ماذا تحتاج الرّواية لكي تكون سقفا نعلق عليه حلم العالم في أن يكون أكثر سلاما وجمالا؟ لو قدّر للرّواية أن تتحوّل إلى منتوج كيميائي لحُوّلت الكلمات/الحدث فيها إلى ماء وبيعت في الصّيدليات على أساس إنّها ماء يُكتب به العالم من جديد، حجر الفلاسفة الذي يحوّل الشيوخ إلى شباب والمعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، و لتَخَاطب بعد ذلك النّاس في العالم بجملة سحرية، "سأكتبك بماء الرّواية"، ولأنّ الرّواية يكتبها الرّوائي، فسيصبح هو السّاحر، أصابع البيانو التي تصوّر العالم في حالة سلام كما في حالة حرب، لكن الأفق الذي يسير نحوه من خلال الكلمات هو ذاك الذي يكون غطاء يقي من البرد ومن لسعات الذباب أيضا، لهذا كان فلوبير يقول لغي دو موبسان: "ابحث عن الكلمات، ابحث وستجد"، ربّما تكون الكلمات هي وجه العالم الجديد الذي ترومه الرّواية من أجل أن تكون أكثر إقناعا/إيهاما بأنّها العالم الذي سوف ينتقل من الورق إلى الأرض، من المتخيّل إلى الواقع، فتشيكوف كان يلتقط "كل كلمة وهي طائرة في الهواء"، يخزّنها لعله يصنع منها جمالا حدثيا يستطيع أن ينقد به العالم، فالكلمة التشيكوفية هي من صلب العالم، من هوائه وسمائه، لكنّها تصاغ داخل أقبية الذّاكرة وتُرمَّم بالمعنى، ويُنسج المكوّن الجديد بسدى المتخيّل، المعنى والمتخيّل هما ما ينقص العالم لتجديد وجهه وانسجاماته مع الرّوح الإنسانية التي تسكنه، في خيريتها كما في شرّها. صراع الرّواية مع الكلمات، مرير حدّ الموت، وأليم كما ألم انهيار المدن التي تروم إعادة بناءها الرّواية، حينما يرى الرّوائي حارات وأزقّة وشوارع المدن تُهدم، ويصيبها الزّمن فتصبح طللا، ويطالها النّزق فتغدو هدفا للتّدمير، الرّوائي لا يرغب سوى في منح أسماء المدن شيئا من سحر الكلمات، لكنّ "الكلمة ليست فعلا"، كما أدرك سعد الله ونوس، الكلمة تقف عند سحر الأخذ بعيدا عن ضوضاء المتاهة الصّباحية التي قد تفسد على قطرات النّدى ارتياحها إلى نعومة وريقة الورد، وتفسد علينا انتعاشنا المستحيل بفنجان قهوة خلف زجاج مقهى نطالع من خلاله العالم وهو يسير إلى المجهول، إلى وجهه الذي فقده منذ أن استعصى على الرّوائي استحضار تقاطيع الخطوط لمدن كانت تتحرّك في ذاكرته بسهولة، وكان بسهولة يشكلها على الورق كنبات يطلع لتوّه من غيب التحوّل في بذرة مهملة داخل بطن الأرض الملغاة في نمونكلتورا الجمال الوجودي، الأرض صارت فقط ميدانا للضّجيج وتبادل أظرفة الرّصاص كهدايا في أعيادنا الوطنية والدّينية والعالمية، وصار هاجس الرّوائي بعد ذلك أن يكتب من الذّاكرة ليُسقط الوقائع التّاريخية على الواقع المعيش، لكن ابراهيم نصر الله، آخر شيء يفكر فيه هو إسقاط روايته التاريخية "قناديل ملك الجليل" على الواقع، وهي رواية عن ظاهر العمر الزّيداني الذي أنشأ دولة في فلسطين في القرن 18، لأنّ رهان الرّوائي حينذاك يكون حول كيفية بناء الواقع – التّاريخي - على الورق، كيف يجعل من الورق كيانا ينبض بالحياة والألوان والأشياء والأشخاص، قد يكون ابراهيم نصر الله على حقٍّ حينما يبتعد عن قضية الإسقاط، لأنّ ذلك ينحرف بالرّوائي عن مهمّته الرّئيسة في إنتاج اللغة وإبهاجها بالمتخيل. سقف الرّواية متحرّك، يميد كما تميد الأرض الواقعة تحت تأثير الزلزال، وينتقل كما تنتقل الغيوم على صفحة السّماء وتنحدر ماء على جبهة الحياة، تماما كما الفلاح في مواجهته لقرص الشّمس الحارقة وهو يحرّك منجله تحت سيقان أعواد القمح الذّهبية، الرّوائي يبحث في المنطقة التي تجمع لون الشّمس في الظهيرة إلى لون القمح وهو يقاوم إغراء الفتنتين: فتنة تربة الأرض التي تأوي جذوره، وفتنة يد الفلاح التي تمنحه حياة أخرى، يقتلع الرّوائي في هذا المدى جذر اللغة التي تتخفى خلف الماء والسّنابل وعرق الفلاح وعراقة الأرض، هو ذاك ما يجعل من الرّواية ماء يكتب الحياة، ويفتح الورق الصّامت على حقيبة الذاكرة، أو "حقيبة أبي" كما عَنْوَنَ أورهان باموك كلمته التي ألقاها بمناسبة حصوله على نوبل عام 2006، تلك الحقيبة التي وضعها الأب في النّهاية "بهدوء في زاوية متوارية"، لا يقودنا مفهوم الأب في الهطول التاريخي لباموك إلى أي معنى يحيي مفهوم "البطريكية"، لأنّ الوارد في العلاقة هو الذاكرة التي تحتفظ بشيء يمكن أن يتمّ استعماله إذا استنهضت الأوراق همّتها لتكمل مشروع الوجود الماثل بين اللغة المتوالدة والكتابة النّائمة تحت ظل الذاكرة، الحقيبة هي المنظور الذي يفجّر مرايا الكتابة الرّوائية عند باموك، بل لعل الحقيبة تمثل المعادل الموضوعي للرّواية، كونها تقف عند رمزية المسافة التي تختزن معنى السّفر والأشياء المشكلة لمفردات هذا الغياب، الحقيبة تعني الذاكرة باعتبار غياب السّفر هو أيلولة إلى فضاء مختلف، وفضاء الذاكرة هو منظور العلاقات التي تتشكل خلال المسافة بين الأزمنة وحركة المخيال بينها، إنّها تجمع مستلزمات السفر، باعتبارها حروف اللغة التي يتطلبها الانتقال في المكان والزّمن. الرّواية لا يمكن أن تكون صادقة، إنّها حزمة الكذب بامتياز، فإذا كان أعذب الشّعر أكذبه، فإنّ الرواية تفوق كذب الشّعر، وإلا ما كانت قادرة على بناء العالم الذي يتحرّك دون أن تكون هناك مسافات سوى تلك التي ترحل بالقارئ إلى الخيال، خيال الرّوائي هو الكذب المبرّر الذي لا يقول شيئا سوى دراما الكلمات، الحدث هو الكلمات في أشدّ حالاتها صراعا من أجل إنتاج عالم مواز للعالم الذي يتنفّس فيه الرّوائي. "سأكون كاتبة مثلك، لأنّ لدي كوخا يشبه كوخك"، هكذا كتبت إحداهن إلى دوريس لوسنغ، الكاتبة البريطانية الحاصلة على نوبل للعام 2007، كانت في طفولتها تحلم بكوخ طيني لكنّه مملوء بالكتب، كانت أمّها كما تحكي، "تطلب الكتب بالبريد من انكلترا"، تقول لسنغ إجابة عن الرّسالة السّابقة: "هنا تكمن الصّعوبة. الكتابة والكتّاب لا يأتون من بيوت تخلو من الكتب"، الكتب هي تلك المتعة الحقيقة التي تجعل من الرّواية كذبة صادقة، لأنّها الجناح الذي لا يمكن أن يستغني عنه الكاتب وهو يحاول أن يبني بيتا من الطين على الورق، الكتب هي الطوب والتراب، ماذا يريد القارئ من رواية لا تمنحه تشويقا ومتعة وهو يتنصّل شيئا فشيئا من العالم المغلق بالأفق الهندسي ليسبح في عالم المطلق الذي تهدم أسواره الحروف والكلمات، المتعة هي حينما يضع القارئ نقطة النّهاية ولا يشعر بأنّه أكمل سفره المطلق، لكنّه في ذات الوقت يتحسّس جسده فيجد سقف العالم ما زال موجودا وجدران البيت تعزله عن متخيّل الرّواية في المطلق الذي تشيّده الكلمات، هي تلك الحالة التي تستطيع بها الرّواية أن تكون ماء يُمنح في الصيدلية تماما كما يباع الدّواء لكي يتغيّر وجه العالم المحدود بحفره وعوائقه وحدوده وحروبه، لكن هل يستطيع ذلك الحدث؟ الرّوائي مستعد على الدّوام، لكي يفتح روايته في متخيّله بجملة لا يكتبها لكنّها تستولي على كيانه، ومتوجّها بها صوب المتلقي: "سأكتبك بماء الرّواية"، لا تعني هذه الجملة شيئا آخر سوى معنى: "سأمنحك عالما بديلا من الكلمات"، الكتب هي التي تحرّض الرّوائي على ارتكاب هذه الكذبة المبرّرة أو الصّادقة. سنرتشف فنجان مساءنا مدثّرين بدفء الحكاية، لقد كانت الجدّات أكبر من الشّعر حين كنّ يأوين بخيال الأطفال وهم مرتاحون إلى مخدّاتهم ليروين لهم العالم وهو ملوّن بعتمة المساء وأستار النّهايات الليلية، هل كان العالم ينتهي كل ليلة، ويستفيق في الصّباح مع لغو الأطفال وهو يهرولون نحو قهوة الصباح وفرح المدرسة؟ ربّما كان ذلك فصل من الحكاية، حكاية العالم الذي تبنيه الرّواية وتقنع به المتلقين في قدرتها على تشكيل واقع بديل يمكن أن يكون ملاذا تنبني فيه الأسطورة من جديد. الرّواية تهرب من ذاتية الشّعر، ربّما تكون أقدر على خوض الرّهان في بناء العالم البديل أكثر من الشّعر، لأنّ الجسر بينها وبين العالم متعدّد، فما يشدّ الرّوائي إلى العالم هو الحدث المتشعّب والمتنامي في ورطة الشّخوص والأمكنة التي تتحدّد وتتطوّر بمقدار ما يتنفّسه الشّاعر من تعب في سبيل إيقاظ الأشباح الرّاقدة على كف الكلمات، الشّاعر لا يعدّد من روابطه اتجاه العالم، إنّه عالم يواجه عالما في خطّ ترسمه الذّات الواحدة اللامتعدّدة، كل من الرّواية والشّعر يكتب ملحمة اليومي، لكن مفردات الرّواية تحكي النوتات العابرة في السلم الموسيقي للوجود، هي عبورنا اليومي إلى الخبّاز ونحن أشدّ رغبة في استرجاع ما سرقته الأفران من جمال القمح وهو مزهو بالرّقص على أجساد السّنابل، الرّوائي يغري ويوهم المتلقي بأنّه سوف يكتبه بماء الرّواية، والمتلقي يعلم بحقيقة الإيهام لكنّه مستعد وبالفطرة للسّفر على أجنحة الخيال.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم