في يوم أحد إسكتلنديّ خريفيّ، يتداخل فيه الكسل بالملل، وبخاصّة أنّ مدينة إدنبرة تتخفّف من ضغط مهرجانها السنويّ الشهير الذي يشتمل على آلاف الأنشطة في مختلف زوايا المدينة وأزقّتها وشوارعها.. أعداد السيّاح تتناقص، المدارس بدأت دوامها، الجامعات تتهيأ لانطلاق عام جديد، إدنبرة تأخذ قسطاً من الراحة قبل البدء بالتحضير لأعياد الميلاد.. وأورهان باموك يحلّ ضيفاً متأخّراً عليها بعد انتهاء معرض الكتاب فيها نهاية الشهر الماضي.

لا يتكبّد المرء عناء البحث عن مكان لركن السيارة، باعتبار أنّ الوقوف مسموح في يوم الأحد في معظم الأمكنة والشوارع، ولا يحتاج أحدنا إلى دفع رسوم التوقّف و"الباركينغ" الباهظة بالعادة في مركز المدينة. صادفتُ مكاناً شاغراً أمام مقهى "THE ELEPHANT HOUSE" الشهير بأنّه "مكان ولادة هاري بوتر"، المقهى الذي بات يشتهر بمقهى جي كي رولينغ؛ الروائيّة الإسكتلنديّة ذائعة الصيت صاحبة سلسلة هاري بوتر العالمية. رأيت مجموعة من الفتيات في العشرينيّات من أعمارهنّ يلتقطن صوراً "سيلفي وجماعية" أمام المقهى المطلّ على قلعة إدنبرة. قلت لنفسي إنّهنّ من جيل هاري بوتر وأجوائه السحريّة، وربّما يتخيّلن أنفسهنّ مشاركات في العمل بصيغة ما، حاضرات في المكان الذي شهد ولادة شخصياته وهندسة عوالمه.

تركتُ المقهى وما أثاره من تداعيات وأفكار لديّ، وكيف أنّ الأمكنة التي قد تبدو مثيرة وجذّابة وسحريّة للآخرين، تفقد هيبتها ورهبتها وفرادتها بالنسبة إلى مَن يكون بالقرب منها بشكل مستمرّ.. سرتُ إلى المكان الذي يفترض أن تقام فيه ندوة للروائيّ التركي أورهان باموك الحاصل على نوبل للآداب 2006، والذي يحتفل بإطلاق روايته "المرأة ذات الشعر الأحمر"، ويقوم بتوقيعها مع عدد من أعماله السابقة أيضأً بهذه المناسبة.

لم تمتلئ قاعة المؤتمرات الكبيرة عن آخرها كما امتلأت قبل قرابة شهر القاعة التي شهدت أمسية للروائيّ الأميركيّ بول أوستر، ضمن أنشطة معرض الكتاب. أورهان باموك بهالته النوبليّة في ملعب اللغة الإنكليزية. تساءلت في نفسي هل هي مركزية الغرب في التعاطي مع الشرق، وإن كان قد تقلّد هذا الشرقيّ أرفع وسام أدبيّ عالميّ "غربيّ"..؟ لم أتمادَ في تأويلاتي التي تنطلق من التشكيك في النوايا، وسوء الظنّ فيها، واكتفيت بالاستماع إلى باموك وهو ينطلق بلغة إنكليزية ذات لكنة شرقيّة برغم طلاقته وإتقانه لها.

استهلّ المحاور ستيوارت كيلي حديثه باسترجاع بعض أجواء روايات باموك، وعبّر عن إعجاب بعمله الأخير. أمّا بالنسبة لباموك، فلا بدّ أن تكون البداية معه من إسطنبول، حيث الذاكرة والذكريات، إسطنبول التي تشكّل بالنسبة إليه مركز العالم، المدينة متعدّدة الأعراق والهويّات، إسطنبول التي تشكّل جسراً يربط الشرق بالغرب، فيها ملتقى الحوار والصراع معاً، تنفتح على مختلف التيارات التي تزيد ثراءها وتنوّعها.

اعتمد باموك على عدد من الصور التي تحضر في روايته "المرأة ذات الشعر الأحمر"، انطلق من صورة بئر تقليدية وعليها عارضة منصوبة على قائمتين، ومربوط عليها دلو مثبت بحبل، شدّد من خلالها على ما كان يمثّله الماء المستخرج بعناء من البئر من حياة في عالمه الطفوليّ، وأنّ ذاك أصبح صورة يحتفظ بها من الماضي ووظّفها في روايته. وعاد من خلال الصورة بذاكرته إلى أجواء كتابته لروايته "اسمي أحمر" وذكر أنّه كانت بجانبه أرض خالية فيها بئر كتلك، يعتمد صاحبها في استخراج الماء منها على الدلاء، وكانت تلك الطريقة التقليدية الشائعة حينها، وذكر أنّه كان يراقبه بشكل يوميّ بينما يكتب روايته، وأنّه طلب منه قبل أن يغادر إجراء حوار معه، وتدوين التفاصيل، كي يستعين بها في عمله الروائيّ.

ثمّ انتقل إلى الحديث عن صورة لشخصيتين حاضرتين في الذاكرة التركية المؤسطرة، هما رستم وزوهراب، وكيف أنّ الأب كان يضحّي بابنه في عملية افتداء للوطن، وأشار إلى أنّ الذاكرة عادة تركّز على تضحيات الرجال وأعمالهم وبطولاتهم من دون الالتفات إلى آلام النساء، وأنّه في روايته "المرأة ذات الشعر الأحمر" منح صوتاً للمرأة كي تعبّر عن نفسها وهمومها وآلامها، أعاد إليها الاعتبار ووضعها في الصدارة.

قال إنّه كتب هذه الرواية التي جاءت قصيرة على خلاف أعماله الروائيّة الطويلة السابقة، وتذكّر حكاية ظريفة حدثت معه قبل أكثر من 22 عاماً، حين التقى في حارته الإسطنبوليّة العتيقة امرأة مسنّة أخبرته بأنّها تعرفه، وأنّها قرأت رواياته وهي معجبة بها، وتنتظر منه أعمالاً أطول. وأشار إلى أنّ المفارقة تمثّلت في أنّه كان قد نشر روايات مطوّلة فقط ولم يكن قد نشر أيّة روايات قصيرة بعد.

استعاد أجواء كتابته لروايته "غرابة في عقلي" وكيف اقتفى أثر شخصيّاته "مولود وأقرانه" في مناطق إسطنبول وأحيائها المتفرّقة. ولفت إلى أنّه يعتمد بالعادة في بناء شخصيّاته الروائيّة على شخصيات واقعية ولا يلجأ إلى اختلاق شخصيّات متخيّلة، وأنه يلتقي بكثير من الشخصيات، يسجّل تفاصيلها وملامحها وحواراته معها، وتراه حين لا يسجّل مباشرة يفسح لها المجال كي تتكلم وتبوح، يستمع إليها ثمّ يكتب النقاط التي يتذكّرها من محاورته لها لاحقاً، وهذا ما فعله في روايته "ثلج" وغيرها من الروايات التي وثّق فيها للشخصيات وأزمنتها وأمكنتها.

ردّ باموك على سؤال عن مدى اطّلاعه على الأدب العربيّ المعاصر، والأدب الفارسيّ المعاصر، وعن متابعته للسينما العربية والإيرانية، بأنّه مهتمّ بالاطّلاع على الأدب العربيّ، وأنّ الثقافة العربية حاضرة بكثير من الحكايات الأسطورية في أعماله، وأنّه قرأ روايات نجيب محفوظ، كما أنّه مهتمّ بدراسة تداخل الثقافات واللغات الإفريقية والعربية والفرنسية في دول شمال إفريقيا، وتأثيرها وتأثّرها ببعضها البعض، ولم يذكر أيّة أسماء أخرى عدا الراحل نجيب محفوظ، كما لفت إلى أنّه تابع الكثير من الأفلام الإيرانيّة وأنّه معجب بها.

أشار باموك في ردّه على سؤال عن شعوره حين عاش في الولايات المتّحدة وابتعد عن عالمه الإسطنبوليّ ولغته التركيّة، بأنّه حين كان يدرّس في جامعة كولومبيا في الولايات المتّحدة العام 1995، كان التواصل مع أخبار الوطن من خلال الصحف المطبوعة التي كانت تصل متأخرة في العادة، وأنه كان يمارس اللغة التركية في محيط ضيّق، ولم يكن ذلك يمنعه من تكييف كتابته روائياً والسكنى في عوالم تركيا، سواء كانت تلك العوالم التاريخية أو الأجواء المعاصرة، وذلك لأنّه لا يبني رواياته وفق مزاج متقلّب، أو وفق حالة نفسيّة يوميّة متغيّرة، بل تراه يعتمد على التخطيط والدقة فيها، لذا فالمكان الذي يقيم فيه لا يلعب الدور الرئيس في رسم معالم روايته التي يعمل عليها.

ذكر صاحب "متحف البراءة" بأنّه حريص دائماً على ألّا يتابع الصحف والأخبار قبل الساعة الثانية أو الثالثة من بعد الظهر، وذلك كي لا يفسد مزاجه الصباحيّ الرائق، وكي يتمكّن من الكتابة بذاك المزاج "الفريش" المنعش وبالنشاط المفترض من دون تعكير. قال ممازحاً: الروائيّ الجيّد لا يتابع الصحف والأخبار قبل الثانية أو الثالثة من بعد الظهر، خصوصاً في بلدان كبلداننا، حيث الأخبار السيئة بالمرصاد، تداهم المرء في كلّ ساعة، وتتكفّل بتعكير مزاجه ويومه، وتخرجه عن طوره.

لم يفارقني، وأنا أستمع إلى باموك، طيف مترجمه الراحل الكاتب السوريّ عبد القادر عبداللي، الذي أبدع في نقل أعماله الروائيّة إلى العربيّة، وساهم في تعريف القارئ العربيّ بهذه القامة الروائيّة الكبيرة، وأثرى المكتبة الروائيّة العربيّة بنتاجاته اللافتة.

عن جريدة المدن

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم