في حياة مضت، اختبرتُ الانتحار بحدوده الدنيا، وصلت عتبة ألم ينضح من لحظة موحشة، تعلمت كيف نسكن العزلة وننتزع عمرنا من جذوره دون رجعة. داعبت الانتحار كما نداعب قطاً خشن المظهر. بهدوء وعلى الحافة فقط، حافة المشاعر، حافة الفعل. لطالما عشت على الحواف. ويمر في بالي ما مضى، في استرخائنا القديم، في بيوتنا الهانئة، وحياتنا التي مرت بجانبنا دون أن ننتبه، عندما رثينا حيواتنا في بلاد بلا أفق، بلا حلم، بلا ثورة، عندما تعلّمنا عن الأدب، وغرقنا في الروي، فتنتنا حكايات الشعراء الحالمين، الكتاب العظام، الفلاسفة العدميين، المنتحرين المترفعين عن الحياة، الساعيين للموت، بوجوههم الأنيقة وشعورهم المصففة على مهل، بألوان ثيابهم الرصينة، و الخدم الكثرالراكضين لإلباسهم ملابس المساء منقوعة بالملل مع الياقات المنشاة. فتننا ذاك الماضي. الآن، ونحن نقيم في جغرافيا العبث، ونعيش زحام الموت، في عاديته، في شعبيّته وسكناه لوجوه فقيرة مغبرة كالحة، لم يعد للانتحار ذاك الألق، فقد الموت بهائه القدسي، بات متاحاً مثل كوبونات الأغذية توزع للرعاع، مع السكر الرخيص والصابون سيئ الطعم الذي تهدر به عربات القطارات البعيدة، في تلك الحروب التي مات فيها كل الناس، وعادوا أشباحاً فقط لينتقموا. الرجل العصري، ينظر لماضيه بتؤدة، دون تصفية حسابات، في عالمه، تزور فرنسا ألمانيا، وتتحد معها بالنقد ووحدة المصير، وتنتخب أميركا رئيسها الأسود، ويصدّر لنا عالمه كل ما نسى. إذ لم يمض زمن طويل منذ أن فقد الكون عقله بالكامل، منذ أن خضع المزاج الكوني، في الحرب العالمية الثانية لرغبات الحرب والخراب وأهدرت 45 مليون ويقال 50 مليون روح، في عبثية هزت ضمائر وفلسفات ومسلمات أخلاقية كبرى، لم يكن الدين من حَرّضها أو ساهم بتفجّر أزماتها. والآن يخوض البشر في منطقتنا، في نزاع داخلي مقيت حربهم مع غرائزهم ذاتها، يسألون مجدداً الأسئلة الأولى، الأسئلة الكبرى عن الجدوى والمعنى، عن الأخلاق، عن الدين والرب والعبث، عن الهجران بعيدين عن آلهة تغفر، تنظّر، تسآئل وتعاقب، أو تجد حلاً. ينمو الفكر، والجمال والأخلاق، في مناطق ظليلة وارفة داخل الوعي البشري لكنه ينمو وحيداً، دون راغب، أو داعم، ينمو هناك مثل الأفكار الشيطانية دون حماية، تنمو الأخلاق عملاقة بمبادئ وفلسفات كبرى وتنثر وعيها للغيب، تمررها لمن بعدها ،تورّث رحلتها للكائنات البشرية التي سترث بعدنا وترث مثلنا حصتها من منجز ، من قهر، من وعي مقلق،لا يُنجي من العبث، والخراب والحرب، بينما يبدو تشذيب الغرائز والحد منها حلماً لا يُدرك. لا مكان للرجال العصريين في جغرافيتنا السائحة كقالب زبدة، حيث يحتفظ الرجال، النساء، ببدئيتهم، وطوطمية خوفهم ، يتشبثون بمحرضات الرعب والخوف واللاجدوى، البشر هنا يستجيبون للخوف مثل آدم الأول، يجوعون كانسان الكهف، يحبون، ويعاشرون كنسخة غير محسنة عن جَدٍ عتيق عتيق.. والرجل العصري يهز رأسه متفهماً، بوعي يدرك مأساة البشر في بلادنا أنهم لا زالوا كائنات بسيطة، طلب منهم أن يعيشوا حياة معقدة فارتبكوا، وذهبوا للحرب. الكل ذهب للحرب.. أنا من الشام، أتيت من بلد لم يكن يحدث فيه شيء، حتى بات يحدث فيه كل شيء. لم يحصل مرة أن سبق الواقع مخيلة عتاة الروائيين والمحللين السياسيين والجزارين والمعتوهين ومنتجي الحروب والأفلام، كما فعل في هذا البلد الذي أتيت منه. لم أكن أباً ولا أُماً بنسل وبحبل سري، لكني في كل صباح منذ تركت الشام، وبشعور مريع بالذنب، مع كل رفة قلب، مع كل سقوط لبشر، لأبنية، لأحلام ورغبات، أشعر أني أدفن ابني البكر بيديّ دون شهود، وحيدة بلا عويل ملائم، ولا تفجّع يليق بالفقدان، فقط أنفض عن ثوبي غبار الذكرى، ألعن من حَبّلّني، وتركني مفضوحة، منفوخة بكل شيء حي، ملعونة برائحة البلاد ،جيفها، قيئها، ألون مُدنها، شمسها، وتدرجات الضوء على طرقاتها المخاتلة، ألعن الذكرى والحنين، أكره الوعي. لم أكن أماً، لم اختبر وجع الولادة والنزوفات، لكن بسكين قيصرية أشق ألمي، أُخرج ما فيّ، أمسك جثة غضة لم يتح لها البكاء، أمزقها، أوزعها على قبور كثيرة، لا شاهد يحاسبني، ولا راهبة أطلب من ربها أن يصفح عني، وكأني في كل صباح من كل صباح أترك ابني البكر ورائي نتفاً، اترك الشام تنهبها الريح، بلا اسم، بلا ثأر، دون حكاية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم