العنف منتشر في مختلف الأرجاء، مستفحل بطريقة لا يمكن تجاهلها، يكاد يصبح طقسا يوميّا في حياة الإنسان، بحيث أنّ أيّ محاولة للتحايل عليه، أو عدم تسميته والإشارة إليه، وعدم تشريح بنيته في مسعى لتفكيك شروره المتفاقمة، تعدّ ضربا من ضروب التعامي عن الواقع، والهروب إلى الأمام خوفا من مواجهة الحقائق. فلماذا قد ينكره الإنسان أو يتهرّب من تصويره؟

كيف تمكن تهدئة العنف وترويضه التغلّب عليه؟ هل بالإمكان تحويل طاقته الهدّامة إلى طاقة بنّاءة بصيغة ما؟ ألا يمثّل العنف وجها مظلما من وجوه الحياة التي تثرى بمختلف الألوان والأنواع؟ هل بإمكان الأدب والفنّ لعب دور في دفع العنف إلى زاوية قصيّة من خلال مواجهته وتوثيق آثاره وتداعياته؟ هل العنف المضادّ هو السبيل الأوحد لمواجهة العنف أم أنّ استيعابه وإعادة تصويره أدبيّا قد يخفّفان من تفشّيه؟

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

في روايتها اللافتة “أنت قلت” تؤرّخ الروائيّة والفيلسوفة الهولندية كوني بالمن سيرة حياة الشاعر الإنكليزي الراحل تيد هيوز (1930-1998) الذي كان زوج الشاعرة والروائية الأميركية سيلفيا بلاث (1932-1963) التي قضت انتحارا، وتقارب الكثير من القضايا الفكرية والفلسفية والأدبية التي تظلّ محتفظة بمعاصرتها وتجدّدها، وتتطرّق إلى العنف كصورة من صور التاريخ والمستقبل.

تقول بالمن على لسان هيوز إنّه دائما ما كان على قناعة تامة بأن الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يربط عالم الإنسان الداخلي المظلم، وأحيانا المرعب، مع العالم الموضوعي الخارجي هو قوة الخيال والتصور. تكتب “تلك هي في اعتقادي الطريقة الوحيدة لجمع ما يبدو منقسما ومتضادا، الذكوري والأنثوي، الخير والشر، المدمر والخالق”. وتلفت إلى أنّ الشعراء والكتاب الحقيقيين لم يفعلوا شيئا على مدى تاريخ الإنسانية سوى محاولة وصف هذه الطاقة الهدامة، المرهقة والشافية في الوقت نفسه في قصصهم وأشعارهم. تقول كذلك “يجب أن نتواجه مع أشباحنا وجها لوجه، ونروّض الذئاب، ونبحث عن الأفعى في داخل كلّ منّا ونقتلها؛ لأنّنا إن لم نفعل قتلتنا هي”.

تورد بالمن فكرة فلسفية متمثّلة في أنّ إخفاء الشعور يغذّيه ويقوّيه، وأنّه مع الوقت يتحوّل كلّ ما يتم تجاهله أو محاولة طمسه بالقوة، وكلّ نزاع يتم التستر عليه أو نفيه داخل الثقافات أو في حياة الفرد، إلى طاقة هدّامة تبحث عن منفذ للخروج، ليتحوّل في النهاية إلى لعنة شيطانية عنيفة ومدمّرة ضد الحياة. كما تعالج فكرة الاعتراف بالعنف الكامن، وكيف أنّ نكران العنف هو دعوة إليه بمعنى ما. وأنّه في كلّ القصص والأشعار يعتبر نكران العنف مصدر الكوارث في حدّ ذاته، والاعتراف به وبوجوده هو المنقذ الوحيد منه. ذلك أنّ الشرّ قادر على أن يتحوّل إلى خير إذا ما تعاملنا معه على أنه جزء من الواقع، إذا تفهّمنا طبيعة وجوده، وضعناه في المكان المناسب.

يُشهر الأدباء أعمالهم بوجه العنف عساهم يخفّفون من جنونه وتوحّشه.. يعترفون به، يعرّفونه، يخرجونه من طور الإنكار والتنكير إلى ضوء الأسى الذي يتسبّب به لضحاياه.. ويبدو أنّ تاريخ الكتابة هو تاريخ مواجهة الأدباء للأفاعي التي تنهش أعماق الإنسان في مسعى لتجريدها من سمومها، وقتلها، كي لا تدفع المزيد من البشر إلى الاقتتال والاحتراب والتعارك باستمرار.

كاتب سوري عن صحيفة العرب اللندنية

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم