مثقفون يتوجّسون من التأثيرات السلبية للجوائز، فترسم خطوط التحرّك بطريقة غير معلنة وتدفع الروائيّ إلى فرض رقابة على نفسه ليساير مزاج الجائزة.

لعلّ إحدى النقاط التي لا بدّ للمتابع التوقّف عندها في استعراض بانوراما روائيّة للعام 2015 هو الكمّ الكبير من الروايات الصادرة في مختلف الدول العربيّة، ووصف ذلك بحمّى روائيّة تجتاح سوق الثقافة والصحافة، وهناك من يعبّر عن توجّسه من هذه الفورة أو الطفرة الكمّيّة، منطلقا من الاستسهال المريع الذي يسِم كثيرا من الأعمال المنشورة، وقلّة التدقيق والتمحيص من بعض الناشرين الذين يتعاملون مع الكتاب كسلعة فقط. هناك آخرون ينظرون إلى هذه الطفرة على أنّها ظاهرة صحّيّة لا بدّ من المرور بها، والعبور إلى منطقة التعرّف إلى الروايات والروائيّين عبر إفساح المجال للظهور والنشر والتجديد، وعملا بمقولة إنّ الزمن يغربل الأعمال، فيسقط الزبد ويبقى المستحقّ والجدير بالتقدير، ولا يمكن أن تمارس الوصاية على القارئ وتسلبه حرّية اختياره وتفرض عليه هذا العمل أو ذاك على أنّه الأفضل والأكثر تميّزا. وهو ما تمارسه الجوائز بطريقة أو أخرى.

تجدّد توجّس عدد من الأدباء والروائيين من تأثير الجوائز السلبيّ على الفنّ الروائيّ، والخشية من أن تعود بنتائج سلبيّة على عكس المرجوّ منها، فترسم خطوط التحرّك بطريقة غير معلنة، وتصدّر روايات وروائيين بطريقة معيّنة قد تقيّد الإبداع وتحدّد مسارات الفوز ومدارات الاقتراب من خطوط المداهنة، فتدفع الروائيّ عن إرضاء ذاتيّ منه إلى فرض رقابة على نفسه ليساير مزاج الجائزة.

لا يخفى أنّ التركيز الإعلاميّ والدعائيّ على بعض الروائيّين، وجعلهم نجوما من خلال منحهم جوائز وتصديرهم على أساس أنّهم الأكثر براعة وتميّزا حرّض الجوع إلى الشهرة لدى كثيرين، فبادروا إلى نشر أعمال روائيّة مسلوقة على عجل، ممنّين أنفسهم بالوصول إلى الجوائز والحصول عليها، وتحصيل الشهرة والمال والنجوميّة، وهناك آخرون أغوتهم تلك الأضواء، وساعدتهم علاقاتهم المتنفّذة وشللياتهم العابرة للحدود على تصديرهم، وتسويقهم وأعمالهم وترجمتها وتتويجها بحيث يُفرضون فرضا على سوق الصحافة والثقافة، وهنا يكون السوق بمعناه التسليعيّ والتجاريّ والعلاقاتيّ.

أمّا حديث الجوائز المخصّصة للرواية فهو مشوب بحذر في التناول، ولا سيّما أنّ الجوائز قليلة في العالم العربيّ، وهي على قلّتها تساهم في تصدير مزاج سنويّ للقرّاء، فالبوكر التي أحدثت حراكا في واقع الرواية العربيّة، وقعت في عدد من المطبّات خلال رحلتها التي بلغت سنوات الآن، ولم تخلُ أيّة دورة من لغط وتبادل اتّهامات، وهذا قد يكون مؤشّرا صحّيّا من جهة، لكنّه مع التكرار يشير إلى حالة فقدان بوصلة ما في هذا العالم الرحب.

والجائزة الأخرى التي شكّلت ظاهرة بحدّ ذاتها، إطلاق جائزة “كتارا” القطرية، والمبالغ الكبيرة التي رصدتها للروايات الفائزة، وتوسيع نطاق الفوز، لاختيار خمس روايات منشورة ومثلها غير منشورة، وما صاحب الدورة الأولى من حذر، ومحاولة منح الجائزة قوة دفع بتصدير أسماء تعتبر كبيرة وكأنها في اختبار تكريس المكرّس، وكان مثيرا للتساؤل تقديمُ عدد من الروائيين الذين لهم تجارب عديدة في النشر لمخطوطات رواياتهم غير المنشورة للمنافسة.

ربّما آليات لجان تحكيم “كتارا” اختلفت عن آليات تحكيم “البوكر”، لكن كانت هناك خطوط تماسّ جلية، ولا سيّما أنّ هناك أسماء مشتركة هنا وهناك في الظلّ عابرة للجان، وحاضرة في تأسيس أرضية الجائزة. وكان مثيرا للتساؤل استعانة جائزة “كتارا” التي شكّلت دفعا مؤسّساتيا للرواية، بالمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، وأعادت الرواية إلى كنف المؤسّسة الرسمية العربيّة التي لا تحظى بالثقة المأمولة من المبدعين، ولا سيّما أنّ هناك أنظمة تتحكّم بها بطريقة غير مباشرة، ما يمهّد المجال أمام “الروائيّين الرسميّين” -المحسوبين على الأنظمة والمرضيّ عنهم من قبلها- تصدّر الجائزة التي يُخشى أن تنحرف عن مسارها.

على صعيد المؤتمرات التي اهتمّت بالرواية في أكثر من دولة عربيّة، بدت لافتة عودة مؤتمر الرواية العربية في القاهرة بعد أربع سنوات من الاحتجاب، عاد ليلملم شتات المئات من الروائيين بعد انقطاع، ويوحي بأنّ القاهرة لا تزال تحتفظ بحضورها الرمزيّ في بحر الثقافة العربيّة، فإذا كان تكثيف الأنشطة في أيام قليلة لا تكفي ليتبادل الحاضرون فيها التحيّات، فكيف بالاستماع والمناقشة والخروج بنتائج أو دراسات تخدم الفنّ الروائيّ العربيّ. وهو ما أظهر أن المؤتمر تظـاهرة ذات رسائل سياسيّة أكثر منها روائيّة.

في نهاية العام، أعادت جائزة نجيب محفوظ للرواية شيئا من الثقة التي تزعزعت بها لسنوات، بمنحها الجائزة لرواية “لا طريق إلى الجنّة” للبناني حسن داوود، بعد تخبّط شابَها، ولغط أحيط بها.

وقد مُنحت الرواية هذه الجائزة بعد أن سمح بتقديم روايات منشورة في سنوات 2013 و2014 بالمشاركة. وعلى عكس الترويج الدعائيّ الذي يحيط بنتيجة الجائزة، يكون هناك نوع من التعتيم في الإعلان عن مواعيد استقبال الأعمال المشاركة وشروط النشر، والسرّيّة التي تحيط بلجنة التحكيم وآليات ومبررات الاختيار والتتويج تدفع إلى التشكيك وجانب الشللية والعلاقات والمحسوبيات في المنح والحجب.

في سياق متّصل، شكّل إعلان “الجامعة الأميركية في الكويت” إطلاقها جائزة كويتية عربية عالمية تحت مسمى “جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية” إعادة تسليط للاهتمام على الفنّ القصصيّ الذي انحسر وتراجع أمام طوفان الرواية في العالم العربيّ، وهو ما يعيد تحفيز أدباء هجروا القصة إلى الرواية طمعا في أضواء الجوائز وأموالها للعودة إلى القصّة التي يؤمَل منها إعادة ضخّ مزيد من التجديد والرونق فيها. وكانت مجلّة “الجديد” اللندنيّة قد أطلقت عددا خاصّا بفنّ القصّة عربيّا (العدد الخامس يونيو)، شارك فيه 99 كاتبا من مختلف الدول العربيّة، وكان احتفاء لافتا بهذا الفنّ المتجدّد.

كاتب من سوريا مقيم بأدنبرة

هيثم حسين

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم