ليس بمقدور "المكان" أن يعيش منعزلا عن بقية عناصر السرد بل "يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائيّة الأخرى كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية، ويسهم في خلق السرد الذي يحاول من خلال ذلك الفضاء إيهامنا بالواقعيّة والإيحاء بتحقيق التخييل. لكنّ السرد القرآني جاء مغايرا لنهج محاولة الايهام بالواقعية، حيث أفرد خصوصية للفضاءات المكانية التي وردت داخل النص المقدس والتي بالضرورة لا تحتاج لتخيل أو محاولة إثبات صدقيتها فهي من لدن العزيز القدير.. يحوي القرآن آيات عدة تتحدث عن الأماكن "سواء من ناحية الحيز الجغرافي مثل: الكهف، الطور، الأحقاف، الحجر، الحجرات، سبأ، أو من ناحية الحيز المفتوح كالسماء والأرض والجبال والجنة. فالمكان في القصة القرآنية له بُعدان؛ الأول فيزيائي مادي كالأرض والبحر والنهر والكواكب والبُعد الآخر هو ميتافيزيقي غيبي كالجنة والنار وغيرها من الغيبيات. المبئر في الفضاء القرآني وهو المولى عز وجل، وقد أوجد إحداثيات المكان في النص المقدس بدلالات موضوعة في مكانها المناسب لغرض القصة المعروضة. لايمثل المكان في القرآن الكريم عنصرًا أساسيًا من عناصر السرد القرآني؛ لأنّ القرآن هو ليس كتاب قصة أو يهدف إلى تقديم عمل سردي، بقدر ما أنّه "يهدف إلى بيان العقائد والشرائع وسوق العبر والتذكرة" لذا لا نجد العلم المكاني في السرد القرآني إلا مرتبطا بغرض القصة (ادخلوا مصر)، (.. للذي ببكة مباركا) و(ناديناه من جانب الطور).. إلخ. تم إغفال ذكر العلم المكاني في قصة سيدنا يونس فلم نعرف أنه من "نينوى" إلا من خلال المراجع التاريخية والحديث الشريف، ولم يكن على مستوى القصة في سياقها العام أو الخاص غرض لذكر مكان وقرية النبي بل ذكرت الحالية وهي: "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" ولم يكن إيراد العلم المكاني أكثر أهميّة من شرف انتساب قومه إليه عليه السلام. قد يتعاظم المكان في بعض القص خارج القرآن حتى يصبح بطلا من أبطالها، فما بالك بالنص القرآني؛ والذي عندما يرد فيه ذكر المكان فإنّه يفسح المجال أمام التخييل لإكمال بقيّة العناصر السردية والتفاصيل المتعلقة بالمكان.. ففي قصة سيدنا يونس عليه السلام كان المكان عاملا وبطلا حقيقيا في القصة؛ بل أدى وظيفتين سيميائيتين، الأولى وظيفة "العامل المساعد" والثانية "العامل المعيق".. فشجرة اليقطين "وأنبتنا عليه شجرة من يقطين" كانت عاملا مساعدًا لشفاء جروح سيدنا يونس بعد أن لفظه الحوت في العراء.. وكانت بطن الحوت والعراء عاملين معيقين؛ الأول يوحي بالاحتجاز والسجن والانفصال عن العالم الخارجي، والثاني يجعلك مكشوفا بلا حماية أو اتقاء.. وأجمل ما في تجليات المكان بقصة سيدنا يونس ذلك التنازع للعلامة الواحدة (العراء) بين مكونين سرديين (العراء وشجرة اليقطين) فاليقطين أحد مفردات فضاء "العراء" الواسع، والتنازع هنا قائم بين عاملين أحدهما معيق والآخر عامل مساعد حتى وإن كان منبثقا من العامل الأول (العراء).. ونقف مشدوهين أكثر أمام تقنية (التقاطبات المكانية) المتموضعة بين ثنايا النص.. والتقاطب مفهوم يشير إلى الشيء وضده، فبعض الأمكنة في القصة تتداعى على شكل ثنائيات ضدية، تجمع بين "قوى أو عناصر متعارضة بحيث تعبر عن العلاقات والتوترات التي تحدث عند اتصال الراوي أو الشخصيات بأماكن الأحداث" وهذه التقاطبات من طبيعتها أن تنسجم مع المنطق والعقل، فالسجن مثلا يتقاطب مع الشارع، أي أن المغلق يتقاطب مع المفتوح، وفي قصّة يونس عليه السلام يتقاطب الثابت الآمن وهو بلدة النبي يونس "نينوى" مع الفلك المتحرك المخيف (إذ أَبق إلى الفلك المشحون) وكذلك مع بطن الحوت (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) ومع البحر الدال على الخوف.. وهناك تقاطب المحدود واللامحدود وإن شئت فقل الضيق والمتسع؛ فالعراء المحدود يتقاطب مع البحر الكبير وذات البحر المتسع يتقاطب مع بطن الحوت الضيق بوصفه فضاءً ومكانا عجائبيا لا يمكن لأحد تخيل المكوث أو السجن في بطنه في ظلمات ثلاث؛ ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت نفسه، وهو فضاء ضاغط ومعيق دفع سيدنا يونس لمناداة ربه (أَن لا إله إلا أَنت سبحانك إني كنت من الظالمين).. وتتبدى روعة الإعجاز السردي في الصور الجامعة لتقنية التشاكل و"التقاطب" بين عاملي البحر والحوت، فالتقاطبية كانت حاضرة من حيث (الضيق/ الاتساع)، (حي/ غير حي)، (محدود/ غير محدود) أمّا التشاكل والتوافق فيتضح في ناحية أنّ الحوت والبحر كلاهما متحرك ومظلم ومخيف. ويبقى القول أنّ المكان في قصة سيدنا يونس كان مرتكزا ومسرحا أساسيًا تقوم عليه الأحداث وعناصر الحكي الأخرى، وكان أكثر من مجرد ديكور يزين المشاهد والمواقف السردية؛ بل كان عنصرًا مساهما في تشكل الأحداث وتصاعد أنساقها، كما أن سيرورة التشكيل الفضائي حددت نوع الحدث وحركة الشخصيات، فالبطل تحوّل من المكان المتسع الأمن نينوى إلى الفلك المخيف المتحرك ومنه إلى البحر بتلاطم أمواجه ومنه إلى بطن الحوت الأكثر حركة وإخافة؛ ليلفظه بقوة تتناسب وبطن الحوت المظلمة والحالة النفسية ليونس نحو مكان آخر شاسع مخيف وهو العراء قبل أن يصبح المكان أكثر أمانًا بسبب معجزة شجرة اليقطين الشافية بإذن ربها..

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم