أذكر حين أصدرتُ روايتي اليتيمة "طيور الرغبة"، تلقيت اتصالاً من أحد الاصدقاء يؤنّبني على مضمونها ويتهمني بأني أتجسس على خصوصياته وحياته من خلال الكتابة. لم أنتبه لجوهر كلامه، كان شديد توتر وكأنه يشتمني، لاحقاً علمت أن أحد القراء اتصل به وأخبره أن الرواية تتطرق إليه، مع أنها لا تخصّه لا من قريب ولا من بعيد. أبعد من ذلك، معظم الأسئلة التي طُرحت عليّ حول الرواية، ركّزت على الشخصية الرئيسية، هل هي متخيلة أم واقعية؟ إلى جانب فضول بعضهم في معرفة هويات النساء اللواتي كتبت تفاصيل عنهن. كان الأمر ورطة بالنسبة إليّ، وجعلني أتوجس من الكتابة بصيغة الأنا، وأتفادى المواضيع القريبة من محيطي وأتجنب القراء الذين أعرفهم من قرب.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

لا يختلف الواقع بين القراء العاديين والوسط الثقافي. فبعض الشعراء والكتّاب والمثقفين، يقرأون الروايات الأدبية "الجريئة"، ويسارعون إلى سؤال الكاتب: هل هي متخيلة أم واقعية؟ ومن هم الاشخاص الذين كتبت عنهم؟ وهل نعرفهم؟ وهل تقول لنا أسماءهم؟ وهل تبوح باسم شريكة البطلة؟ وتزيد هذه الأسئلة إذ كان الكاتب قد سرد تفاصيل عن علاقة حميمة أو جنسية أو مثليّة. ثمة مَن لا يتناول الرواية كنص أدبي، بل كـ"فضيحة" ينبغي التقصي عن حيثياتها وناسها والنميمة على شخوصها، وهذا ما حصل مع "نساء بلا أثر" لمحمد أبي سمرا. فما إن صدرت الرواية حتى سبقتها الشائعات حول مضمونها وأبطالها، وكثر الذين يتحدثون عن بطلتها ونسبوا ما ورد فيها من معلومات الى شخصية حقيقية من لحم ودم، كأنهم يبصبصون عليها. بمعنى آخر، خرجت رواية أبي سمرا عن سياقها الأدبي، وأُحرج كاتبها واضطر الى إجراء بعض التعديلات، كتغيير اللوحة في غلاف الرواية حتى يخفف من وطأة نمائم المقهى. كان هدف أبي سمرا من روايته، الحديث عن أنماط الحياة الفردية في المدينة، فإذا به يفاجأ بأن الرواية قُرئت بعقلية ريفية لا تفكر في مشهد الرواية ومسار البطلة بين بيروت ولوس انجليس وباريس والفن والشيوعية. أثبتت قراءة الرواية أوهام "الفردية العربية"، وأن ثقافة "مدينتنا" هي مجرد امتداد لثقافة ضيعتنا. ففي الحياة اليومية، نسمع تفاصيل شفهية عن الأشخاص وعلاقاتهم وأسرارهم، وكأن الحكاية يملكها العوام والنخب ويتبادلونها في جلساتهم وسهراتهم وتشبيحاتهم. وحين تصبح الحكاية مكتوبة، يصاب صاحبها بالهلع... هل المكتوب أقل "خطراً" من الشفهي؟ هل الرواية أشد وطأة من الحكاية؟ الارجح أن ما حصل مع محمد أبي سمرا، هو "ثقافة" عامة سائدة في العالم العربي. فحين بدأت موجة الرواية السعودية، كان القراء ينتظرونها كفضيحة، كبصبصة على بلد وصف بأنه مغلق، وكشف الأسرار فيه له صداه الفاقع، على عكس البلدان الأوروبية التي تجاوزت منذ عقود منطق المحجوب المرغوب. وكنا قد عشنا مدّة على وقع رواية "بنات الرياض" لرجاء الصانع. لم نقرأ الرواية كرواية، بل كوثيقة اجتماعية.

حتى في تناول البعض للأدب الغربي، هناك شيء من اللامنطق. فحين يقول الروائي العراقي، علي بدر، في صفحته في فايسبوك: "لم يقنعني شارلز بوكوفسكي لا في شعره ولا في رواياته، على الأرجح هو ظاهرة صنعتها دور النشر الأميركية، لا سيما بعدما اعترف كاتب سيرته أن أغلب مشاهد سُكره العلنية هي تمثيل بطلب من ناشره ووكيلته الأدبية. الأمر ينطبق على محمد شكري أيضاً". وعلينا ان نسأل، ما المشكلة إذا كانت مشاهد سُكر بوكوفسكي العلنية تمثيلاً أو واقعة بجد؟ مَن يقرأ، يبحث عن متعة القراءة أولاً وأخيراً، وليس عن واقعية المكتوب، بل عن قدرة الكاتب في الإقناع. عن جريدة المدن

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم