" الخيرُ استثناء الوديعين والشر فطرة السوادُ حيٌّ والبياضُ فكرة." بعدما يحصل القارئ على رواية "مرايا الجنرال" للأديب المغربي "طريق بكاري"، التي صدرت في مطلع هذه السنة (2017) عن دار الأدب-بيروت، سيجد نفسه أول الأمر أمام العبارات أعلاه، إذ أنها أول ما سيستوقفه في الغلاف الخلفي للرواية، عبارات تضعنا وجها لوجه أمام مفارقات عجيبة، وقد تثير في النفس مجموعة من الفرضيات بخصوص مضمون الرواية، قد نفترض منها أن من بين قضايا الرواية مسألة تأرجح الإنسان في دوامة ثنائية الخير والشر أو التأرجح بين الأبيض والأسود، خاصة وأننا نعرف أن "طارق بكاري" يتناول مثل هذه القضايا الفلسفية الكبرى في أعماله، كما هو الحال في روايته الأولى "نوميديا". ربما إن أردنا أن نختزل صيرورة الإنسان في ثنائيات شاملة، يمكن أن نستحضر ثنائية الخير والشر، وعموما فإن سؤال أسبقية الخير أم الشر، كان وما يزال موضوع فلسفي وسيكولوجي مثير للاهتمام، إلا أن هذه الثنائية بقدر ما هي عصية على الفهم فلسفيا وتمحيصها نظريا شكلت منذ ردح زمني بعيد موضوع للنشاطات الفنية والتعبير الجمالي، خاصة في السينما والأدب، فالأدب بشتى أصنافه أبدعه الإنسان إلا ليصبر أغوار الحياة في أبعادها المتعددة ويكشف عن دواخله بلغة أدبية ورمزية. فالرواية كشكل أدبي يجمع بين الخيال والواقع يعد أهم الآليات التعبيرية عن ثنائية الخير والشر وغيرها من القضايا الإنسانة العميقة. سأقتصر الحديث في هذا الصدد عن صراع الخير والشر في رواية "مرايا الجنرال"، كما تجب الإشارة إلى أن هذه التدوينة ليست تدوينة نقدية بقدر ما هي رأي أردت من خلاله إبراز بعض الجوانب الفكرية العميقة في هذه الرواية، بعيدا عن الجوانب البنيوية الفنية أو جمالية اللغة والنص.. اعتمد طارق بكاري في تشكيل مسار الرواية أسلوب تعدد الأصوات، حيث الشخوص تسرد الأحداث في رسائل متسلسلة وهذا ما أتاح لكل شخصية فرصة للتعبير أكثر عما يعتمل بداخلها من مشاعر متضاربة وما تكابده من صراع سيكولوجي داخلي؛ صراع بين الحقيقة والوهم، صراع مشاعر الحب والخيانة، الاستسلام والنضال.. الرواية تزخر بعناصر مختلفة تؤكد قصدية إدراج صراع الخير والشر في الرواية وأهمها تكرار بعض الألفاظ الدلالية التي نصادفها عبر طول جسد الرواية من قبيل؛ ’’لوثة النفس‘‘ حيث عندما يعرج الكاتب إلى إبراز شرور النفس وانزلاق الشخوص عن مسار الخير يذكر هذا اللفظ، ربما كتنبيه، يريد من خلاله إشعارنا بإن الإنسان مهما أظهر علياء الفضائل والقيم تبقى اللوثة غائرة في أعماقه. يتضح هذا بشكل جلي من خلال شخصية ’’جواهر‘‘، جواهر التي يعتقد القارئ في البداية أنها شخصية مهرة مناضلة، تكِن لحبيبها اليهودي المناضل ’’سيمون‘‘ الحب والوفاء وتعده باستمرار الوجد بينهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لكن الكاتب يعمد الدخول إلى أعماق الشخصية ويكشف لنا عن خيانة جواهر لحبيبها مع جنرال المدينة ’’قاسم‘‘ (المير الجديد)، والخيانة في هذا الصدد ما هي إلا رمز من رموز الشر والرذيلة أو ’’لوثة‘‘ انبلجت إلى الوجود العلني بعدما كانت مدفونة في الدواخل النفسية لجواهر أو بالأحرى كانت مخفية بلبس الفضائل. هذا ما نستشفه من قول جواهر:’’ اللوثةُ كان يرشخ بها جسدُ الكون مثلما يرشخ به جسدي‘‘ وفي نفس السياق تقول أيضا: ’’ النفس البشريَّةُ على مثاليَّاتها المسجة تستبطن الآفات الجسام‘‘. كل هذا يؤكد لنا حقا أننا نتحدث هنا عن رواية تصبر أغوار قضايا فلسفية وسيكولوجية كبرى متجذرة وملازمة للإنسان، رواية تجعل من الفعل السياسي وجه للآفات الإنسانية، كما تجعل من الهوية والنفس والذاكرة تعقيدات تدفع القارئ إلى التأمل ومراجعة خبايا النفس. ليس السياسة فقط بل حتى العلم لم ينجو من لوثة النفس البشرية، فشخصية الطبيب النفسي تكشف عن الوجه القبيح للتقدم العلمي، "مستر هارفي" الذي يحمل من المعرفة ما يكفي لمساعدة الإنسان، غررت به نفسه ودشن للمستعمر طريقة جديدة للاستعمار، طريقة تجعل من العلم وسيلة لاستعباد... وجب تذكيرك عزيزي القارئ أن هذه التدوينة لم نتناول من خلالها إلا موضوع واحد من بين المواضيع العديدة التي تتطرق إليها الرواية، خاصة وأنني ركزت على شخصية ’’جواهر‘‘ بعينها دون التطرق إلى الشخصيات الأخرى، ولو أن جل الشخصيات يغلب على مسارها طابع التأرجح النفسي والصراع بين الخير والشر كما هو الحال مع جواهر.

الرواية نت

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم