يقول نيتشه إنّ الوصفة كي تصبح روائيًا جيدًا، من السهل قولها، ولكن شق غمارها يستلزم مزايا يعتاد المرء على التقليل من شأنها حين يقول: «لا أملك موهبة كافية». تحضرني هذه المقولة لأن لي أصدقاء كثر لديهم النية الجازمة بكتابة رواية لكنهم ينتظرون الوقت المناسب، وأنا هنا دائماً ما أقول لهم إن الوقت المناسب هو الآن، أو إنه لن يأتي أبداً. خاصة أنّ تعريفهم للوقت المناسب تعريف ضبابيّ فضفاض لا يكاد يمسك شيئاً ملموساً. أصدقائي هؤلاء ينتظرون نضجاً كتابياً يعتقدون بلوغه قبل الإمساك بالقلم، يريدون البدء مكتملين، الانطلاق من خط النهاية، الوصول للقمة من المحاولة الأولى. بينما الأمر حتماً خلاف ذلك. هم أيضاً يخافون. يخافون الفشل، يخافون مواجهة الأمر، فالرغبة في كتابة رواية حلم جميل لكن البدء في تنفيذه رعب متحقق. هم يخافون أيضاً أن يختبروا ذواتهم وإمكاناتهم الإبداعية أمام أنفسهم وأمام الآخرين الذين قد نجد منهم من ينتظر نتيجة التجربة الأولى بنفاد صبر. أقول إن الأمر على خلاف ذلك، لأن النضج في الكتابة لا يتأتى إلا من خلال الكتابة نفسها، يصعب في العادة أن نقرأ ونقرأ حتى نمتلئ بما يجعلنا كتّاباً جاهزين، القراءة تضعنا على الطريق وهذا مهم للغاية، لكن ثمة حاجة أيضاً لاقتحام الكتابة والامتلاء بها بحثاً عن كتابة جيدة. ما يحدث حين نكتب أننا نقترب بالفعل مما لدينا ومما نحتاج، نتبيّن مواضع قوتنا وضعفنا، ننتبه لاحتياجاتنا التي تسد ثغرات الإبداع لدينا. حين نكتب فإننا نتحدى ذواتنا، ونخرج أفضل ما فيها. حين نكتب تتغيّر عاداتنا القرائية، نقرأ بعين مختلفة، عين فاحصة تتلمس مواطن النضج في كل نصّ تمرّ به. حين نكتب نصبح قرّاءً نوعيين، يعرفون وجهتهم على سبيل الدقة، تناديهم العناوين التي تلائم مزاجهم القرائي وتحقن معارفهم بالجديد. إذن نقول إن الوقت المناسب هو الآن لأن الرحلة ممتدة، وكل تأخير في البداية هو تأخير في الوصول، ولا وصول في آخر المطاف. الكتابة تجربة تراكمية تتجمع فيها الخبرات وتتعاضد لتخرج نصّاً أجمل في كل مرة، هذا النص ما كان له أن يكون لولا تلك البداية الأقل وهجاً والأكثر التقاطاً للمعرفة والنضج. ـــــــــــــــــــــــــــ

  • روائية وإعلامي إرتري مقيم في الدوحة.

عن صحيفة الوطن القطرية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم