الأدب المقارن مجال يعنى بدراسة الأدب ونظرياته ومقارباته المنهجية داخل تشكلات السياقات المعرفية العامة،والثقافات المتعدَّدة في أوسع مجالات تاريخ الأدب وفروعه المختلفة مما يدخل في حيز المقارنات الأدبية. فالأدب المقارن Comparative Literature تمدّد مقترناً ليس حصراً على مقاربة الظاهرة الأدبية بل وتحليلها وفق منظور حقلي تتنوع فيه الآداب والثقافات وتقارن مع نظائرها في المحيط العالمي باختلاف اللغة، والإقليم والثقافة ويكون الوسيط اللغوي (اللغة) أوضح وسائل تنتقل ويقَّوم بها المنتج الأدبي. وعلى الرغم من شمولية النتاجات الأدبية والمعرفية التي يُعني بها الأدب المقارن، إلا أن الرواية بوصفها نص سردي بالغ التعقيد يتحدَّد موقعها ضمن خريطة الأدب المقارن بمدى فهمنا للرواية ابتداءً كجنس أدبي ونتاج سردي بالغ الحساسية اللغوية. وقد يطرح المنهج الذي يحلِّل النصوص الأدبية ويخضعها لمعايير ضابطة، أسئلة تستنطق البنية التركيبية للنصوص ضمن المقاربة المنهجية باستخدام النظرية والتطبيق بالصورة التي عادة ما تقاس بها مقارنة النصوص الأدبية. وقد استقرت تقاليد الأدب المقارن ومناهجه في الموروث النقدي الغربي في دراسة الأدب والنظريات النقدية المجاورة تطبيقاً على نصوص ترتبط بآداب شعوب خارج المنظومة الغربية في أفريقيا وآسيا واميركا اللاتينية. وعلى نحو ما، تقوم فرضية الادب المقارن بدعوى أن فهم الاعمال الأدبية لا يتكامل بغير مقارنتها بعدد آخر من الأعمال الأدبية تشمل حتَّى الأعمال غير النصيِّة والفنية الأخرى كالتشكيل والرسوم والسينما وغيرها من النتاجات الجمالية والفنية، وذلك بتحليلها وفق السياق التداخل الثقافي Intercultural بما يعني الاقتراب من مرموزات ثقافية أخرى غير اوربية. وبهذا يستعاد الاتجاه العام الذي ساد مرحلة ما قبل وبعد الاستشراق، و ما بات يعرف بدراسات ما بعد الاستعمار وهو منحى يستند على مناهج ذات أصول غربية يبرز الاتجاهات النقدية لما بعد الحداثة، ومفهوم الخطاب وغيرها في نقد تاريخي يتوغل في الظاهرة الأدبية والفكرية. وقد تَّمت معالجة آداب العالم الثالث بالمناهج والنظريات ذات الأصول الغربية، وظلت المركزية النقدية الغربية سمة بارزة في غالب . وتعد الرواية من بين أكثر النتاجات الأدبية تعدداً وتبادلاً حول العالم، وقد أستمرت هيمنتها بشكل مضطرد، وأثر طاغ على ما عداها من الأشكال السردية الأخرى. فمنذ سرفانتس مرورا بدوستويفسكي وماركيز والطيب صالح وتشونا آتشيبي و هاروكي موراكامي لم تزل الرواية في صعودها وترحلها بين مدارات متباينة في اللغات والثقافات آخذة بالمتخيل الإنساني إلى آفاق كونية؛ إنها النصّ المفتوح على التجربة الانسانية وتعيد باستمرار تشكيل موقعها بل ظلت في حوار مفتوح دائم حسب تعريف باختين احد منظري الرواية في القرن العشرين. وبما أن الحوار هو لغة تتوطن في النص الروائي وحوار تعاقدي في لحظة زمن ايقاع الحدث تتطلبها مقومات السرد الروائي. فالحوار صفة حضارية تواضعت عليها المعارف و الفكر الانساني نقلاً للحياة الانسانية بتطويرها أو تحويلها إلى مسرح للحوار لا تتكمل عناصر إلا بقبول كافة المشاركين على اختلاف رؤاهم التي تمثل تنوعاً إثراء للحوار؛ فأصبح الحوار يمثل ركناً لا تتكامل البنية السردية للرواية إلا بحضوره المكثف. فالمنهج المقارن المعتمد في تناول تاريخ الأدب العام، بخلاف الانتقادات التي وجهت إليه عدّ من بين أكثر المناهج التي تناولت تاريخية الأدب؛ وهو بالطبع يعود إلى العلوم النظرية في النقد والفلسفة و استدلالات المنطق الاستنباطية قد اتاح فرصة أكبر في توخي الدقة في الأخذ بنتائج المقارنات الأدبية، و مع أن الظواهر الثقافية متفاوتة من حيث تكوينها المادي و أثرها على واقع الانسان ومبلغ أثرها النفسي. وللرواية تأثير موصول بالفضاء المعرفي العام والذي يفضي إلى تفاعل المؤثرات التي تحدثها ثقافة ما في ثقافة أخرى وفي هذا تكاد الرواية حصراً النتاج السردي الأوحد الذي ادمج وجسد التجربة الانسانية على مستوى تمثيل الأدب عبر رؤية كونية، أي الأدب على نطاق عولمي Weltliteratur بخلاف رؤى العالم Weltanschauung ذات البعد الذاتي. وتقوم "رؤيا العالم" في الرواية على مفهوم الخطاب السردي والروائي اللذين يرتبطان بالرؤية الفنية التي تحاول أن تمثل العالم وتعيد إنتاج رؤاها حوله وفق مقتضيات الحالة السردية التي صاغتها الرواية في قوالب سردية جمالية، وبالتالي تخضع للقيم الجمالية كما يتمظهر في البعد الجمالي الفلسفي والأنطولوجي من خلال المسافة التي تفصل بين تأويل العالم فنياً وتفسيره سردياً في الخطاب الروائي. ويكون التقارب الإنساني بين رؤى متعددة، تحاول كل منها تفسير العالم مجتمعاً في النص الروائي بقدرة النص على تركيب هذه الرؤى سردياً. وبما أنها، أي الرؤيا في الرواية تمثل حوار الوجود القائم بين الإنسان ورؤاه والظواهر الطبيعية والوجودية التي تحيط به؛ فإنها إلى جانب ذلك ترفد الأدب المقارن بأهم مظهر يتجلى فيه التنوع المتمثل في الرؤيا الكونية التي تعكسها الروايات في أكثر من مكان. ومن مراحل تطور الرواية شكلاً واسلوباً تتضح أساليب كتابة تاريخيا عبر رحلة البحث عن معنى وتفسيراً لمأزق مفترض للمصير الإنساني، وتعد ذاكرة مقاومة ضد النسيان وبدايات تأسيسية في تفعيل المتخيل الانساني ونقله عبر آلية توثيق جديرة بالحوار بين الثقافات خاصة أن نظرية الأدب المقارن تسعى إلى تحقيق أهم مقاصدها لتقديم وإيجاد بؤرة مركزية تجتمع عليها المشتركات الانسانية العامة للأدب و ابراز صورة مثالية للأدب العالمي المتناغم وهو الدور الذي اضطلعت به الرواية باقتدار. ولما كان انتشار الرواية لازم التقدم المعرفي وتطور تقينات الكتابة، بل أسهمت في تطورها واتساع دائرتها بين طبقات لم تكن مدمجة في العملية التعليمية التربوية، وبقدر تسارع الاتصال بين أصقاع العالم ازدادت مقروئيتها Readership حتَّى أضحت نصاً سردياً ذي بعد إنساني ومحتوى تقني يضيف إلى اللغة بإدخال مكونات لغوية أخرى إلى حيز اللغة المكتوبة. وتدخل بالتالي في سياق التاريخ الأدبي المقارن الذي يقوم بالمسح على أوسع نطاق تمددت عليه الرواية لتشمل مجالات لغوية أخرى تقوم عليها كالترجمة التي تنقل هذا المتخيل السردي إلى لغات عديدة في تقاطع بين الثقافات واللغات. واللغة لاتعمد إلى شرح النص الروائي وتحليل نسق البناء اللغوي وعلاقات المفردات والدلالات المعجمية والتركيبية فحسب، بل تعمل بالتطابق والموافقة الموضعية بين مستوى اللغات التي تنطق بها الشخصيات في الرواية والعلامات الأخرى التي توجد بقوة الفعل اللغوي نفسه في النص بتمثلها للأحداث. وبما أن الجدل النقدي قد احتدم حول مسوغات الاستخدام اللغوي ومستوى لغات الشخصية وموقعها في النص ومدى مناسبة اللغة التي تنطق بها؛ خاصة إذا كانت اللغة المستخدمة لا تناسب طبيعة الشخصية في أبعادها الطبقية والمهنية! وإن كان الاتجاه الواقعي في الرواية في القرن العشرين فقد برّر لذلك بمبررات أيدولوجية لا تنتمي إلى النقد العلمي المنهجي بما لا يتوافق مع منهجيات الأدب المقارن. تحاول الرواية في محتواها السردي نزّع السحر عن العالم Disenchantment والتعبير بدلالته كشف ما وراء خطابات العالم وما يحيط بها من غموض حين لا تتطابق المعايير التي يتزعمها في النظرة المتصورة إلى الإنسان، والحماقات التي يرتبكها العقل الإنساني في الحروب والكوارث ونتائجها الفادحة في الموت والدمار والهجرة؛ ومثالية الخطابات من جانب. والرواية من الأجناس الأدبية التي حاولت أن تزيح هذا الغطاء عن العالم ونظمه التي تأسست عليها مفاهيمه في تحرير الإنسان وحقه في المساواة والحفاظ على خصائصه الثقافية والبيئية. موظفة لأدواتها في السرد والحوار ينكشف العالم؛ وأبنيته في المعرفة والفكر ونتاجاتها في القانون والفنون أمام سطوة السرد الروائي، إنها الأدوات التي تعمل على تفكيك النظم التي قامت عليها هذه التصورات. وتخطت الرواية الفرضيات النظرية في دراسة الثقافات من منظور انثروبولجي، إذ إنّ فلسفة السرد ( الرواية) تقوم على منظومة نصوص النتاجات الفكرية والأدبية وما تتضمنه من رموز وتصورات تبني على تشكيل صيغة سردية مقروءة في سياق التطور النقدي لعلم السرد، ومفاهيمه التي تتعاطي مع النص الشفاهي والكتابي حيثما تمثله في اتجاه فكري أو أدبي محدد. وبقي الأداة التي تطورت في القرن العشرين ما قامت به المعارف الانسانية والنظرية في تطور بنائي متسق وفقاً للنظرية الأدبية ومناهج علم السرد عموما. وخلافاً للعلوم التي تولدت عن حقل العلوم الإنسانية في الأنثروبولوجيا وبحوث اللغة التاريخية الفيلولوجيا والمباحث التاريخية في الاستشراق والنظريات المنبثقة عن مبادئ نظرية النشوء والتطور وما صاحبها من ادانة اخلاقية بنزوعها إلى تصنيفات جينولوجية صنفت الشعوب كمراتب تمثل قمتها الغرب والآخر الذي هو خارج المركزية الأوربية؛ وبالمقارنة انحت النظرية السردية جانباً – بتأثيرات البنيوية – العوامل الخارجة عن النصوص السردية وبيئتها الموضوعية وعكفت على دراسة النص الأدبي في مدى استجابته إلى العملية الابداعية وشروطها. لم يعد فيما بعد الأدب المقارن اتجاهاً للمقارنة المعرفية الاستعمار والشعوب. والتحليل النقدي يتخذ السرد موقعها مهماً في إبراز الخطابات الفنية والجمالية المتشكلة في النص السردي. ومنذ أن تجاوز الفكران الفلسفي والديني معاً، وبالتساوق، العقبات التي كانت تحيل دونهما من الظاهرات الذوقية عامة ومن التعبير الأدبي عنها، خاصة مادة لمحاولتها النظرية بات الفكر النقدي فلسفياً (أسرار علم الحياة) المزدوجة المباشرة بالآداب من حيث طبيعة المناهج المستعملة لعلاج تعيينات التعبير الأساسي فيهما، وكل فنيات الترميز اللساني، ومن حيث التجارب الوجدانية التي يتعلق بهما هذا التعبير. وبمعنى آخر يفيد القول بأن الرواية أسهمت إلى حدٍ بعيد في تكوين رؤيتنا إلى التأريخ الانساني المشترك بين كافة الثقافات عبر الأدب المقارن كمحاولة للمزج بين الرصد العلمي للنشاط البشري وتفسيره ثقافيا طالما أن للثقافات – بحسب التوصيف الانثروبولجي- ترجع الى أصلاً واحد.

ـــــــــــــــــ

  • كاتب وناقد سوداني الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم