تأتي ذكرى غياب جبرا إبراهيم جبرا الثالثة والعشرون (12-12- 1994) محفوفة بواقعة مدوية في الصميم من حياته وفكره. فقد وهب الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما لا يملك لمن لا يستحق: القدس موطن جبرا وبئره الأولى التي نهل فيها المعرفة، وتفوق على فقره وبؤس حياته، ومقادير وطنه القابع في مهب رياح التقسيم والاحتلال.

المدينة التي يقول في سيرته الأولى إنه عرفها شارعًا شارعًا وحيًا فحيًّا، وتفتح فيها وعيه وموهبته وقدراته متجاوزًا فقره وبساطة حياته الأسرية، حتى استحق الابتعاث للدراسة في بريطانيا. القدس التي تتشظى في كتاباته وتتجذر، لأنها بالنسبة له ليست مكانًا يسكنه الآخرون ويعبثون بهويته. إنه مكان آتٍ من الذاكرة والأحلام والرؤى. لذا فلن تصادره مشيئة محتل أو تحبس فضاءه.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

استخدام الرمز التموزي

وكما بكى المسيح القدس يبكي جبرا قدسه في توصيف لما تعانيه فيقول: "..المدينة ما زالت تسحرني وتستحثني على الكتابة وتصوير الشخصيات الناهشة المنهوشة فيها، كما تسحر البدوي القادم إليها من الصحراء لأول مرة، ولكني قد أبكي عليها، كما بكى المسيح على القدس، لأنني أريد لها الخصب والصحة لا الجدب والمرض".

يستعير جبرا مفهوم الخِصب من مفردات الأسطورة البابلية التي تصور قيام تموز بعد الموت، وارتباط ذلك بالربيع، مضمنًا بهذه الإحالة الرمزية التي ستتخذ موقعًا استراتيجيًا في أدبه إيمانه بعودة مدينته من آسريها وعودة خصبها وعافيتها. من هنا كان استلهام بدر شاكر السياب لأسطورة تموز وعشتار في شعره والحلم بالخصب القادم وهجاء القحط والفراغ والجفاف مشاركة لجبرا في قراءاته الأسطورية. هكذا بادر في فترة انشغال السياب بالأسطورة والرمز التموزي إلى إصدار ديوانه الأول "تموز في المدينة" عام 1959. وهو قريب في أجوائه من كتابات السياب الشعرية في أجواء الأسطورة ذاتها، واستغلاله للرمز التموزي دلالة على الخصب وانبثاق الحياة بعد جفاف وقحط.

وقد وسّع جبرا رؤيته الرمزية تلك التي ارتاح لها بديلًا عن الهتاف المباشر، فشملت حياته ذاتها والتي وجدها في هذا الوجود الرمزي الحلمي، فقال في آخر حوار له أجراه معه الزميل الناقد ماجد السامرائي لمناسبة محور خاص عن جبرا فى مجلة "الجديد فى عالم الكتب" الأردنية: "لعلني دون أن أدري منذ انطلقت في الكتابة، كنت مَهما كتبت إنما أشرح وأعلّق على تلك القصة الرمزية التي هي حياتي"..

إنها بالنسبة له تتمحور في مرائي الطفولة ومعاناتها التي لا ينفك عنها مهما كبر. يقول في "البئر الأولى"- كتابه السيري الأول- موضحًا رمزية البئر وارتباطها بالحياة: "البئر في الحياة إنما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكنًا، فيها تتجمع التجارب، كما تتجمع المياه لتكون الملاذ أيام العطش، وحياتنا ما هي إلا سلسلة من الآبار، نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة، نسرّب إليها المياه المتجمعة من غيث السماء، وهَمْي التجارب؛ لنعود إليها كلما استبد بنا الظمأ وضربَ الجفاف أرضَنا".

تلك الكلمات تلخص موقع الماضي في حياة جبرا. إنه ملاذ في الظمأ والجفاف. الأرض هنا تحمل تورية بليغة. فهي في مستوى دلالي أول: الأرض بما أنها مكان غادره. وهي أيضًا بدلالة أبعد: حياة الإنسان التي يصيبها الجفاف كأرض الواقع.

ستظل تلك البئر مرجع ارتوائه وملاذه، رغم أنه عاش شطر حياته الأكبر في العراق منغمسًا في تجارب حياتية مفصلية، استقر بعدها ليشع أدبه وفنه وحيويته الثقافية لا على شعراء العراق وأدبائه وفنانيه فحسب، بل إلى عواصم ثقافية عربية بيروت في مقدمتها، لكونها مركز الحداثة الثانية التي كان جبرا أحد شهودها البارزين عبر تجمع مجلة "شعر"، رغم تحفظاته على منهجها العام المتمثل في كتابة قصيدة النثر، ودعوته لكتابة "الشعر الحر" بالمفهوم الغربي والذي يعد نفسه- ومن أسماهم الشعراء التموزيين كتوفيق صايغ والماغوط - من أبرز ممثليه.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

المهم ليس النقل عن الغرب

تأثر جبرا خلال دراسته في بريطانيا بحركة التجديد في الشعر الإنكليزي، لكنه آمن أن المهم ليس النقل عن الغرب بل استثمار ذلك لإنجاز نص عربي مجدد... وهذا لا يتم إلا عبر فهم العلاقة بين التجديد الشعري والتراث أيضًا والذي يعيده تاريخيًا إلى الصلة بين الشاعر ورموزه القديمة التي تتجاوز المرجع الجاهلي والإسلامي لتشمل الحضارات التي أقامها الإنسان على الأرض العربية في العصور القديمة. وبذلك يوسع جبرا مفهومه للتراث ومنظوره النقدي الذي لم يرهنْه بمنهج نقدي محدد، بل أطلق لنفسه الحرية في مقاربة النصوص وفق معطياتها، متمثلاً مقولات النقد الجديد في الغرب.

في عمله النقدي تبدو الرؤية الحداثية والاصطفاف تحت لافتتها ومبادئها أكثر أهمية من عينة أو صنف دمه النقدي. والرؤية لديه ذات أبعاد ثلاثة: الحداثة، الحرية، الرؤيا. وهي أقانيم تشكل فكر جبرا النقدي. وبمواجهتها لا يعود ضروريًا تبويب نقده في منهج بعينه.

كان تركيزه في الترجمة على تراجيديات شكسبير خاصة، فنقلها بعربية صافية ترقى إلى كلاسيكية شكسبير وعراقة مفرداته. ولا تفسير لإعجابه المفرط بالمآسي إلا بكونه يتمثل مأساته الشخصية ومصير وطنه ومحنته الوجودية في تلك القطع الدرامية الخالدة.

وفي الفن يؤمن بتعدد الرؤى والأساليب ولا يحد نفسه في منطقة واحدة من التعبير الفني. لكنه في ما كتب من قصص قصيرة يعمد إلى خلق عالم بديل لما يعيش ويتحرك ويتلاشى كما هي الحياة ذاتها. ويبث صورته الشخصية على شكل كِسَرٍ وفَرْداتٍ سردية وشخصيات لا تخطئ العين تشخيصها.

أما "شارع الأميرات" فهو كتاب سيرة لاحقة بعد "البئر الأولى". الشارع الذي عاش فيه جبرا وغادر الحياة والذي يتحدث عنه بحب وشجن. إنه شارع هادئ في أكثر أحياء بغداد ترفًا وأرستقراطية وجمالًا، يبدأ متفرعاً من شارع حي المنصور الرئيسي في كرخ بغداد. في هذا الشارع الوارف كان يرى أسراب العشاق - كما قال لنا ذات مرة- يتهادون فى هذا الشارع الشاعري. ثم راح يتخيلهم أزواجاً يسري عليهم قانون القدر والضرورة.

الخروج من البئر الأولى إلى التيه هما القوسان اللذان يؤطران رحلة جبرا في حياة متنوعة بين القصة والرواية والرسم والنقد الأدبي والفني والترجمة والشعر..

كثيرًا ما تكررت مفردة التيه في كتابات جبرا وحواراته. وهي مرتكز رؤيوي وسع من مداه جبرا ليشمل ما هو أوسع من تيهه الشخصي بين الوطن والمنفى والانغمار في الحياة والحنين إلى البئر الأولى حيث تجمعت مياه حياته.

يذكر الزميل ماجد السامرائي أن جبرا يعد روايته "السفينة" سيرةً للتيه الفلسطيني، والإبحار إلى شواطئ مجهولة. مثلما جاءت "البحث عن وليد مسعود" مدوّنة بانورامية لهذا التيه، بين لجج وأفكار وأحلام وهزائم، على مدار نصف قرن.

من الذاكرة

في الذاكرة مرافقتي لجبرا في آخر رحلاته قبل غيابه.. رحلة إلى عمّان بالحافلة لحضور جلسات مهرجان جرش النقدية في أواخر تموز 1994. على مدى أربع عشرة ساعة استغرقها الطريق البري الذي لا طريق سواه في تلك السنوات المقيتة من الحصار، كان جبرا متعباً لا يني يردد أنه لن يسافر ثانية، ما دام السفر بالطائرة غير ممكن بسبب الحصار. وأضاف أنه سيعتذر عن دعوته لمهرجان أصيلة في المغرب، وكذلك عن دعوات مماثلة في تونس والقاهرة.

كنا -الصديق فاضل ثامر وأنا - نجاذبه الحديث، وقلقنا يزداد، كان وجهه يتخذ سمتاً شمعياً، وعيناه تزدادان ذبولاً وإعياء. لكننا حين وصلنا إلى عمان، واستراح في الفندق عادت إلى جبرا حيويته.

كنت أستمع إليه في حلقة "جرش" الدراسية محاضراً ومناقشاً بحماس وجدية مسترسلاً متدفقاً وكأنه شخص آخر.

لقد بدت على جبرا علامات الوهن والمرض منذ فقد زوجته في صيف العام السابق لوفاته.. كان واقفاً يتلقى عزاء الأصدقاء، وقد بدا عليه الهرم والتعب. ولم تمهله النوبات القلبية المتكررة حتى فاجأنا بغيابه الأبدي صباح يوم الإثنين 12/12/1994.. نصف ساعة فقط كانت فترة نزعه الأخير.. كان قد غادرنا في رحلة تاسعة إلى حيث أصدقاء سبقوه: جواد سليم الذي أسس معه جماعة بغداد للفن الحديث، والسياب الذي من عجب وصدفة قدر غريبة أن يكون قد مر على موته في الشهر نفسه ثلاثون عاماً.

عن "ضفّة ثالثة" - العربيّ الجديد

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم