على مدى ثلاثين ليلة كنت أراقب هذا البطل المتخيّل "أحمد داود" في المسلسل الرمضاني "هذا المساء"*. كل مشهد مفاجأة، دهشة وانفصال تام عن الواقع. جسد أحمد داود في هذا المسلسل، الذي اشترك في كتابته تامر محسن ومحمد فريد، دور الشاب سمير المثقل بذنوب قديمة تجاه صديقه وزوجته ويحاول نسيان الماضي بتقلد دور الرجل المثالي النبيل العاقل الناصح لجميع من حوله والمسؤول عنهم، الماضي حاضر دائماً في حياة سمير السائق المخلص لعائلة مستر أكرم. في الحلقات الأولى كان سمير يتجسس على زوجة مديره دون أي سبب واضح، مجرد بقايا سلوك مرضي سيطر عليه وتخلى عنه في الحلقات التالية. شعوره بالذنب من ما تسبب به لوالدة نور ولأنه هو من علم صديقه سوني لعبة التجسس وخوفه من تورط أخيه وسوني في خطأ مشابه جعله في حالة قلق دائم وتذبذب بين الندم والخوف. بطلنا الروائي البارع أحمد داود، أو سمير، كان حياً وله وجود كامل وحقيقي، تماماً مثل كل شخصية روائية مؤثرة وخالدة. كنت أشاهد أحمد داود أو سمير بشكل منفصل عن كونه الممثل الذي يؤدي دور سمير. لم أكن أتابع الشخصية "سمير" بل "أحمد داود" وعموما كان كلاهما شخصاً واحداً في هذا المسلسل المتكامل فنياً. داود يشبه أبطال الروايات، مثل بطل روائي مثالي ابتدعه خيال روائي محترف (ساذج وحساس في نفس الوقت)، يتطابق مع خيال الروائي من حيث أنه تجسيد له. شكل لا يشبه أحد، وأداء تمثيلي متفرد. يُعبّر عن النص المكتوب بوفاء، وأظن أنه لم يمتثل تماماً لإشارات المخرج بينما جسد النص كما كتبه الكاتب بالحرف. بالنسبة للمخرج هو عجينة طيّعة بالتأكيد لما يملكه من مقومات وُلد بها أحمد كممثل، منها ملامحه البسيطة المرنة، نبرة صوته، إحساسه بكل كلمة يقولها، حتى لابتسامته دلالات وصمته إداء تمثيلي تعبيري بحد ذاته. هو يجسد النص، الكلمة بكامل روحه. داود هو تلك الشخصية الروائية البعيدة القريبة التي تتأرجح بين الخيال والواقع وغالباً ما تفاجئ الكاتب نفسه. شخصية يخترعها خيال الكاتب ويحققها خيال القارئ. بمعنى وعلى سبيل المثال: يمكنك أن تضع داود في شخصية راسكولينوف في رواية "الجريمة والعقاب" ولن تشعر أن هذا البطل من خيالك أنت، بل هو بطل ديستوفسكي الكاتب. بطل ديستوفسكي الذي تخيّله ديستوفسكي وليس خيالك أنت كقارئ، خيالك سيعجز عن إضافة شيء لهذه الشخصية كما يحدث غالباً معنا عندما نقرأ رواية ونتخيّل شكل البطل وملامحه. أنت كقارئ ترى الشخصية المكتوبة في خيال ديستوفسكي. ولتكمل اختبار داود ضعه في بيئة وزمان آخر على النقيض من بيئة ديستوفسكي، في أفغانستان عتيق رحيمي ليلبس شخصية رسول وسترى جلياً رسول رحيمي وليس رسول خيالك الذي تتبناه من تجاربك ووعيك وبيئتك. وهكذا قس على كل شخصية روائية قرأتها وخلدت بكل تفاصيلها في ذاكرتك وقلبك، ضعه فيها وسترى أن حقيقة الشخصية ظلٌ بين خيالين، خيال الكاتب وخيالك أنت كقارئ وتقترب من حقيقتها وتبلغ تأثيرها عندما تقترب جداً من توقعات وخيال الكاتب. داود شخصية روائية تشبه كل أبطال الروايات الذين ظلوا في ذاكرتنا وأثروا فينا وشغلونا لأيام قبل أن نتخلص من تأثيرهم و"سحرهم" فينا ونعود إلى حياتنا الطبيعية. لا مقاييس محددة لهذا البطل، يمكنك أن تصدق أنه سمين أو نحيل، طويل أو أقصر مما يبدو عليه، قبيح أو وسيم وهنا تكمن لعبة السرد التي يلعبها داود وهو يسكن روح الشخصية أو هي من تسكن روحه، لا فرق. أتذكر أني شاهدته العام الماضي في مسلسل "جراند أوتيل" بدا لي أقصر في هذا المسلسل. هذا الأحساس وصلني ربما لأن داود "تلبس" بساطة سمير وحياته. بسهولة شديدة يمكنك أن تصدقه في كل تفاصيله، هو ليس واقعياً تماماً وليس متخيّلاً تماماً، هو حقيقي تماماً. كل مشاهد المسلسل وقفات لكن ما أود ذكره الآن المشهد الذي يحكي فيه لصديقه المراكبي الطيب عن تردده وخوفه من إظهار مشاعره. ربما كان خوفه من الوقوع في ذات الخطأ القديم الذي أدى إلى قتل أم الطفلة نور على يد صديقه حامد. أنت ترى كل القصة في وجه بطلنا داود، كل أخطاءه وخوفه وتجربته السابقة وندمه تراه كخلفية تتحرك خلف وجهه وملامحه ولغة جسده في تلك اللحظة وهو يتحدث إلى صديقه. ملامح وتعبيرات ودلالات وجهه انسجمت بدقة مع لغة وحركة جسده. في الحلقة الأخيرة في المستشفى حرك الكرسي حركتين متعاقبتين ليقترب من سوني ويتحدث إليه أو "لا يقترب"، ربما كان هذا بأمر المخرج وكاتب المسلسل تامر محسن الذي أبدع في التركيز على عمق التفاصيل وأهميتها في كل العمل ومع كل شخصيات المسلسل، لكني أظن أن داود عاش هذه اللحظة وتصرف جسده وفقاً لذلك، لا يمكن لأي ممثل آخر أن يُظهر تعب وقلق وتردد وخجل وحيرة سمير تجاه سوني إلا داود، وهذا ما اتضح فيما بعد في حواره مع سوني. " طب أنا أعمل أيه بقى دلوقتي يا صاحبي أتخانق معاك والا أبوس على دماغك ... ". وفي نفس المشهد عندما طلب من سوني أن يقول " بس قول الحمد لله ... بس " حتى الواقع الذي تراه أمامك لا يمكن أن يصوّر عقلك ما تراه بهذا الصدق وهذا هو سحر الشخصية الروائية وسر خلودها أنها تفتح عينيك وتريك الواقع كما هو لا كما تصوره أنت بأوهامك ومخاوفك وأخطاءك وإيمانك ومشاهداتك وكل ما جربته في حياتك. تامر محسن (كاتب القصة) ومحمد فريد (كاتب السيناريو) وضعا شخصية سمير بأبعاد روائية (من وجهة نظري على الأقل) وتحديا سمير بداود، وداود بث الروح فيها وأعطاها شكلها "المكتوب" المتخيّل بإحساسه وشغفه بالتلوّن والإتقان وبلا وعي أحياناً لأن داود وُلد بكل أدوات الشخصية الروائية. هو خيال يتحرك، خيال مادي. داود قَبِل تحدي الكاتب ورسم خياله كما أراد له. في الحلقة الأخيرة أيضاً في اتصاله ببرنامج الاعلامي حازم. بدأ الاتصال بشكل لطيف ومجامل ليضمن الوقت ويشغل الاعلامي الكاذب بنفسه قبل أن يغرقه بسيل الشتائم ثأراً لحبيبته تقى. التحوّل بين اللطف والغضب أظهره داود كما لو أنه جسد دور شخصيتين منفصلتين، وهذا ما نفعله نحن عندما نريد الوصول إلى الهدف بأي طريقة، نحن "نتلوّن" و"نتقنع" لنصل إلى ما نريد دون اعتبارات أخلاقية بل أننا نحرص بعد وصولنا إلى أهدافنا تبرير سلوكنا والدفاع عنه بألف حجة بأن نلبسه ثوب الشرف والحكمة أو قلة الحيلة. الشخصية الروائية تجيد هذا التلوّن ببراعة واللعب على وتيرة الأخلاقيات والعقائد لأنها لن تكون حقيقية إن لم تتبع تجاربنا وسلوكنا الشخصي الذي نبحث عن ما يشبهه ويتوازى معه في الشخصية عندما نقرأ الرواية.
في الحلقات الأولى عندما يجر خلفه أخيه وسوني إلى صلاة الجمعة، وهو يتجسس على نائلة، كذبه الصادق على نور، نصيحته لعبلة وتقى، الصراع وعدم الثقة المتزايد بينه وبين سوني وتردده في نسيان خطأ تقى، وبعدها في الحلقات التالية وتصاعد الأحداث وتسارعها كان داود يمثّل كما لو أنه "ابتلع" كل الشخصيات في المسلسل وتعامل معهم بما يعرفه عنهم، بكل مزاياهم وآثامهم. البطل داود مشى على منحنيات سردية طويلة ومتشابكة بلا توتر ولا ارتعاش ولا تخطي لأي حدث على طول أحداث المسلسل الثرية مثل بهلوان متمرس ومحترف. الخطأ يُغتفر مهما كان عظيماً وهذا واقعي جداً وإلا ما استمرت الحياة. حتى لو كان هذا الغفران بشكل التغاضي والغفلة. ومثل كل الشخصيات الروائية العظيمة غفرنا لداود أخطاءه الماضية وتجسسه على حياة الناس وعزمنا على إبقاءه حياً وحقيقياً في ذاكرتنا كما هو بكل أخطاءه وحسناته. مثلما أمسك بذراع نور في المشهد الأخير أمسك داود بخيالنا وذاكرتنا إلى الأبد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 - مسلسل درامي مصري من إخراج تامر محسن. إنتاج عام 2017.

  • كاتبة وروائية عراقية مقيمة في هولندا

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم