أوهمتنا بعض النظريّات النقديّة الشكلانيّة المنزع، لفترة من الزمن، أنّ الرواية تكاد تقتصر على متعة التخييل فيها ولا تتصل بالواقع إلّا عبر الإيهام به. فالعمل الفنّيّ لا يقول الواقع ولا يعكسه وإنّما هو ممارسة مبدعة للأشكال والصيغ التي يعبّر بها الإنسان عمّا في نفسه من أبعاد لَعِبَيَّة وجماليّة.

فليكن ما قالوا. لا اعتراض لدينا على الخيال الأدبيّ ودوره ولا اللعب ووظائفه ولا على الجماليّات ووقعها. بيد أنّ بعض المعطيات تعيدنا إلى أنفسنا لنتساءل عن حقيقة هذا الاختزال لأمر خطير مثل الرواية.

فمن أوضح الوقائع التي تحتاج إلى تدبّر ما لقيه جنس الرواية في العالم العربي في بدايته من مواقف متنافرة. فقد وجد لدى القرّاء حظوة وإقبالا كبيرين يشهد عليهما، منذ أواخر القرن التاسع عشر، إصدار مجلّات متخصّصة في ترجمة الروايات مثل "مجلّة الراوي" لأنطانيوس عبده و"مسامرات الشعب" لخليل صادق، كما يشهد عليهما تخصيص كبريات الصحف، مثل "الأهرام"، لصفحات تنشر فيها الروايات بترجمة نقولا رزق الله مثلا.

وقد لا يعود الأمر إلى حاجة تثقيفيّة تربويّة تناسب الوظيفة الإصلاحيّة التي كانت هذه الصحف والمجلّات تضطلع بها أو تزعم أنّها تضطلع بها. فالأرجح أنّها كانت وسيلة لاجتذاب جمهور القرّاء ورفع نسب المبيعات.

وحين نعود إلى هذه النصوص السرديّة المترجمة آنذاك نلاحظ بيسر ما يبنيه كتّابها من عوالم متخيّلة تحمل القرّاء العرب إلى كبريات المدن المتقدّمة في ذلك العصر وما يعتمل داخلها من صراعات ووقائع وأحداث وما ينسج فيها من علاقات اجتماعيّة. لقد كانت بابا للحلم بعالم آخر ديناميّ متحرّك متغيّر بعيد عن عالم القارئ العربيّ الاجتماعي الفكري الراكد بأشواط.

وبالمقابل ارتفعت أصوات المحافظين ورجال الدين لتنبّه إلى مخاطر هذه الروايات وما تتضمّنه من إفساد للأخلاق وإبعاد للناس عن النهج القويم والقيم الأصيلة. إنّها روايات مخرّبة للعقول والنفوس بالنماذج التي تقدّمها في السلوك أو العواطف المشبوبة التي تدعو إلى صنف جديد من العلاقات بين النساء والرجال ومراجعة جذريّة لموقع الفرد في المجتمع. فقد بدت تلك الروايات المترجمة من أواخر القرن التاسع عشر إلى حدود الثلاثينات من القرن العشرين مهدّدة لكيان الأمّة الدينيّ بما فتحته للقرّاء من سبل في رؤية الواقع على غير ما تريد المنظومة الإيديولوجيّة القائمة أن يروه رغم حركة المدنيّة الحديثة التي غزت مناحي عديدة في المجتمع.

وقد انتاب هذا التخوّف من قدرة الرواية على تغيير العقول والنفوس دعاة التجديد والتحديث كذلك. فهذا الطاهر الحدّاد المصلح الذي دعا في جرأة نادرة إلى تحرير المرأة المسلمة التونسيّة سنة 1930 في كتاب أصبح من عناوين الضجّة ("امرأتنا في الشريعة والمجتمع") يعترف في سياق دعوته إلى تعليم المرأة بدور الرواية في التثقيف ومعرفة العالم من طريق التمثيل لا التجريد. يقول: "وممّا لا تستغني عنه المرأة للقيام بهذا العمل [ يقصد تربية الأطفال] وحتّى لإكمال ثقافتها أيضا تتبّع الروايات القصصيّة والتمثيليّة ذات المغازي الأخلاقيّة والاجتماعيّة حيث ترى فيها صورا من حياة الناس وعواطفهم وأخلاقهم في الخير والشرّ والنعيم والبؤس مع ظهور هذه الأحوال ونتائجها ماثلة بين عينيها. فإنّ درس الحياة من هذه الناحية أقرب إلى الذهن وأمكن في النفس وأقلّ عناء من ممارسة الأفكار المجرّدة وأوفر تسلية وترويحا للنفس من عناء الكدّ". غير أنّه سرعان ما يستدرك كاشفا عن بعض التخوّف من الرواية وفعلها في النفوس: "غير أنّ في بعض الروايات الغراميّة التي تتعمّق في تأليه الحبّ وإشعال العاطفة حدّ الجنون خطرا واضحا إليه يرجع أغلب حوادث الجنايات الغراميّة في القتل والانتحار".

وإن لم يكن كلام الحدّاد مدعّما بغير الحدس دون إحصاءات تذكر عن حوادث الانتحار والقتل هياما وغراما في مجتمع محافظ جدّا فإنّنا نتخذه شهادة على أنّ من الروايات ما قتل.

أمّا الروايات التي يصفها الحدّاد "بالخليعة المغرية بالسوء" فيدعو إلى إبعادها عن العائلة خصوصا منها الفتيات والفتيان. (الأعمال الكاملة، ج 3، ص ص 235 - 236).

والمفارقة أنّه يلتقي في ذلك مع أكثر الناقمين عليه حدّة والمساجلين له إلى حدّ تكفيره واتهامه بالردّة ونقصد الشيخ الزيتوني محمّد الصالح بن مراد الذي وضع في الردّ عليه كتابا بعنوان "الحِداد على امرأة الحدّاد". وقد جاء فيه: "يهمّني أن أنبّه أبناءنا المخدوعين بالسراب إلى أنّ القرآن والحديث هما زبد (كذا والأرجح "زبدة") الحكمة وخلاصة قوانين العمران (...) وإنّ من أقبح القبيح أن ننبذ تلك الحكم الدانية قطوفها ونصرف أوقاتنا كلّها أو جلّها في مطالعة روايات (إميل زولا) و(بول برجيا)" (ص 34) ولعلّه يقصد "بول وفرجيني".

وما كنّا لنذكر هذين المثالين لمحافظ ومجدّد عن موقفهما من الروايات في الثلاثينات من القرن الماضي، ولنا منهما أشباه ونظائر في غير تونس من بلاد العربيّة، لولا حاجتنا إلى التساؤل عن دور الرواية في تغيير العقليّات والذهنيّات وتهيئة القرّاء العرب لتقبّل الأفكار الحديثة قبل أن يضطلع جيل طه حسين في مصر وغير مصر بكتابة سرديّة المجتمعات العربيّة في الصيغ المتنوّعة التي يتيحها جنس الرواية.

فهذا الجنس الأدبيّ العجيب، ابن المدينة، بما يقوم عليه من تعدّد في وجهات النظر وكشف للصراعات الاجتماعيّة وبناء لنماذج بشريّة دالّة هو فنّ النسبيّة والتعدّديّة وكتابة تحوّلات الذات الفرد والمجتمع. وبمقتضى ذلك يدكّ المنظومات المغلقة الأحاديّة التي كانت تسود الثقافة العربيّة الإسلاميّة في تنافر بيّن مع غزو المدنيّة الحديثة. فأحدثت في البناء الثقافيّ شقوقا وشروخا عميقة أزالت وهم تماسكه وتناغمه.

ونحن نرى اليوم، ومنذ عقدين تقريبا، شيئا شبيها بما ذكرنا. فمن جهة نلمس إقبالا على الرواية لدى الشباب العربي الذي يريد أن يفهم نفسه ويرى واقعه ويحلم بعالم أقلّ عنفا وقهرا وانغلاقا، ومن جهة ثانية يؤكّد بعض الناشرين الجادّين العارفين بسوق الكتاب، علاوة على انتشار الرواية مترجمة وغير مترجمة، عودة قويّة لدى هؤلاء الشبان العرب إلى كلاسيكيّات الرواية العالميّة يطلبونها ويقبلون عليها ويرغبون في استكشاف عوالمها.

وبعيدا عن المجادلة حول زمن الرواية أو غيرها من الأجناس ونسب المطالعة في العالم العربيّ انخفاضا وارتفاعا فإنّ الثابت لدينا، مادام التلازم داخل الجهاز الأدبيّ بين تكاثر كتّاب الرواية ومترجميها وتكثّف حركة نشرها عددا ونوعا وإقبال القرّاء عليها قائما، أنّ الحظوة التي تجدها الرواية، إنتاجا وتقبّلا، دليل منصوب على أنّ ما يبحث عنه الناس إنّما هو واقع جديد وحلم جديد تقوله الرواية بأشكال متعدّدة مختلفة يكونان عندهم بوصلة لتغيير ما بأنفسهم وما حولهم. إنّ الرواية بقدر ما تمتّع قارئها بالتخييل والفنّ فيها تغرس فيه جرثومة التغيير الآتي لا محالة مهما اختلطت السبل، بل بسبب اختلاط السبل تحديدا.

  • روائيّ وأكاديميّ من تونس

عن "ضفة ثالثة" - العربي الجديد.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم