يقولُ الكاتب الصيني جاو زنجيان: "الأدبُ يسمحُ للكائن الإنساني بالمحافظة على إدراكه بأنهُ إنسان". أجدُ نفسي أتفق مع زنجيان، لذلك تركت إهداء روايتي "على مائدة داعش"، يخرجُ صريحاً شفافاً، لدرجة الإفشاء علناً بالعجزعن إنقاذ إنسانية شعب، تُسلَبُ على مرأى من إنسانية العالم أجمع. فكان الإهداء: " إلى النساء المختطفات لدى داعش: لأني عاجزة عن فعل أي شيء لكنّ، كتبت هذه الرواية".

3 آب 2014، اليوم الأسود كما يسميه الإيزيديون، دخلت داعش إلى قرى سنجار، فعلت ما فعلت أمام الله وعبيده.. فكرتُ بطريقةٍ بديهية، ما المانع من أن أكون إحدى هؤلاء النساء؟ سوى أنني لست إيزيدية، ولا أسكن بسنجار! شعرتُ أنني يجب أن أقدم مساعدة ما، أن أفعل شيء، أي شيء. قررتُ كتابة رواية عن الإيزيديات، آملة أن تصل إلى كل العالم. بدأتُ أول الأمر بإجراء بحث على غوغل: " من هم الإيزيدون؟" بالخط الموازي، قمت بتكثيف متابعتي للأخبار الواردة عن ما حصل بسنجار، من تقارير صحفية، مقالات، فيديوهات على الانترنت... لكني لم أحصل على كل ما أردت معرفته. لم أستطع السفر إلى سنجار، فإختصرتُ المسافات، مستعينةً بالشبكة العنكبوتية. بعد بحث صغير قمت به على الفيس بوك، إكتشفت صفحات عديدة عن الإيزيدية والإيزيدين، نشطتْ بالآونة الأخيرة. راسلتهم، منهم من تجاوب بجزء بسيط وحذر، وآخرون لم يتجاوبوا. علمت فيما بعد أن كثيرين منهم تم التواصل معهم من حسابات مزورة، بحجة معلومات عن الايزيدية، وتبين أنها حسابات لعناصر من داعش. إستمريت بالبحث، إلى أن تعرفت على ناشطين مدنيين وصحافيين إيزيديين، يعملون مع منظمات دولية في أربيل، تقدم المساعدة للناجيات والنازحين الإيزيديين. مدوا إلي، مشكورين، أيديهم بكل المعلومات التي أحتاجها. بدأت أتواصل من خلال بعضهم مع ناجيات عبر الهاتف، أو سكايب، كما إستعنت بتحقيقات وشهادات لناجيات، تم توثيقها من قبل أكثر من مؤرخ وباحث إيزيدي. ما يفوق المئة شهادة لناجية، يجمعهن الاسلوب الذي تم من خلاله سبيَهُن، والاماكن التي إقتدن إليها. لكن لكل واحدة قصة مختلفة. منهن يُزوجن لأكثر من عنصرأو يُهدين لأمير، وأخريات يُبعن ويُبدلن بأسواق السبايا..

خلالَ المدة التي كنت أقوم فيها بالأبحاث، والتي تخطت الثمانية أشهر، رسمتُ معالم الرواية، من أماكن، شخصيات وأحداث. لم آخذ قصة أية ناجية محددة، بل كانت "يوفا" الشخصية الاساسية بالرواية من نسج خيالي: شخصيتها، حياتها، ماضيها. الكثيرون ممن قرأوا الرواية، ظنوا يوفا فتاة حقيقية، وهذا دليل على أنها إستطاعت أن تتجسد واقعا، بكل ما حمّلتُها من تفاصيل بشرية، جعلتها تخرج من الإطار الورقي الروائي. عمدت بتركيب الشخصيات، على التحول الذي يطرأ على كل شخصية، خاصة الشخصية المحورية"يوفا"، التي كانت في بداية الرواية لا تجرأ أن تأخذ خيار بين حياة وحياة أخرى، أي حياتها مع أهلها وخضوعها للتعاليم، وبين حياتها الاخرى، وهي الهرب مع حبيبها. لتصل إلى نهاية الرواية، قادرة على أخذ قرار بين موت وموت آخر. موت يتمثل بخيار العودة إلى داعش، وموت آخر تمثل بقرار الهرب في حقل الألغام. تعددت الشخصيات الثانوية أيضا ، لكل منها قصة، ووضع مختلف، ومهما حاولت أن أنصف النساء اللواتي تعرضن لأبشع جرائم القرن الواحد والعشرين، فإني ربما لن أنجح. تتضمن الرواية خطيين زمنيين متداخليين: الاول يروي حاضرها، رحلة سبيها الى الموصل ثم الرقة، إلى حين هروبها. والثاني يروي ماضيها، المرتكز على حبيبها الذي حرّمت الطبقية الدينية الإيزيدية زواجهما. عانت البطلة من التمييز مرتين، تمثلت الاولى بمجتمعها الايزيدي، الذي يحرم الزواج بين طبقاته الدينية ضمن الدين الواحد. و الثانية كانت من تنظيم ديني متطرف، ينظر إليها على أنها من عبدة الشيطان. تُحاكي أحداث الرواية وقائع حدثت بالفعل، كيف دخلت داعش إلى قرى الجبل، وما هي المنهجية التي إتبعتها بتفكيك المجتمع الإيزيدي، عبر تفكيك العائلة، وإجبارهم على إعتناق الإسلام. فصلوا الرجال عن النساء، منهم من قتل أمام عائلته، و منهم من إعتقل. إعادة فصل النساء الكبيرات سنا عن الفتيات، اللواتي ومن بعد أن يقمن بنطق الشهادة الإسلامية، تذهب كل واحدة إلى مصيرها.

على مدى سنة ونصف، من الكتابة بالرواية، اختبرت أشكالاً غريبة من المشاعر. دائما ما كنت أتوقف عن الكتابة، لأبكي. أقول لنفسي:" كيف أمنع ما حصل والذي ما زال يحصل مع أكثر من 5000 إمرأة، وفتيات صغيرات لم يتجاوزن السابعة من العمر؟" إحدى القارئات لم تستطع إكمال الرواية، قلت لها:" كنت أكتب، أتخيل، ولكني أعلم أن أسوأ ما أتخيله، قد حدث بالحقيقة بطريقة أفظع وأوحش.." لقد تشاركت مع بطلتي" يوفا" كل أوجاعها، وفي معظم حالاتها كنت أنا، من تتعرض للتعذيب، باتت جزءأ مني، حتى صداعها المستمر ما هو إلا امتداد لصداعي الذي أعاني منه بشكل شبه دائم. خرجت من أوراقي متعبة، كأنني تعاركت مع كل جيوش الأرض. أعتقد هذا ما حاول أن يقوله لنا موريس بلاشو: "ربما كان الفن طريقا نحو الذات، وربما أيضا طريقا نحو موت قد يكون موتنا".

إيمانا مني أن للعنوان مقدرة على مساعدة الرواية بالوصول الى القراء، والأهم من ذلك أن يعبّر عن مضمون النص. بشكل طبيعي المائدة تحتوي على أنواع من الغذاء، ولكن مائدة روايتي مغايرة، تحتوي على غذاء مختلف، هو الجنس والعنف، اللذان يعتبران المحرك لعقول تنحشر فيها حوريات الجنة.
أتى الغلاف الذي صممه محمد الزغبي، بأسلوب كاريكاتوري، منسجماً مع فكرته. فتاة العدالة (الفتاة الرمز التي في العادة تحمل سيف بيد و ميزان باليد الأخرى)، يقابلها داعشي ماسكا سيفها بيد، ورأسها بالأخرى. إعتمدَ الابيض والاسود لينسجم مع ألوان صبغة داعش. بأعلى الغلاف، فسحة سوداء، لغراب يلتقط بمنقاره الشمس، آخذها من جهة الفتاة إلى جهة الداعشي. وهذا يدل على أن داعش حاولت طمس الديانة الايزيدية، الشمس لها رمزية دينية مهمة للإيزيديين، فهم أبناء الشمس.

عندما أنتهيت من كتابة الرواية، لم أعرضها على نقاد أدبيين، إختصرَت مطالعتها على بعض المقربين. لم أفكر كثيرا لأية دار أرسلها. كانت دار الآداب وحدها من أردت، لما لها من تاريخ عريق بإصدار أهم الروايات.

نكتب لأننا نريدُ أن تسترجع ما غاص بأعماقنا من حياة، ومهما كان الموضوع بعيد عن الكاتب، فإنني أؤمن أنه سيجد خطوطا ولو رفيعة تتقاطع معه، فيضفي من نفسه على عمله. وإلا فإنه سيكون عملاً هامداً، بلا روح. هذه الرواية قبل أن تُغير أي أحد، غيّرتني أولا.

على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن مجلة رواية الرواية نت

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم