده في منطقة هذين الكاتبين، بل يشعر أنه مدعو منهما كضيف يشهد ويتشارك حوارهما، فسِمة الثقافي ـ الفكري هي السمة الأهم والأبرز في هذه الرسائل وحتى الشخصي يأتي، غالباً، ضمن هذا السياق، فكلّ شيء يمرّ عبر حاسة مثقفة، تنقّب حتى في تفاصيل المظاهر اليومية، مهما بدت عابرة، كما في معرض الحديث، مثلاً، عن الطعام ونظام المائدة، فيستحضر كويتزي كتاب إرنست بول عن كافكا، ليبيّن لنا موقف كافكا من الطعام، وهو موقف ذو طبيعة عقابية للذات، وتدميرية في النهاية. حتى كلام أوستر عن زوجته سيري هوستفيد يكون، في الغالب، بصفتها روائيةً ومختصة نفسية وما يستتبع ذلك، وإن بدا أوستر أكثر بساطة وتبسّطاً في الحديث عن شؤونه الخاصة والعائلية، قياساً إلى كويتزي، الذي كان جاداً وأكثر فكريةً وعمقاً في طروحاته وأسئلته أو معالجاته لمختلف القضايا، وهو أبان عن ثقافة عميقة شاملة، فهو يحلو له الحديث في الرياضة كما في الاقتصاد أو الصداقة أو اللغات أو السياسة أو الأدب، وسوى ذلك، لا تفارقه في ذلك طبيعة المفكر المتشكّك حتى لو تعلّق الأمر به، يقول رداً على جملة ترد لأوستر، عن نفسه ككاتب، في رسالة ماضية مفادها أنه يؤمن بعمله، فيجيبه كويتزي: "ليس لديّ إيمان كبير بأنّ عملي سوف يدوم". مقتبساً من شكسبير، أبياته:

لا الرخام،

ولا ذهب تماثيل الأمراء،

سيحيا أكثر مما تحيا هذه القوافي.

ليعقّب عليها بقوله: هكذا يكون الإيمان في تصوري. والذي لا أُضاهيه، معززاً فكرة إمكانية فناء عمله. وبخصوص ما يؤكد منحاه التنظيري، يقول: "قابلية الخاص للتعميم، هي جوهر الواقعية". أو صوغه عبارة ـ مصطلح "عقيدة الأرقام" وهو بصدد الكلام عن الاقتصاد، ساحباً عقيدته الرقمية على الرياضة، إذ يرى أن نشوء الرياضات الجماهيرية وعقيدة الأرقام قد لا يكونا منقطعي الصلة، مطبقاً ذلك على لعبة كرة القدم. كما يناقش المفهوم الشائع عن عبادة البقر في الهند، فهو يرى خطأَ ذلك، فالعلاقة بين البشر والحيوانات هناك أكثر دنيوية، وهو يردّها إلى التسامح و"قبول بسيط لطريقة الحيوان في الوجود". هذه الشذرات التأملية على امتداد الكتاب تتجاور مع النظرة النقدية لكلا الكاتبين، شاملةً السياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد، وبطبيعة الحال، ميدانهم الرئيسي، الكتابة. وبهذا الصدد يقول أوستر: نحن نعيش زمن ورش كتابة لا نهاية لها، وبرامج كتابة لطلبة الدراسات العليا ـ تخيل أن تحصل على شهادة في الكتابة ـ ، فبات عدد الشعراء في كل بوصة مربعة أكبر مما كان عليه من قبل، وعدد أكبر من مجلات الشعر ودواوين الشعر وعروض أداء شعرية، وإلقاء شعر، وشعراء رعاة بقر، وبرغم كل هذا النشاط، لا يلفت النظر مما يُكتب إلا القليل. وفي موضع آخر يكتب حول نفس الموضوع: الشعراء الآن في كل مكان، ولكنهم لا يكلمون إلّا بعضهم بعضاً.

إن كان لبعض الكتب إمكانية اختزال مفهوم الكتاب، إجمالاً، وسحره وقوّته، يمكن أن يكون لكتاب "هنا والآن" ـ بصفحاته الثلاثمائة، لجون ماكسويل كويتزي وبول أوستر، واحداً من هذه الكتب السحرية، المحلّقة بِطاقة الأفكار والتأملات الرصينة التي تأخذ بقارئها إلى آفاق غير متوقعة بموضوعات لا حصر لها وبمعالجة كاتبين خبيرَين.

عن ضفّة ثالثة - العربي الجديد

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم