منذ شهرين تقريبا وأنا أواجه يوميا، منذ الصباح وحتى ساعات الفجر الأولى، إحدى شخصيات روايتي الجديدة " متاهة الأنبياء".. لقد دخلتْ غرفتها في الفندق بمراكش ورأت ما رأت هناك..لكنها لم تخرج من غرفتها بعد..لسبب بسيط هو أني لا أدري ما ستفعل إذا ما خرجت.. وإلى أين ستذهب.!؟.. أساسا أنا لا أخطط لأحداث رواياتي بالتفصيل الدقيق لمساراتها ومواقف شخصياتها، وإنما أرسم تخطيطا خفيّا لها بشكل عام..وأتوقف أكثر عن بؤرتها الفكرية التي تدخل ضمن فكرتي العامة عن مشروع "المتاهات" ، لكن التفاصيل عادة تأتي في سياق الكتابة.. أحاول منذ شهرين أن أفرض على الشخصية، وهي شخصية نسوية، إرادتي ككاتب وأجعلها تمر باحتمالات محددة ، احتمالات واعية وقصدية،..لكني حينما أفكر بوعي أدبي، مستنداً للمنطق الروائي الداخلي لمسار الأحداث ولبنية العمل الروائي ،في كل ما خططت له من خطوات لهذه الشخصية، أجد أن كل محاولاتي ليست سوى حلول قسرية يائسة للإسراع بإنجاز الرواية أو بتحريك أحداثها، لذلك أسارع بإلغاء ما خططت له بشكل قسري للشخصية.. بل أقتنع أكثر بأنّ عليّ انتظار ما تقرره الشخصية وفق منطق صيرورتها الروائية، وهو احتمال واحد بين عشرات الاحتمالات الممكنة التي يمكن للشخصية أن تقوم به دون أن أتدخّل بشكل قسري فيه.. احتمال واحد بالتأكيد الذي سيكون في أعماق ذهني ومخيلتي والذي يعبر بصدق فني ونفسي عن الشخصية..وهو الذي سيعبر عنها وعمّا ستفعله..وأعتقد أن الكثير من الكتاب مرّوا بمثل هذا الوقف. منذ أيام و أنا أقرأ في كتاب لكارل غوستاف يونغ (الإنسان الحديث في البحث عن الروح)..وهو كتاب مكرّس في معظم فصولة لتبيان الفروقات بين نظريته النفسية ونظرية كل من فرويد وآدلر.. يونغ نبهني لاستنتاجات مهمة وردت في كتابه وهي بأن القرارات الكبيرة في الحياة البشرية لها علاقة بالغرائز والعوامل الأخرى اللاواعية الغامضة وبمبدأ اللذة وبعقدة النقص أكثر بكثير من علاقتها بالإرادة الواعية والحكمة النابعة عن حسن نية..فكل منا يحمل شكل حياته الخاص به، شكلاً غير محدد لا يمكن أن يحل مكانه أي شكل آخر..!. يعتقد البعض بأنه يمكن للكاتب المؤلف أن يفرض قناعتاته وأفكاره بشكل قسري على شخصياته الروائية..لا أعتقد أن الأمر بهذه البساطة في بناء أية شخصية روائية.. بل علي الكاتب أن يرجع دائما إلى سيرتها الحياتية الذاتية وغير المرئية التي لا تظهر في الرواية.. تلك السيرة التي يفترض على الكاتب أن يكون قد هيئّها في ذهنه وأعماقه..

السيرة الذاتية للشخصية الروائية التي تشكلت من خلال البحث الذي أجراه الكاتب عنها، ومن الخطوط العامة التي رسمها لها، ومن كمّ المعلومات التي جمعها في ملف خاص لها..والتي لا تظهر بالكامل في أحداث الرواية..تلك السيرة التي لا يعرفها غير الكاتب، واحيانا ربما الشخصية نفسها إذا ما كانت مستمدة من أنموذج واقعي..وطبعا هذا لا ينطبق على شخصيات الروايات التاريخية لاسيما تلك الشخصيات الوثائقية..!. السيرة الذاتية المخفية للشخصية الروائية هي التي تضمن تجسيدها بحرارة وواقعية خلال السرد، لكن حتى هذه السيرة لا تهيمن على الشخصية الروائية ولا تقسرها على فعل أشياء تبدو منطقية ظاهريا لكنها ليست كذلك نفسياً..!. لقد أفادني يونغ في إيجاز فهمه للشخصيات على خلاف فرويد وآدلر عند حديثه عن الشخصية الإنبساطية أو الشخصية الإنطوائية.. فشخصيتي الروائية التي دخلت غرفتها ولم تخرج بعد منذ شهرين من زمن الكتابة هي إذن شخصية انطوائية، على الرغم من سعيها الدائم خلال الفصول السابقة للفصل الذي توقفت عنده كي تبدي نفسها كشخصية انبساطية..! الشخصيات الروائية ليست دمى بيد الكاتب المؤلف، وليست بيادق شطرنج يحركّها كما يشاء..لكن البعض يتصور ذلك مع الأسف..، ويجد في كلام الكتّاب عن حرية شخصياتهم الروائية واستقلالها نوعا من التكلّف الأدبي والتبجح ! لكن في ما يخص السيرة الحياتية المخفية للشخصيات هي ليست قانونا في كتابة الرواية..أنا تعلمت ذلك من السينما..من السيناريو والاخراج السينمائي والمسرحي ومن عمل الممثل مع الشخصية السينمائية أو المسرحية بحيث، كل منهم يبحث لها عن سيرة وهمية وفقا لمعطيات عصرها وسماتها الطبقية والاجتماعية والشخصية طبيعة لبسها وهيئتها الخارجية وطفولتها وما مرت به..كل التفاصيل التي تجعل من الشخصية حية ونابضة ومعبرة عن هويتها الحقيقية..ويتم الإتفاق على ذلك من أجل تجسديها.. وكما قلت ربما لا تبدو كل هذه السيرة واضحة أو موجودة في النص الروائي وإنما يواجهها القارئ أو المشاهد مباشرة في خضم الأحداث، لكن على الفنان والكاتب المؤلف أن يشكّل هوية الشخصية وسيرتها الحياتية وأن تكون له معروفة وواضحة.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم