إن النقد العربي بمنطق ما هو ما تعكسه الحالة الثقافية والفكرية المتصورة أو الواقعية عن الواقع العربي كما تمثلته الكتابات الفكرية والنقدية العربية بعامة، أو التفكير العربي في حدود ما يتضح في الكتابات العربية المعاصرة، وهي تدور حول مجمل السرد، إن لم يكن السرد العربي على نحو ما راكمته الكتابات العربية مؤخراً، وهي تدور حول مفهوم نقدي أوحد وهو السرد وخطاب السرد وبنية السرد، والسردية إلى آخر عناوين الكتب والدراسات العربية المنتشرة بشكل واسع تحت هذا المفهوم أو المصطلح بحسب استخداماته. ويبدو أن المفردة – للمفارقة – لا تجد مدخلاً معجمياً عربياً يزيل بعضاً من اللبس الذي نقلته الترجمات العربية ما بين الحكي والقص والنص الروائي عن اللغات الأوربية وللدقة اللغة الفرنسية Discours ، ولذلك أصبحت الحالة العربية النقدية حالة سردية، ولناقد نقد ما بعد الاستعمار هومي بابا توصيف ينطبق مع الحالة العربية الثقافية، وهو أنّ الأمم سرديات بالشكل الذي تصورته القوى الغربية عن مجتمعات خارج القارة الأوربية، ولكن أن تتحول الأمم من داخل سياقاتها الى سرديات مجردة، فلابد أن معضلة في أنماط التفكير غير النقدي الذي ترسخت أشكاله في بنية (العقل) العربي.
إن النقد الذي نعنيه، النقد العقلاني الذي يقرأ الواقعة السردية بمفهوم علمي لا تسبقه التحيزات المسبقة؛ ولا نتوقع وجوده في الحالة العربية وزمنها الثقافي وهو بطبيعة الحال والمآل لن يكن زمناً عقلانياً يحتمل صفة وممارسة النقد العقلاني؛ وإن الفكر العربي النقدي، والفلسفي منذ أن أوجده عبد الرحمن بدوي في الزمان الوجودي، وظل معلقا في ملكوته الوجودي إلى تفكيك الجابري لبنية العقل العربي تحديداً وليس العقل البشري الإنساني في بعده الفيسولوجي الذي انتج العقل الفلسفي ومنجزات الإنسان الحضارية، على نقد طرابيشي في نقده لنقد النقد، ومن قبل ذلك يأتي حديث القرون الذهبية على ما يستثير مخيلة العربي من الفكر التراثي العربي القديم وما أدراك ما التراث وما يحتج به ويقوم عليه الدليل بأسبقية العرب في النقد وعلوم اللغة ولهم في ذلك كل قول وحجة وتصنيف! إلا أن نِحل النقد العربي ومِلله تركت فجوة معرفية أو قطيعة معرفية Epistemological Break بعبارة غاستون باشلار التي شاعت بغير حق في الدراسات النقدية العربية المعاصرة أخفق بعدها المشروع النقدي العربي أدبياً وفلسفياً، وبالطبع سياسيا من واقع التجربة أو الثورة أو الانقلاب.
المشكلة أن النقد مفهوماً وآلية تفكير وحزمة عناصر داخل أنساق الفكر، ثم ممارسة في عالمنا العربي قد تحددت أشكاله وأنماطه في النقد التقليدي الذي ساد الثقافة العربية لعقود، فأصبح الفصم بينه وبين النقد التاريخي يستعصي على محاولات بعض النقاد في حسم الجدل الكثيف أو الدرس المعرفي. ومع أن النتيجة الماثلة تعكس حالة فكرية مفارقة لم يملك النقد العربي إلا أن يسميها إشكالية النقد العربي. وإذ النقد العربي في سياقه التاريخي (التراثي)، والفلسفي والمفاهيمي (المترجم) وأثره على الكتابات النقدية (الغامضة) المعاصر نقد لا يقوم بدوره في قراءة الواقع الفكري تنظيرا و تطبيقا، وما أشكل عليه وعمق من أزمته المنجهية أنه نقد تتجاذب أصوله الفلسفية كل ما هو خارج عن سياقه، مع الأخذ في الاعتبار القيمة التاريخية للتراث واللغة العربية تلك الصيغة الدارجة في معرض معارك طواحين الهواء بين المعاصرة والتراث. وبعد فما لا يدرك كله لا يترك جله، فأنحت الاتجاهات النقدية خاصة في نظريتي السرد والخطاب إلى الامتياح (المفردة اللزجة) من دائرة معارف الانسانية وما توصلت علوم اللغة والعلوم الانسانية في العالم (العالم الغربي) على حد ما يفهم ويسلم به في دائرة الثقافة العربية بمستوييها الاكاديمي والاعلامي الطاغي. فإذا كانت الحاجة إلى الحلول والمعالجات في التعامل مع منتجات فكرية مثلها مثل سائر المنتجات الاقتصادية الأخرى - بقيمتها الفائضة-، تكاد تكون حاجة دائمة في العالم العربي، فإن النتيجة التي انتهت إليها محاولات بناء نقد، أو خطاب نقدي بتعبير النقاد العرب تمثلت في حالة سيولة سرديةـ فإما أن تحلل البني المفاهيمية والاصطلاحات العربية وفق بنيتها السردية أو تكون سردا معلقاً في فضاء التهويمات التي تملأ الفضاء الثقافي العربي. وما أبصره عبد العزيز حمود عبر بمرآه المقعرة من شرخ أحدثته فرقعة المصطلحات النقدية والحداثة المستلبة في جدار الذهن النقدي العربي بالوقوع في حضن الحضارة الغربية، وبالتالي اخضاع المعارف العربية التراثية لمقتضيات التصوارت المعرفية الغربية التي لا محيص عنها. وحمودة كغيره من المفكرين العرب الذين دأبوا على نقد مرحلة الحداثة العربية بأدوات غربية خالصة من كل شوائب التراث العربي وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا. وإذا كان النقد لم يعد في عند العرب أهم أداة عقلية بمفهوم فيلسوف المثالية الألماني كانت، فإنه يشكو إعادة التعريف، بتعرف بناء التصورات. إذن ما هو الدور الذي يؤديه النقد وظيفاً، إن لم يكن التشريح والتحليل و التفسير؟ على اعتبار أن النقد هو التشريح بتعبير الناقد الكندي انثروب فراي، تحليل للنصوص (السرديات) أي قراءة ما تحمله النصوص الابداعية والفكرية وما تحمله تلك المنجزات في مختلف ضروب المعرفة الانسانية. ولما كانت المنجزات معطيات يتقوم بها النقد، فإن البحث عنها في محيط الثقافة العربية منذ عصر النهضة بحاجة إلى مصباح ديوجين! وإذا كانت السرديات العربية قد اتخذت طريقة المواءمة ومنهج المقارنة ومبدأ المطابقة مقارنة مع تلك السرديات الكبرى التي تدعمها الأصول الفلسفية والفكرية التي صاغت أبنيتها التأسيسيّة. وأما النقد في الحالة العربية العربية قد اتخذ مساره العام متنازعاً ومبعثراً بين فوضى حالة الثقافة العربية نفسها، فأصبحت الدراسات النقدية للنصوص الإبداعية أو المقاربات الفكرية المنهجية وتحليلات الظواهر في مجمل الخطاب الثقافي والنقدي تجريدا مبهما ورؤية غبشة لا تفضي إلى نتيجة بأسلوب يجهد في استنطاق النص قولاً، بمعنى تفسير القول بالقول دون أن يعنى النقد أو الدراسة بالبحث العميق الذي يجلي ويسهم في إخصاب تلك النصوص. وما حالات الاجترار السردي في منظومة الخطاب النقدي التي تولّدت عنها مؤلفات وتصانيف مضخمة كما في دراسات الباحث العراقي الدكتور عبدالله ابراهيم في بحوثه عن المنظومة السردية عربية متكاملة إلا تأكيدا على فرضية أن مسار النقد العربي لا يخلو من حركة ارتدادية تربطه بماضي التراث. وإن تكن من بين وظائف النقد تاريخ التراث ونصوصه أو بما يعرف بالنقد التأريخي. فالحاجة إلى إعادة تكوين بينة نقدية عربية تستدعيها الحاجة إلى وضع النقد العربي في مساره الصحيح، وذلك بمراجعة شاملة لمناهج النقد العربي و توجيه مساره إلى حيث الوجهة المناطة بها ابتداء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب سوداني مقيم في الرياض.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم