إنّ العالم والسرد يشكلان وحدتين وواجهة الخطاب الوجودي في تفاعلهما المتبادل لإيجاد نسق يحمل كل منهما تصورات الآخر، والنص السردي هو محاولة البني الفوقية لتفسير وتجسيد موقع الإنسان الأنطولوجي، وبما أن العالم ظاهرة مهيمنة تحيط بالواقع الفعلي الذي ينازع الإنسان ويستحثه بكل ظواهر ومكوناته، ووضعيته الكونيته، أي في مركز الكون الذي اتجهت إليه الفلسفة الإنسانية Humanism ، إلا أن المسعي العقلاني في قابلية السرد هي الوجه الآخر للهيمنة على العالم. فنحن ندرك أننا خلقنا للهيمنة على العالم لا أن يهمين علينا العالم. والعالم لم يقف كحالة طبيعة صماء يتفاعل معها الإنسان ولكن التطور البشري أفضي إلى عقلنته بتقليل أهمية الجوانب الميتافيزيقية وأثرها على واقع الانسان. هذا الانتقال من الطبيعة إلى العقل أحدث تغيرا في القيم والتصورات الإنسانية ومدى حاجته إلى قيام مؤسسات تحمي هذه القيم وفق نظم تواضع عليها وأعد معاييرها وشرّع لها أطر تحميها من تغول رغائب الطغيان البشري. وقد تأسست هذه القيم على خلفية تاريخية مثلتها التجربة الإنسانية المعرفية والفلسفية وتجارب الصراعات البشرية أن تجعل من العالم مكاناً متصوراً على بنية المفاهيم التي تكونت من محاولات الفلاسفة والأدباء والمفكرين والشعراء؛ أن يكون عالماً خالياً من مسببات الشقاء. وبما أن هذه الأفكار توحي بعالم مثالي لا وجود له في العالم الواقعي (يوتوبيا) وأهدافها غامضة وتستعصي على التعميم على من واقع التجربة العملية لاختلاف التجربة البشرية نفسها من مكان إلى آخر. السرد في الرواية الأفريقية تنطبق عليه فلسفة السرد التي تقوم على منظومة نصوص النتاجات الفكرية والأدبية وما تتضمنه من رموز وتصورات تبني على تشكيل صيغة سردية مقروءة في سياق التطور النقدي لعلم السرد، ومفاهيمه التي تتعاطي مع النص الشفاهي والكتابي حيثما تمثله في اتجاه فكري أو أدبي محدد. وبقي الأداة التي تطورت في القرن العشرين ما غذته المعارف الانسانية والنظرية في تطور بنائي متسق وفقاً للنظرية الأدبية ومناهج علم السرد عموما. وخلافاً للعلوم التي تولدت عن حقل العلوم الإنسانية في الأنثروبولجيا وبحوث اللغة التاريخية الفيلولوجيا والمباحث التاريخية في الاستشراق والنظريات المنبثقة عن مبادئ نظرية النشوء والتطور وما صاحبها من ادانة اخلاقية بنزوعها إلى تصنيفات جينولوجية صنفت الشعوب كمراتب تمثل قمتها الغرب (الإنسان الأبيض) والآخر الذي هو خارج المركزية الأوربية؛ وبالمقارنة انحت النظرية السردية جانباً – بتأثيرات البنيوية – العوامل الخارجة عن النصوص السردية وبيئتها الموضوعية وعكفت على دراسة النص الأدبي في مدى استجابته إلى العملية الابداعية وشروطها. والتحليل النقدي يتخذ السرد موقعها مهماً في إبراز الخطابات الفنية والجمالية المشتكلة في النص السردي. ومنذ أن تجاوز الفكران الفلسفي والديني معاً، وبالتساوق، العقبات التي كانت تحيل دونهما من الظاهرات الذوقية عامة ومن التعبير الأدبي عنها، خاصة مادة لمحاولتها النظرية بات الفكر النقدي فلسفياً (أسرار علم الحياة) المزدوجة المباشرة بالآداب من حيث طبيعة المناهج المستعملة لعلاج تعيينات التعبير الأساسي فيهما، أعني كل فنيات الترميز اللساني، ومن حيث التجارب الوجدانية التي يتعلق بهما هذا التعبير منهما.وتمحور السرد الأفريقي حول تفكيك سردياً كيف يمكنه القيام به في وجه الخطابات المضادّة كما في رواية ( الأشياء تتداعى) للروائي النيجيري تشنوا آتشيبي.

الرواية الأفريقية والسرد:

إذا كانت الرواية الأفريقية واجهة الخطاب السردي الأفريقي ومعلماً بارزاً في تشكلاته الفكرية والأبداعية، ووجودها يمثل إحدى صيغ الخطاب السردي الحديث في السرد الأفريقي، فإن أشكال التعبير الأخرى لم تكن غائبة عن شعوب القارة. فتاريخ الثقافة الأفريقية له امتدادت متجذرة في بنية ممارسات الطقوس الفنية والأشكال الجمالية تجلت في طقوسها الأسطورية والحكاية الشعبية وملاحم سير الأبطال، وبالتالي تضمنت رؤية سردية تضعها ضمن مفهوم الخطاب السردي. هذه المكونات الثقافية في نطاقها الجغرافي شكلت وجوداً للهوية الأفريقية، ويرى شاعر الزنوجة ليوبولد سنغور بأن الأنطولوجيا الأفريقية بالعودة إلى الماضي تبدأ من الشمال السوداني إلى جنوب البانتو، قدمت أفريقيا دائما وفي كل مكان مفهوم العالم الذي يعارض بكل ما في الكلمة من معنى يتعارض مع فلسفة أوربا التقليدية . وفي منهج تحليل النصوص تنبع مصداقية النص من دوره في الثقافة، فما ترفضه الثقافة وتنفيه لا يقع في دائرة "النصوص"، وما تتلقاه الثقافة بوصفه نصاً دالاً فهو كذلك. ومن هذا المفهوم تشكلت رؤيا العالم الأفريقية والتي خلالها حاول الرواية الأفريقية تفكيك العالم وتصوراتها المنحازة. ويتحدر السرد الروائي من هذه الرؤية داخلاً في حوار العالم. فالرواية الأفريقية لم يعد ينظر إليها في العالم الغربي كبيانات أنثروبولوجية تخلو من الخيال الإبداعي غير وافية بمعاييره التي تأسست على الصيغ الغربية. فخيال الكاتب ليس مخططاً حسابيا يمكن تتعبه، ضمير الكاتب كان مصدر قوة لا تقاوم لتفعيل طاقة النص الروائي بالخيال .أما الروائيون الأفارقة – منتجو السرد الروائي- فكانوا على وعي بالفجوة التي تفصل بين النصوص السردية القابلة للقراءة وبين تلك التي ظلت في سياقها المكاني في القارة. ويعود سؤال اللغة مجدداً عن اللغة التي تقدم بها النصوص السردية المقروءة في اللغات الأوربية وكيف أن هذه اللغات تعزل عدداً من الروائيين الأفارقة بالإضافة إلى ما تطرحه من تحديات عدم قدرة تلك اللغات عن التعبير عن تعقيد التجربة الأفريقية وثقافاتها. هذه المواجهة قدمت الرواية الأفريقية كسؤال لنقد الهيمنة الغربية اللغوية بتاريخها الاستعماري الذي ولّد ثنائية اللغة وأثرها الفصامي على شخصية الكاتب الأفريقي. لقد تجاوز السرد الروائي الأفريقي مثل هذه الأسئلة وشاكلتها التي أرقت كتاب ما بعد الاستعمار، وهو الانفتاح الذي امتد عبر حوار الثقافات والحضارات وتفجر ثورة المعلومات التي غيرت العالم والغت كثيرا من حدوده الفاصلة. الرواية في محتواها السردي محاولة لنزّع السحر عن العالم Disenchantment والتعبير بدلالته لكشف ما وراء خطابات العالم وما يحيط بها من غموض حين لا تتطابق المعايير التي يتزعمها في النظرة المتصورة إلى الإنسان، والحماقات التي يرتبكها العقل الإنساني في الحروب والكوارث ونتائجها الفادحة في الموت والدمار والهجرة؛ ومثالية الخطابات من جانب. والرواية من الأجناس الأدبية التي حاولت أن تزيح هذا الغطاء عن العالم ونظمه التي تأسست عليها مفاهيمه في تحرير الإنسان وحقه في المساواة والحفاظ على خصائصه الثقافية والبيئية. موظفة لأدواتها في السرد والحوار ينكشف العالم؛ وأبنيته في المعرفة والفكر ونتاجاتها في القانون والفنون أمام سطوة السرد الروائي، إنها الأدوات التي تعمل على تفكيك النظم التي قامت عليها هذه التصورات. فباختفاء السحرة والمخلوقات القوية الخارقة للعادة علامة مصطنعة لثورة عميقة في العلاقة بين السماء والأرض التي تعيد بشكل حاسم إعادة بناء العلاقة بين موطن الإنسان من السماء. وللتفكيك في الأدب طرائق كشفت عنها المدرسة التفكيكة La déconstruction التي تزعمها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا كنظرية في الأدب مبينة على ميراث فلسفي تعمل على تفكيك البنى اللغوية والمعاني. ولكن تفكيك الرواية للعالم غير التفكيك الفلسفي، فإذا كانت التفكيكية تقوم على تطبيق التفكيك على العلامات اللغوية المضمرة في النص، فإن منحى الرواية إبراز هذه المعاني بأدواتها في الشخصيات الروائية والأحداث التي تفكك الصور الرمزية والمثالية في العالم. أنها، أي الرواية بحث عن موقع الإنسان في العالم حينما يبدأ السؤال في خضم الأزمة الإنسانية لأفريقيا وإنسانها. لم تزل الرواية – على نحو ما - موصولة ببعدها التاريخي المتجذر في نشأتها في المجتمع البرجوازي في الغرب، ونظم العلاقات التي أوجدها المجتمع الجديد فتراكبت عليها الخطابات المعرفية اللاحقة. ووضعت بين حقلي العلوم الإنسانية والنظريات النقدية القائمة على أصول تلك العلوم وفلسفاتها، وبالإضافة إلى علم السرد والنظريات السردية واللغوية والأجناس الأدبية الأخرى. وهي كما نظر لها منظر الرواية جورج لوكاش الشكل التعبيري الأمثل بالنسبة إلى كل مجتمع لم يحقق درجة متقدمة من الاندماج بين الذاتية والفردية والموضوعية الاجتماعية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم