هناك تراث طويل وفخم من الفهم الخاطئ من قبل النقاد تجاه جوزيف كونراد. جزء منه سببه أن كونراد كاتب معقد، صعب وساحر. كُتب عنه أكثر ممّا كتب بنفسه. ولا يمكن لأي شخص أن يكون على حق طوال الوقت. خاصة عندما يرمي القضايا ما بعد الاستعمارية القابلة للاشتعال مع المزيج. للزمن طبيعة قاسية من حيث تضخيم مثل هذه الأخطاء. بعد مرور قرن على ما كتبه، يبدو بفرح شديد أن كل التكهنات السلبية بخصوص صمود كونراد على المدى الطويل مضللة. المقال الذي كتبته فرجينيا ولف بعد موت كونراد يعدّ من الكلاسيكيات. وفي الواقع، يحتوي هذا المقال على ملاحظات جميلة وبليغة حول فنون القراءة والكتابة: "لكن اقرأ كونراد، ليس في كتب عيد الميلاد لكن بشكل موسع، وسوف تضيع بالفعل في معاني الكلمات التي لن تسمعها في تلك الموسيقى القاسية والكئيبة، مع تحفظها وزهوها، كمالها العنيد والهائل، كيف من الأفضل أن تكون صالحاً على أن تكون شريراً، كيف أن الأخلاص شرف وشجاعة، رغم أن كونراد اهتم ظاهرياً فقط بعرض جمال ليلة في البحر".
لكن هذه الملاحظات لم تظهر اليوم. ما لاحظته بشكل أكبر، وأنا أجلس هنا في ورع القرن الواحد والعشرين، هو التفضّل المتغطرس الواضح في افتتاحية المقال، حيث لقبت وولف كونراد بـ"ضيفنا"، كما لو أنه قضى كل تلك السنوات في المجتمع الأدبي البريطاني في معاناة. استمتعت أيضاً باستهجان التكهنات الواثقة وغير الدقيقة بشكل غريب في الخاتمة: "يجب علينا أن نقوم بحملة قراءة الكتب الأخيرة وإعادة التذكارات الرائعة، المساحة الكبيرة منها سوف تبقى لكثير منا لم تدس بعد. إنها الكتب السابقة: الشباب، لورد جيم، التيفون، وزنجي السفينة نارسيسوس التي يجب أن نقرأها بأكملها". قرأت ثلاثة من الكتب التي ذكرتها وولف باندفاع عنيف من حماس مراهقتي لكونراد. لكني فعلت هذا فقط لأني قرأت أولاً "قلب الظلام"، "نوسترومو"، "العميل السرّيّ"، "تحت رقابة غربية" و"الانتصار". كُتبت هذه الكتب الأخيرة بين عامي 1899 و1915 (تلك التي لمحت وولف بأن كونراد لم يكن "واثقاً" منها حقاً) لاقت أهمية في الأدب الإنگليزي بقدر أي مجموعة مماثلة من الروايات. لم تكن هي الوحيدة بالطبع. رواية الانتصار رسخت بقوة في أعمال الكاتب وقال عنها جون غراي في تقديمه للأصدار الجديد لكتابي عن دار بنغوين بأنها: "رواية كونراد العظيمة الأخيرة". (وهنا تبرز أسئلة احتجاجية مثيرة حول القرصان وخط الظل) لم تنل الترحيب العام من النقاد في 1915. الكثير من المقالات كانت سلبية حتى أن كونراد نفسه اعترف حولها بـ "مشاعر مختلطة". هنا في مجموعة القراءة، ساهمت إحدى المشتركات بمقال من عام 1915، هذا المقال بحد ذاته تعريف جيد لـهذا "الخلط": "وبشكل مفصل رواية "الانتصار" هي قطعاً ليست عملاً استثنائياً كما هو الحال مع رواية الحظ" يشكو الكاتب، "واضح أن علاقة السيد جونز وريكاردو كانت معقولة تماماً مثل ما سوف تكون مرافقة مفستوفيليس لكاليبان. والمحبوبة السيدة شومبرغ كانت غريبة إلى درجة أنها قد تكون مستمدة من حياة هاوٍ لم يتعلم بعد قيمة الأدب في إضفاء الخيال على الواقع... ". وفي مكان آخر، على النقيض، أشار المقال كذلك إلى استمرارية كونراد في"البراعة في تصوير النساء". هنا في القرن الواحد والعشرين مرة أخرى، يبدو هذا مثل إشادة غريبة. على الأقل أنا لم اقرأ الكثير من المديح فيما يخص خلق كونراد للشخصيات الروائية النسائية، وقرأت الكثير من التذمر. ربما هو يستحق إدانة أكثر من التي حصل عليها لوصفه سيدات الزمن الفيكتوري والإدواردي خاصة إذا عرفت أنه وصفهن من خلال مصفاة الرجال في الزمنين الفيكتوري والإدواردي. لينا في رواية "الانتصار" امرأة جذابة لأنها تظهر بمظهر المرأة كما يراها الرجال. وكيف تتصرف على أنها شخصية مستقلة أكثر انفتاحاً في التحاور. لكن لايهم. لأن المثير للانتباه هو بينما تبرز التعليقات السلبية والبالية بشكل واضح في مقال عام 1915 هناك الكثير الذي لا يزال مدوياً وحقيقياً. هناك الكثير لدعم الثقة في مهنة كاتب المقالات النقدية والتي أنصح بقرائتها كلها. الناقد لديه أشياء ساحرة يقولها عن شخصية هيست، عن تأثير هاملت، عن أسلوب لينا المتغيّر وروحها المؤثرة عبر عنها بشكل صحيح خلال الكتاب. هو (يفترض أن يكون الناقد رجل) ثبت بعض صفات الرواية الأكثر تميزاً: "عرضت الرواية خلط عجيب وحيوي لسلوك قوي وصريح مع سايكولوجيا دقيقة". هذه السايكولوجيا الدقيقة على الأرجح هي أفضل ما يُعرف به كونراد اليوم. عانى بسبب جمال كتاباته والبصيرة التي لا زلنا نشعر بها أخضعها لظروف الإنسان. ركزت مقدمة جون غراي على تأثير شوبنهاور وبلا شك أن هذه التيارات العميقة لديها خاصية جذب قوية. من المفيد الآن تسليط الضوء على إغراء هذه الكلمات: سلوك قوي وصريح. ما صدمني في إعادة قراءة رواية الانتصار سابقاً هو كم من الكوميديا والتشويق فيها، وكم هو قوي الشعور بالخطر المرتقب. من السهل أن ننسى، مع التركيز على كونراد والزمن القاتم جداً للروح، أن كونراد لديه مواهب سطحية ككاتب (لكن ليست أقل حيوية). كونراد كان فكاهياً على سبيل المثال. العديد من المشاركين في مجاميع القراءة لاحظوا ذلك بدهشة، وسلطوا الضوء على النكات المرحة مثل: "ابتسامة هيست كانت حزينة نوعاً ما، وانسجمت بشكل سيء مع شاربه العظيم حيث يخفي تحته مزاحه البسيط بارتياح مثل طائر خجول في أجمته". كان أيضاً سيد الأحداث بطيئة الاحتراق. محور رواية "الانتصار" تحرك بحتمية قاسية. نحن ندرك أن عزلة هيست في جزيرته وشهر العسل مع لينا تعرضا لتهديد متزايد لوقت طويل قبل أن تنتهي فترة السلام. وكيف انتهت هذه الفترة بنجاح كما أعلن الوانغ الصيني في لحظة مليودرامية رائعة: "القارب هناك" وبعد ذلك مشهد غير عادي عندما يصل القارب الجزيرة، الكوميديا الوحشية السادية في اندفاع ركابه المجنون نحو المياه. والمزيد من القلق الشديد يحيط بنواياهم. لكن دعنا نأخذ ورقة من كتاب كونراد ونؤجل حل عقدة الرواية الآن. نتريث عوضاً عن ذلك بمعنى أن الأمور سوف تسير بشكل خاطئ جداً، ونشير إلى أن الكتاب الذي تقرأه فيه من المغامرة بقدر علم النفس. سأزيد من مبيعاته إذا قلت أن قراءة رواية الانتصار هي قراءة سهلة. ليس هناك كاتب ممل تماماً مثل جوزيف كونراد. لكنها رواية المتعة المفاجئة. مفاجئة خاصة إذا كان لديك انطباع عن كونراد بأنه محقق أخلاقي صارم وبحار مخلص في الفضاء الداخلي. ربما أن هؤلاء النقاد السابقين كان لديهم ما يعلّموه لنا بعد كل شيء.

ـــــــــــــــــــــــــ المصدر: الغارديان خاص لمجموعة جوزيف كونراد للقراءة 2015

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم