يقول أورهان باموك: " في عمري الحالي، لديّ أشياء كثيرة يجب إنهاؤُها، تدوينُ ملاحظات، تأليفُ كتب، عليّ إتمامُ كلّ شيء قبل وفاتي! " أكملت المسودة الثانية من الرواية الجديدة "الاسم على الأخمص".
رواية عن الآباء والأبناء، عن الحب والتطرف، الهجرة، الاغتراب، السياسة، عن الحرب والخيانة والخذلان، والتحول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس، عن لحظة الاستعلاء الوحشية بحسب تعبير جيمس جويس، عن الأوهام الطوباوية، والأمجاد الزائفة، والتداوي بالعنف والتشفي وصكوك الغفران، عن حيوات مضطربة تجسدها نماذج لشخصيات يسارية وأخرى دينية قلقة، متذبذبة، متناقضة، ومأزومة. لأول مرة أكتب رواية بهذا الحجم. طالما تحاشيت الوصول إلى مثل هذا الكم من الصفحات ( ربما تصل إلى أكثر من 400 صفحة ) لكن، يبدو أن هذه الرواية لا تكترث بالتقشف الذي يأكل العالم، بحكم تعدد ثيماتها والعوالم والأمكنة التي تتحرك فيها الشخصيات : البصرة، بغداد، كردستان، إيران، صحراء السعودية، موسكو، الشيشان، ونيو أورليانز في أميركا. الرواية تتألف من أربعة أقسام، القسم الأول والثالث عبارة عن روايتين منفصلتين، تتلاقى الشخوص الرئيسة فيها في القسم الثاني والرابع، عن طريق المصادفة أو ما يسميه بول أوستر : غير المتوقع.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

مقطع من الرواية : فكر السيد النائب بالعديد من الحلول لمشكلة ابنه، باستثناء الحل الذي يقضي باصطحابه معه. كان كوليا في التاسعة من عمره في تلك الأثناء، ولم يسبق له أن طلب من أبيه، على مر الأعوام السابقة، أن يصطحبه إلى أي مكان، باستثناء تلك المرة، عندما أخبره أنه يريد الذهاب إلى العراق في مهمة قتالية، وأن عليه البقاء في موسكو فترة من الزمن، قبل أن يعود ليأخذه معه. لم يكن من صنف الاولاد الصغار الذين يتعلقون بأقدام آبائهم، كلما هموا بالخروج. وكان في نبرة السيد النائب، وهو يصيغ عبارة : " عليّ أن أذهب إلى العراق في مهمة قتالية " الكثير مما لم يفهمه كوليا. كانت نوعاً من الحماس الغامض الذي يعوزه الإيضاح، وتحديد إن كان متحمساً للقتال حقاً، أم للتخلص منه. حينئذ، طلب منه أن يصطحبه معه. كما لو أنه حدس بكونه العقبة الوحيدة في طريقه، وإذا ما تجاوزها الأب بإبقائه في موسكو، فإن شيئاً لن يجعله يلتفت وراءه بعد ذلك أبداً، حتى لو قضى عمره كله بالنداء والتلويح في إثره. أحس السيد النائب أنه على وشك السقوط، بعد تعثره بحجر في الطريق إلى الجبهة. كضم غضباً لم يستطع تبريره كما يجب، ثم حاول معرفة مم هو غاضب، من نفسه أم من كوليا، أم من كليهما. فكر بما يجب أن يكون عليه من مسؤولية تجاه الصبي، فهو أبوه في النهاية. لكن، لا بد لهذه المعضلة أن تنتهي بشكل أو بآخر. تساءل عما إذا كان من اللائق أن يغضب من كوليا، أو ينظر إليه كما لو أنه صخرة، أو حاجز كونكريتي، أو سلك شائك، ليكتشف بعدها أن مشاعره متضاربة بهذا الشأن، وعائمة بين الغضب والكره. ارتعب من فكرة أنه ربما صار يكره ابنه. لكن لماذا يكرهه يا ترى ؟ ألأنه بات يحول بينه وبين غايته ؟ أم لشيء آخر ؟ وما هو هذا الشيء الآخر ؟ وهمه الأخير الذي سيُكره نفسه على تصديقه، ويقنعها بأنه حقيقة في القابل من الأعوام ؟ وهم أن كوليا ليس ابنه ؟ لم يسأل السيد النائب. لم يعد يميّز نوع تلك المشاعر التي بدأت تجتاحه، منذ أن طلب منه كوليا اصطحابه معه في مغامرته. أحس كما لو أنه ابتُزّ بطريقة عشوائية، رغم أن الصبي لم يقل شيئاً مما خيّل إليه. لم يقل مثلاً أنه سيضيع إن لم يأخذه معه، أو سيصبح مخنثاً ولواطياً من دونه، أو مدمن مخدرات، أو عضو في مافيا إجرامية، أو متشرداً معدماً، كحال القرويين الذين هجروا الريف إلى موسكو في عهد ستالين، وماتوا جوعاً على الأرصفة. " أنت لن تضيع " علّق السيد النائب أخيراً، وبدا كأنه يخاطب أحداً غير كوليا : " ستكون هنا في أيدٍ أمينة. ثق بي. فربما أُقتل أنا في الجبهة. ومن يعلم، قد أعود بعد سنتين أو ثلاث ! " أيضاً، لم يقل كوليا شيئاً. التزم الصمت، كأنه أدرك أنه متروك لا محالة، ويعرف ما يختبئ وراء هذه الـ " قد " المخيفة، المتشككة، وكيف أنها تفيد للتوقع لا للتأكيد. لو عمد السيد النائب إلى تجريد عبارته منها، لأختلف الأمر، أو كان أقل مما صار عليه الحال، وهو يطلقها بوجهه، هكذا : قد ! فتصطدم في أذنيه، تطنّ مثل الذبابة في صمت راسكولينكوف الرهيب، أو تتردد كصدى صوت التائه بين الوديان السحيقة : قد.. قد... قد ! لم يتشبث كوليا بثياب أبيه كما يفعل بقية الأولاد الصغار. لم يقل له كلمة واحدة، ولم يلح عليه بألا يتركه ويذهب. كان صامتاً فحسب. لم يعتد على مشاهد الوداع والعناق المضمخة بالدموع، ولا يعني هذا أنه لم يكن راغباً بالبكاء، كان يود لو يفعل ذلك، ويتعلق بأبيه مثل طفل صغير، ليبدو طبيعياً على الأقل، لكنه لم يستطع. ثمة شيء منعه، واحساس بالغربة سيطر عليه مبكراً، وكون في مخيلته الانطباع الأول لمعنى أن يعيش المرء في مكان معتم ورطب، لا يخرج منه إلا وهو مصاب بالسل. كما أنه لم يكن مصدوماً من قرار والده بتركه في الملجأ، بقدر ما كان خائفاً، كأن ثمة من يوشك أن يفلت يده، ليتدحرج بعدها إلى هوة عميقة ومظلمة. حفرة باردة، وضيعة، يعيش فيها بقية عمره، يأكل طعاماً بائتاً، ويتعلم حرفة يدوية، وبدلاً من تأهيله لمواجهة الحياة الخارجية بعد عدة سنوات، يتم تدجينه، على نحو ما يُفعل بحيوان كئيب وغريب. أما والده، فقد انخرط في بكاء مر، أو هذا ما أحسه وهو يبكي مودعاً ابنه. كانت دموعه مرّة وليست مالحة كما يُفترض. لقد أجهش بشكل بدا كأنه يكشف من خلاله عن نية كان قد بيتها مسبقاً، وبدأت ملامحها بالظهور منذ أن صار بمقدور الشيوعيين حمل السلاح. كانت القُبلة الوحيدة التي تركها على خد كوليا رطبة بطريقة مزعجة، لا يملك أحداً، باستثناء الأخير، سوى مسحها بكم معطفه، معلناً امتعاضه الصادم، الطفولي، مما يفعله الأشخاص الكبار بالاطفال من حماقات تثير الغثيان. لم تكن قبلة رطبة بسبب ما ذرفه السيد النائب من دموعه، بدت مثل بصقة بنكهة التبغ، ورائحة الفودكا، مخلوطتان في قيء لم يمض الكثير من الوقت منذ أن خرج من معدته. لقد حاول كوليا إخفاء انزعاجه، غير أن ذلك كان وضاحاً على ملامحه، في وقت كانت في عينيه رغبة غامضة لفعل شيء ما، يعبر عن توقه إلى بلوغ النهاية، وختم المشهد التراجيدي التافه بتلويحة أخيرة، بطيئة وبليدة، تفضي إلى طريق اللا عودة، الذي كان السيد النائب قد رسمه منذ البداية.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • روائي عراقيّ

الرواية نت

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم