طالما أنّ الرواية تكشف وتضيء العالم الروحي الداخلي للإنسان فإنّها حتماً وثيقة الصلة بالسايكولوجيّة الإنسانية، حيث بدأت العلاقة بين الأدب الذي يعكس هموم الإنسان وعلم النفس بعناصره العلمية الذي يبحث في دواخل الإنسان بمشاعره ورغباته تتنامى منذ أواخر القرن التاسع عشر.. بل وصف البعض العلاقة بين الأدب وعلم النفس بأنها قديمة قدم ظاهرة الكتابة نفسها لاسيما الأدبية فالحكايات الملحميّة للأبطال الخارقين عند اليونان وغيرهم والإلياذة والأوديسة كانت غنيّة بالإشارة إلى تكوينات النفس البشرية والتأويلات النفسيّة. في كتابه "جماليات الرواية العليا" يقول إيرفينغ بوخن: "إنّ كون علم النفس حليفاً طبيعياً للرواية هو أنهما كليهما معلقان عند نقطة التقاء العقل بالمادة، والنتيجة هنا أيضاً متبادلة، الرواية تسجل صورة العقل والمادة، وعقل ومادة الصورة". ولأنّ الكتابة "سلوك" فهذه مدعاة منطقية لإخضاعه لأحوال التحليل والتفكيك والمقاربة، فالقاعدة تقول إنّ لكل أثر أدبي سبباً سيكولوجياً، يحتوي وفق مفاهيم التحليل النفسي مضمونا ظاهرا ومضمونا مستترا، والحالة النفسيّة للمؤلف، بجانب دوافع الكتابة التي لا يعيها أغلب الكتاب. لذا عمد كثير من الروائيين إلى استثمار علم النفس والسيكولوجية الاجتماعيّة لفهم خصائص الشخصيّة الروائية بمختلف أنماطها ودوافعها الشعورية وإسقاطها على العمل الأدبي؛ لأنّ معرفة القوانين العميقة للحياة النفسيّة تمنح الروائي فهماً صائباً ودقيقاً لدوافع الشخصيّات وتصرّفاتها ونشاطها؛ علما بأنّه لا يضع نظريات علم النفس أمامه ومن ثمّ يرسم على ضوئها شخصياته؛ بل على العكس تماماً، إذ يأخذ الروائي سمات شخصيّاته وأنماطها من الواقع الحي المعقد، بينما يتناول النفسانيون الأعمال الأدبيّة من زاوية التحليل النفسي وليس الأدبي. ويعتبر بناء الشخصية أحد المكونات الأساسية في القصة ويجسد شكل العلاقة بين الأدب وعلم النفس. فبناء الشخصية يعني علم الشخصيّة والتعرف على حالاتها لا يتم إلا من خلال علم النفس. اشتط السرياليون في جانب "العامل النفسي"، وعدوه مصدر الصدق الوحيد وما عداه حواجز في وجه هذا الصدق الذي ينشدونه، يقول والاس فاولي في عصر السرياليّة: "لا تكفي المظاهر الشعورية للإنسان كي تفسر حقيقته، أو ماهيته، سواء لنفسه أو لغيره، إذ أنّ اللاشعور لديه يشتمل على الجزء الأعظم من كينونته، ومن الواضح أن كلامنا وتصرفاتنا الشعوريّة، وما نقوم به يوميّاً يتناقض ويتعارض مع حقيقة مشاعرنا ورغباتنا وعواطفنا، إنّ النموذج الصادق للسلوك الإنساني رسمه وبينه الواقعيون، أمّا حياتنا المستمرة فقد شكلها الآخرون، شكلتها القوى الاجتماعيّة وليس رغباتنا أو قدراتنا الداخليّة، إنّ القيم والمعايير الاجتماعيّة الثابتة، أو الحياة التي نظمتها معايير المجتمع الثابتة، أو الأحوال الشعوريّة كل تلك الأشياء حواجز في وجه الصدق". في الوقت الذي اعتبر فيه "فرويد" التحليل النفسي وسيلة علاجيّة ومرجعاً ذهنيّاً قوي الفاعليّة اعتبره "سارتر" مجرد شكل موضوعي بحت قابل للرفض والقبول. وحاول ترسيخ منهج جديد للتحليل النفسي يستبعد فيه مبدأ "اللاشعور" وقدم ما يسمى بـ"التحليل النفسي الوجودي" فالإنسان عند "سارتر" وحدة متكاملة ومتجانسة، لا مجموعة من المشاعر المتناثرة، وعلى هذا الأساس يعد المرء متكاملاً في تصرفاته كلها مهما كانت بسيطة أو تافهة، وعليه أن يدرك إلى جانب هذه التصرفات ميوله وأهواءه في كشف واضح. ويهدف تحليل سارتر إلى تفسير معظم التصرّفات بجلاء ووضوح تامين، وذلك بالعمل على وضع الظواهر وتحديد مفاهيمها، وفهم الحقائق المتعلقة بالكائنات وارتباطها بالإنسان، ففي "التحليل النفسي الوجودي" تتأثر الميول العميقة لدى الأشخاص بطبيعة الظروف المحيطة بهم، ولمّا كانت هذه الميول واعية ومدركة فهي تساعد الإنسان على معرفة أهدافه، وفي هذه الحال يصبح الهدف التوصل إلى معرفة الوجود، أو الاقتراب منه. يعيب سارتر على فرويد أنه تحدث عن "اللاشعور" بلغة ذات معاني أسطوريّة، وعدّ ذلك نوعًا من مهمات "خداع النفس" أو "ضعف الثقة بالنفس" حين عرّف فرويد الأدب بأنه "لا شيء غير الأماني غير المتحققة، والمخاوف المؤجلة" أي أنّه محاولة لخروج أشياء حبيسة في "اللاشعور" البشري. "سيمون دي بوفوار" اتفقت مع موقف سارتر من التحليل النفسي الفرويدي، ولها مآخذ على المصطلحات والإيحاءات والرموز الفرويدويّة التي تتناول الجنس، وأبانت أنّ التحليل النفسي لا يمكن استخدامه إلا في الحالات المرضيّة فقط، أمّا بالنسبة للأشخاص الطبيعيين فلا يصح تطبيق هذه المناهج والنظريّات عليهم لأنّها لا تلائمهم قط. وبرغم ذلك نجد أنّ "النقد الأدبي" استعار من "التحليل النفسي" الخطوط العامة لعمل "اللاشعور" بجانب عمل "الأحلام"؛ حيث ترى "أناييس نن" في كتابها "رواية المستقبل" أنّ "الروائي اليوم يسير على خط موازٍ للعالم النفسي، حيث يتبيّن ثنائيّة الشخصيّة الإنسانيّة وتعدديتها". والتحليل النفسي برهن أنّ الأحلام هي المفتاح الوحيد لحياة "ما وراء الشعور" وأنّ المحللين النفسيين أكدوا العلاقة بين الحلم والأفعال الشعوريّة، وهو ما كان الشعراء يعرفونه من قبل، وتُعرّف الحلم بأنّه الأفكار والصور التي توجد في الذهن ولا تخضع للعقل، وليس الحلم بالضرورة هو الصورة أو الفكرة التي تبدو لنا في النوم، إنّه مجرد فكرة أو صورة تنجو من سيطرة الذهن العقلي أو المنطقي أو السببي، كما ترى أنّ كل أعمال كافكا أُخذت من حقل حلم اليقظة. وقد حوّل كافكا أحلام اليقظة إلى روايات كابوسيّة.. علاوة على أنّ الأدب استمد مصطلح "تيار الوعي" من علم النفس بعد أن أطلقه عالم النفس الأمريكي "وليم جيمس" عندما قال: "إنّ الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الظاهر على هيئة فيضان".

ــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب وصحفي سوداني مقيم بمسقط. الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم