الإهداء إلى تلك البقعة من الجغرافيا التي مزّقها التاريخ إلى كل الذين صُنعت من أشلائهم أصنام الإيديولوجيا -1- كنت أقلّب قنوات التلفاز بحثا ً عن شيء أقتل به الوقت، عن شيء ما ينتزعني من وحدتي في هذه الزنزانة و قد كدت أصاب بالصداع من صوت قارىء القرآن الذي يمدّ بنشوز في قناة القرآن الكريم التي أمامي، تلك المحطة التي أقضي عليها معظم وقتي، أراجع حفظي، و أواسي بها تاريخا ً متخما ً، لعلّ الله يكتب لي بكل حرف حسنة . كنت أقلّب ببطء شديد و أنا أضغط بقوة على جهاز التحكم القديم في يدي حينما ظهرت أمامي فتاة نصف عارية، كادت أن تخرج من الشاشة بغنجها، كانت ترقص بشهوة كأنّها على وشك أن تقذف في وجهي، كان قلبي متعبا ً، صدئا، كنت أتخيل نفسي و أنا أقوم بطرد الحور العين من قصري الذي أتخيّله في الجنة، هذا إن دخلتها أساسا ً، تبسّمت بذبول و أنا أذكر واحدة من آخر فتاوايّ قبل أن أدخل السجن بحوالي العام، كنت جالسا ً في المسجد أقرأ القرآن بخشوع و أنا أهز رأسي بطرب يمنة ويسرة، كان الوقت ظهرا ً، و لا أحد تقريبا ً في المسجد سوى آثار جباه المصلين التي انطبعت على سجادة المسجد القديمة، كنت أنتظر موعد خروج ابنتي من المدرسة حتى أقوم بمرافقتها إلى البيت كما أفعل كلّ يوم . و بينما كنت أرخي فقرات ظهري الصدئة إلى مسند الصف الأول فإذا برجل يدخل إلى المسجد، تلّفّت و هو يمسح المسجد بحثا ً عن ظل إنسان ما، قبل أن يتعثّر بخيالي المتأرجح ، اقترب مني ثم جلس أمامي و هو يقول : السلام عليكم يا عم ’، رددت عليه السلام، سألني عن إمام المسجد فأجبته بأنّه قد ذهب، بدأ يتأمّلني بعمق و يسبر ملامح وجهي قبل أن يضيف : عفوا ً، ألست أنت الإمام ؟ ألست أنت الإمام البلقينيّ ؟؟ وددت لو لم يميّزني، تمنيت لو أملك القدرة على الكذب عليه حتى أجيبه بـ ’ لا ’ و أنا الذي هذّب لحيته و خلع غترته حتى لا يميّزه الناس . في النهاية اضطررت أن أقول له : نعم أنا هو ’، فما لبث أن هجم عليّ و صار يحاول أن يتناول يدي اليمنى ليقبّلها، قبل أن أنتزعها من بين براثن شفتيه بصعوبة، فلمّا استيأس عاد إلى جلسته أمامي و قال : شيخي، الحمد لله أنّك هنا، أنت خير من يفتيني، أنت خير من إمام المسجد . حاولت أيضا ً التهرب و لكنّه أصر، قلت له على مضض : تفضل، ما سؤالك ؟

  • تبسم بفرح ثمّ قال : شيخي، ابني يعمل في الإمارات العربية المتحدة و قد اتصل بي يخبرني أنّه على وشك أن يأخذ قرضا ً من أحد البنوك الإسلامية هناك، فقلت له بأن يتريّث قليلاً حتى أستفتي من أعرف من العلماء، فأنا رجل أخاف الله و لا أريد أن يدخل في بطني ليرة واحدة من الحرام، و ابني يا شيخي يريد هذا القرض حتى يبعث لي بالمال من أجل تجديد بيتي الذي تهدم جزء كبير منه جرّاء القصف، و نحن مقبلون على الشتاء يا شيخي .
  • فكّرت قليلا ً قبل أن أجيبه بقولي : قل لابنك أن يأخذ قرضا ً بفائدة من أحد البنوك التجارية، فهذا أفضل له .
  • قطب الرجل حاجبيه و هو يقول : شيخي ! تلك البنوك تعطي قروضا ً بفائدة ربوية، و الله قد حرّم الربا ,,,, شيخي !
  • قاطعته : أين أذنك ! ’ و صرت ألمس إذني اليمنى بيدي اليسرى من خلف رأسي .
  • بدت الحيرة على ملامح الرجل و هو يقوم من مجلسه و يقف على قدميه قبل أن يقول : مع احترامي لعلمكم يا إمام، و لكنّي سأنصح ابني بأن يتعامل مع البنك الإسلامي .
  • وقفت أنا بدوري على قدمي و قلت : يا رجل ! المعنى واحد، إن هي إلّا أسماء سمّيتموها .
  • بدا الرجل غير مستوعب لكلامي و هو يقول : هناك علماء ,,, مشايخ ,,, فتاوى .
  • أمسكت بقميص الرجل أشده إليّ و أنا أقول بغضب : فتاوى ماذا يا رجل ؟ الفتوى ثوب، و نحن الخياطون، نقصّره، نضيّقه، نوسّعه، نطوّله، بحسب مقاس الزبون ’ صرت أضحك بعد أن تركت ثوب الرجل ’ ثم علت وجهيّ ملامح الجدّية و أنا أقول : هل تعلم أنّي أستطيع أن آتيك بفتوى معينة، و بناء ً عليها يمكنك أن تفتح مشروعا ً ناجحا ً، سيكون اسم المشروع ( نادي التعرّي الإسلامي )، ما رأيك ؟
  • ابتعد الرجل خطوة إلى الوراء بفزع، صار يتمتم : كيف ؟؟؟ من ؟؟؟
  • علت ضحكتي في المسجد الخالي و صار الصدى يضحك معي : نعم، نادي تعرٍ إسلامي، هل تعرف أنّ جمهور علمائنا يقولون بأن عورة الجارية ما بين السرّة و الركبة، أي ببساطة، يمكن لنا أن نعتبر نساء الكفار – الروسيّات مثلا ً - بحكم الجواري، نفتح مسرحا ً و نقوم بتركهن يكشفن عن صدورهن و الرجال ينظرون إليهنّ كما يشاؤون، و كلّه وفق الشرع، ما رأيك ؟؟ فرّ الرجل هاربا ً من أمامي و تركني أتبادل ضحكاتي مع الصدى في ذلك المسجد المقفر . هداني السأم أخيرا ً إلى قناة صوفيّة تبث الأناشيد الدينيّة ، رحت أتأمل السجن الذي أنا فيه على تسابيحها . دخلت في حوار مع نفسي و صرت أقول لها : يبقى السجن سجنا ً و لو كانت جدرانه من الذهب، و قضبانه من الياقوت ,,,,, و ماذا عن الموت ؟ هو صنو السجن في صنع الخلود، الأهرامات تشهد لفراعينها، خالدون هم برغم فعالهم، نحن نذكرهم كلّما رأينا قبورهم الفارهة . ماذا كان اسم رئيس العمال ؟ لا ندري . ماذا كان اسم الطفل الذي وقف بالخطأ تحت صخرة تدحرجت مدفوعة بقدرها الأسود فوق جسده الرقيق ؟ أيضا ً لا ندري . ليس مهمّا ً، فدموع أمّه لا تلسع وجودنا، ضحكاته، أنّاته، عيناه اللامعتان، رائحة غرته التي طالما أصابت أمه بالخدر .
    اقتل رجلا ً و ستصبح مجرما ً، اقتل شعبا ً و ستصير بطلا ً، أو قد تصير ,,, إماما ً . كنت جالسا ً في عزلتي، في زنزانتي، أتحسس تجاعيد وجهي، تجاعيد لا ملمس لها تختبئ تحت لحية بيضاء طويلة، قلبي بدون نبض، كأنّي بحر مشوّه لا موج له، يتعكّز على زرقته المزيفة التي يستيعرها من السماء، يفاخر بها الشواطىء و الجزر . سمائي قاحلة لا غيوم لها، آه لو كنت مومسا ً، لغسل الدمع مكياجي، غسل آثامي، و لكنّي أنا هو، أنا الإمام البلقيني ّ . هراء قولهم أن ّ الحياة نهر يسير، إنما الحياة لحظة ، لحظة واحدة، ستنفق باقي أيامك تدفع ثمنها . تلك اللحظة، حين تشعر أنّك مملوء بكلّ شيىء، الكون كلّه مختصر في مشهد، أتأمل جدران زنزانتي الرمادية، سقف يكاد العفن يهطل منه، شباك يسمح للشمس بأن تزوره لساعة يوميّا ً, نعمة الضوء لا يدركها إلا العميان، و المساجين، كنت أحتفل بقدومها، أرقص مع ذرات الغبار في خيطها الرفيع، استنشق بها الضوء و الحياة، ضحكات كانت تخرح من تلك النافذة الصغيرة، أعين لامعة، رائحة عرق الشتاء، خطوات متجمدة . كان اصبع قدمي الكبير يخرج من الجورب المثقوب، البرد يأكلني من الداخل، كأنّه ينبع من عظامي، كلّ شيء جميل في الشتاء، إلا ارتعاش الفقراء و السجناء .
    كانت مدفئة الكهرباء تشعّ ضوء ً باردا ً، خافتا ً، أبكي من البرد في قلبي، الصقيع ينهشني، و تاريخي لا يشفع لي، أصرخ، أهذي " أنا الإمام " فتهمس الزنزانة في أذني بصدىً متقطّع : لا إمام لك اليوم، لا حياة لك خارجي، ستسكن في أحشائي، ستدفن في صقيعي، و جسدك سيأكله عفني . كنت أسألها، أستحلفها، بحق الأيام التي قضيتها أحاول ترويضها، أن ترأف بي قليلا ً، أن تدفئني للحظة، كنت بحاجة لعناق واحد، قبلة واحدة، رشفة من فمها كانت تكفيني، لأشعر بالحرارة مرة أخرى، لأموت بسلام، و لكنها كانت دائما ً ناكرة للجميل، تماما ً كما الحياة . كانت الأفكار تروادني عن نفسي في غمرة البرد و الصقيع، عدت أتلمس تجاعيد وجهي و أتساءل، هل أعرف نفسي ؟ و كنت أجيب : طبعا أعرفها، أعرفها بكل تناقضاتها، بكل وجوهها . فأنا مثل الحياة، بألف لون، و ألف وجه، تحت كل شعرة في لحيتي تقبع روح تتعذب، خلف كل تسبيحة يوجد طفل يبكي أمه، بعد كل فتوى يوجد دماء تسكب، و لحيتي تطول، أكثر فأكثر، بعدد الأراوح و الدموع . هذه الزنزانة التي تئنّ تحت وطئة اسمي، تاريخي يملؤها، سيخلدها يوما ً حين ينتهي التاريخ و تقوم القيامة، تبدو الضحكات أشد قبحا ً و لذة حين تصير في مستودع الذكرى، تصبح أشد لسعاً، لا شيىء أكثر قسوة من ذكرى جميلة في وحدة أبدية، أنزف ذكرياتي وحيدا ً، ألهو بقطرات الدمع، أصّفها، أدحرجها، لا غد لي، هو الأمس فقط منتصب كخشبة صليب، و أنا ليس لي مسيح و لا فداء، خطاياي ترزح تحت جلدي، لا أجد ورقة شجر أستر بها سوأتي كابن آدم الأول . كانت المسافة في تلك الزاوية تتآكل، و أنا أحبس الروح في صدري كي لا تخرج في غفلة منّي، أحنّ إلى قبلة من البحر، موجة واحدة أتدثر بها، لا شيىء أكثر، سكون صاخب بهدوئه يراودني، كنت أغفو بين اللحن و اللحن، قصتي كدمعة متحدرة من كمنجة حزينة، أفق الزنزانة الضيق يتسع و يتسع، الدنيا بكل ما فيها تتربص بي في تلك الزاوية . جاءت إليّ لتشمت بي كأنها نبيّ يرمقني بتلك النظرة و يقول : لا تقتلوه، فقط اتركوه، اتركوه يتدثّر أكفان قتلاه، ضعوه في الغرفة وحيدا ً، مع ألعاب أطفال ضحاياه . كل الوجوه في الزمن الغابر كانت حاضرة ، أظافري كانت طويلة جدا كأنّها تبحث عن لحم لتنهشه ، طريق واحد كنت أبحث عنه، طريق الموت الأخير، موتي الذي لا رجعة منه، لا بعث منه، قبر يضمني بدفء . كنت أهذي في داخلي كشاعر مبلل ٍ بالوحدة و أنا أنتظر ضيفي على أحرّ من الدمع لكي نسافر معا ً, كي نتنادم معا ً . كان التلفاز في غرفتي يصدح بأناشيد دينية، و كان الإصبع الهارب من قدمي يزعجني، فتوجهت نحو الباب، صرخت بأعلى صوتي حتى يسمعني الحارس من النداء الأول ’ هيه، يا عليّ ’ و ما هي إلا لحظات حتى جاء عليّ، فتح باب الزنزانة بجلافة ليست مستغربة منه : نعم يا شيخ، ماذا تريد ؟ قلت له : أريد جوربا ًجديدا ً، فقال : حاضر يا شيخ، سأحضره لك، أتريد شيئا آخر ؟ قلت له : نعم، أريد بعض الوسكي . فقال : طلباتك أوامر ؟ تأمّلت للحظة ثم قلت له بخجل : أين ضيفيّ الذي وعدتني به منذ اسبوع ؟ فقال : لقد وصل منذ لحظات إلى السجن، و عمّا قليل سآتي به إليك . تبسمت له بابتسامة حزينة فانصرف . أسابيع قليلة قد تتمدد بفعل البرودة حتى تصل إلى الشهر، كانت هي ورديّ السنوي في هذا السجن الفاره، و لكن ليس اليوم، ليس الآن . عدت أقلب قنوات التلفاز بحثا ً عن شيء أغتصب به الوقت و أجعله يمرّ بسرعة، و أنا أنتظر ضيفي، نديمي، أول من سيشاركني زنزانتي هذه، و لربما آخر إنسان يخرج منها . كانت الزنزانة كبيرة، تتسع لبضعة رجال، و لكنها كانت مخصصة لزوار السجن من علية القوم، من أمثالي، فوضع فيها سريران اثنان و مجلس عربي صغير على الأرض ، تلفاز، و جهاز مستقبل فضائي . كان فيها حمام صغير لقضاء الحاجة و الاستحمام معا ً، يبعد عن المغسلة نصف متر، ثم الباب، و بين السريرين الشباك اليتيم الذي تطلّ منه الشمس . أمرت حارس السجن أن يزيل كل المرايا التي في الزنزانة، كنت لا أريد شيئا يذكّرني بنفسيّ التي أمقتها، في الليلة الأولى قبل أن يزيل الحارس المرايا، كان وجهي يفزعني حين أنظر إليه و أنا أغسل وجهي، آخر قناع ارتديته، ذلك الوجه كان يذكرني بكل ما هو قبيح في حياتي ، كل ما هو أجوف، كل زبد و صراخ في هذا الكون يسكن في تلك الملامح المترهّلة, بينما يقبع في قلبي شيىء ما ينبض بالعطر، الإنسان في قلبي لم يمت، و لأجل ذلك ظللت حيّا ً حتى اليوم . كان لي طلبات خاصة، خاصّة بي أطلبها من حارس السجن، لا يأخذها إلا من يملك الواسطة و من يدفع، كنت عادة لا أدفع شيئا ً، و لكن هذه المرة دفعت بعض المال، ليس بكثير، فلقد راعاني مسؤول السجن نظرا ً إلى التاريخ الذي يجمعنا، و الليالي الطوال التي قضينها نسمر معا ً، دخان و شراب، كنت أدخن بشراهة، و أشرب الشراب، أيضا ً بشراهة، فعادة، كانت هي فرصتي السنويّة التي أحاول فيها أن أشبع جوعة الأيام خارج السجن، حيث لا أستطيع أن أشرب و لا أدخن إلا خفية، و إذا شربت، شربت باعتدال لا أحبه، و لكن ليس اليوم، ليس الآن . كنت قد أنهيت قدحي الثاني حين طرق باب الزنزانة ، دخل الحارس بجلافته المعهودة و هو يجرّ جثة بالية لا تكاد تشبه إنسانا ً على قيد الحياة، كان يمسكه من قبّة قميصه الرماديّ المهترئ، قميص كان يختصر الوطن كلّه ببقعه المتداخلة، كلّ درجات لون الدم كانت تمتزج فيه بعنف و قتامة . ترك الحارس تلك الجثة الحافية القدمين واقفة أمامي و هي على وشك السقوط ، أغلق الباب بعنف و هو يقول : هذا ضيفك يا شيخ . قمت من مكاني متوثّبا ً، استجمعت كل الدفء الذي في قلبي، كلّ الدمع الذي في عينيّ و اقتربت ببطء من ذلك الشبح الذي كانت تظهر تفاصيل عظامه من تحت الجلد الرقيق، كأنّ جلده شراع قد التف على صارية سفينة تائهة في البحر، أسمر كلون رغيف الفقراء، في رأسه أخدود عميق، قد انسحب الشعر منه، كأنّه جرح سكين، أو لعلّه ضربة هراوة . تجمدّت في مكاني كأنّي في صلاة ، كانت لحظة من تلك اللحظات، تأملته بعمق و حزن، و لم أدر إلا و الدموع تتفلت مني، تقدمت خطوتين و أنا أتأمل عيناه الذاهلتين، كان رجلا ً في الأربعينياّت من عمره، خريفيّ الملامح ,عيناه غائرتان بخوف، عصفور صغير يختبئ في عشّ ضيّق ، و لكن ذلك لم يستطع إخفاء تلك اللمعة اللاسعة و الدفء الذي لا يقاوم، كان شعره مكسو بشيب ثلجيّ، ذقنه نافرة إلى الإمام قليلا ً من شدة نحولته . اقتربت منه ببطء و لم أدر إلا و أنا أفتح ذراعيّ محاولا ً أن أحتويه بحضن أبويّ، و لكن الرجل إنكمش على نفسه من الفزع و وقع أرضا ً يرتجف . إنخلع قلبي من مكانه، دموعي هربت منيّ، كانت الغرابة تغلّف كل ثانية في تلك الدقيقة، إنحنيت حتى جثوت على ركبتي ّ، مددت يدي محاولا ً أن ألمس ذلك الخدّ الخشن المتيبّس . ما أن لامست يديّ اليمنى أولى شعرات ذقنه حتى إنكمش أكثر مستلقيا ً على جانبه الأيمن و قد أدار ظهره المعوّج لي، صار صوت بكائه مسموعا ً أكثر، جسده النحيل كان يهتزّ بقوة و هو يهمس بصوت متقطّع : أرجوك يا سيدي ,,, أرجوك ,,, لا تعذّبني، لا تضربني ,,, أرجوك ,,, اقتربت أكثر حتى ربتّ على رأسه برفق و أنا أقول : لا تخف يا غياث، لن يعذبّك أحد هنا، أنت بمأمن . لم يكن لكلامي أي تأثير عليه كأنّه أصم ّ, و استمرّ بالبكاء و الإهتزاز و هو يكرر ترجّيه و توسلّه . حضنته رغما ً عنه، إحتويت ذلك الميّت الحيّ كأنه طفل و صرت أداعب شعره المخشوشن بالقذارة . كنت أبكي بعمق، أشهق و أزفر بقوّة، أترنّح بين حزن و فرح، دموعنا تعانقت للمرة الأولى فصارت دخانا ً دافئا ً, عبق ٌ عطريّ مالح يزيد الجروح ألما ً، و لكنّه يطهرها، يغسل كل إلتهابات الروح . تبخّر الدمع و هدأت زلازل جسمه النحيل، فصرت أناديه بهمس : يا غياث، قم فاغسل وجهك، ثم ّ تعال لنأكل شيئا ً. صوتي حرّض خوفه مرة أخرى فعاد إلى بكائه و ترجّيه، حضنته لساعة كاملة و لكن دونما فائدة، ففي كل مرّة كان يعود إلى خوفه، يعود إلى هذيانه . تركته مستلقيا ً هناك عند عتبة الباب و جلست أرقبه من بعيد، أفكر بطريقة ما أستعيده بها من حالة الفزع التي كان بها . قمت فحضّرت بعض الطعام ، و ضعت الأطباق على الأرض قربه لعله يشمّ رائحة الحياة في تلك المائدة المتواضعة، و أيضا ً دون فائدة . عدت إلى مكاني فجلست فيه لساعات لا أفعل فيها شيئا ً سوى التأمل بعموده الفقريّ النافر تجاهي حتى باتت عيناي تغمضان لوحدهما فاستعذت بالله و قمت منتصبا ً، ناديت بصوت مرتفع بعض الشيىء : قم يا غياث، قم فنم على السرير ’ ثم ّ لمّا لم يستجب أعدت كلامي بلهجة أشد قسوة و كأنّها أمر عسكريّ : قم يا غياث . قام الرجل ببطء كميّت يبعث من قبره، وقف منتصبا ً و هو ينظر للأسفل، لم يكن يجرؤ على النظر إليّ حتى . قلت له : هذا سريرك ’ و أشرت إلى السرير، فمشى ببطء حتى اقترب من السرير ثم استلقى تحته على الأرض . نم على السرير يا غياث ’ قلتها بشدة أكثر، فقام فزعا ً و استلقى على السرير ، نام دون أن يتدثر بشيىء .

-2- عشرون ساعة مضت و غياث يغط في نوم عميق كأنّه أميرة نائمة تنتظر قبلة من فارسها . كنت أتحسس نبضه بين الساعة و الأخرى، أراقب أنفاسه و هي تعلوا كي أتأكّد أنّه ما يزال على قيد الحياة، أراقب حرارته المرتفعة و أضع له بعض الكمادات، حتى أفاق قرب الساعة السادسة من بعد مغرب ذلك اليوم .
كانت نظرته حياديّة للوهلة الأولى قبل أن يعود إلى إنكساره و فزعه مرة أخرى، و إن كان بدرجة أقل . عرضت عليه طعاما ً فلم يجب، فقمت و صنعت له شطيرة جبن و مربّى و ناولته إياها، فتناولها منّي بتوحش و صار ينهشها بعنف . فرحت به أيّما فرح فصنعت له شطيرة أخرى، ففعل بها مثل ما فعل بالأولى . بدأت أنفاسه تهدأ و صار البريق المختبئ في عينيه يزحف بتؤدة نحو أفق الزنانة الضيق ، تأملني لخمس دقائق ثم ّ عاد إلى النوم . هذه المرة لم أكن مضطرا ً لأن أتحسس نبضه و لا لأن أراقب أنفاسه، فلقد كان يهلوس طوال فترة نومه التي امتدت لعشر ساعات . كان يصرخ، كان يبكي، كان يضحك، أحيانا ً في لحظة واحدة، فلم أهنأ بنوم في تلك الليلة . ظلّ على تلك الحالة لعدة أيّام، كان مقدار نومه يتناقص يوما ً بعد يوم ,و هذيانه يقلّ يوما ً بعد يوم ، بدأ يألف زنزانته الجديدة ، كان كحصان وحشي ّ أحاول ترويضه . في اليوم الثالث استطعت أن أقنعه بالإستحمام في حمام تلك الزنزانة الصغير، ففعل، ثم قمت فأعطيته بعضا ً من ملابسي، بجامة شتوية، بينما رميت تلك الملابس الرثّة التي جاء بها . في اليوم الرابع وجّه إليّ كلماته الواعية الأولى، فقال لي : هل ممكن ؟ ’ و هو يشير إلى الكأس الي كنت أتناوله، فأعطيته كأسا ً، تناوله و شربه بخجل . حتى جاء ذلك اليوم، أفقت صباحا ً على رائحة دخان السجائر و هي تخمش صدري من الداخل، نظرت إلى مصدر الدخان و أنا أفرك عيناي، لقد كان غياث يجلس في المجلس العربي ّ عن يمين سريره و هو يدخن بعنف و يشرب بعضا ً من الوسكي . صبّحت عليه و أنا ذاهب لأتوضأ حتى أصلّي الفجر و لم أكن موقنا ً إن كان سيردّ عليّ، و لكنّي تفاجأت بنبرة صوته و هي تصدح : صباح الخير يا إمام . كان لسانه ثقيلا ً بعض الشيء من أثر الكحول، ففزعت إليه حتى جثوت على ركبتيّ أمامه و أنا أقول : غياث، هل عرفتني ؟ هل ميّزتني ؟ .

  • نعم يا إمام، أنت الإمام البلقينيّ، شيخ الإسلام، حجّة الله على الأنام، كيف لا أميّزك، و قد كنت أرى بعض خطبك ، تلك الخطب النارية التي تحضّ على الثورة، و لكنّي لم أقابلك شخصيا ً إلّا الآن . حمدت الله أكثر من مرة و أنا أرى إبتسامته للمرة الأولى، عصرت دمعة وحيدة و أنا أقترب منه حتى حضنته، ثم دفقت دمعا ً من وراء ظهره، دمعا ً أحاول كتمانه، شممت رائحة رقبته، كنت أودّ لو أنشق كلّ رائحة غرّته و أنا أقبّلها، لولا خوفي من استغرابه من ذلك التصرّف . كففت دمعي محاولا ً إخفاءه، و ذهبت لأتوضأ و أصلّي الفجر، صليتها على عجل ثمّ عدت إليه . رغم أنّه كان تحت تأثير الكحول، و لكنّه كان أكثر وعيا ً من أي وقت مضى، فالكحول يغسل الرهبة من القلب . جلست بقربه و قد صببت كأسا ً لأشاركه القدح الأول، ولم تكن تلك المرة الأولى التي أشرب فيها على الريق . نظر إليّ غياث ببعض الدهشة و هو يرى بعض الشراب ينساب برفق على شعر لحيتي الطويلة، فقال لي : الإمام البلقينيّ يشرب الخمر ؟ رغم كلّ ما مررت به من غرائب في هذا السجن، و لكنّ هذا من أغرب ما رأيت .
  • تناولت الكأس فشربته كلّه، ثم قلت : ليس ذلك أغرب ما سترى يا غياث .
  • سكت قليلا ً ثم ّ قال : نعم ، ربما ما أثار استغرابي أكثر هي تلك الدموع التي كنت تهرقها عليّ منذ جئت إليك، أذكر بعض دمعك في استقبالي كخيال بعيد يؤكّده دمعك الآن، لماذا تبكيني يا شيخ ؟ و أنا الذي أراك شخصيّا ً للمرة الأولى في حياتي . كان بخار دموعي ما يزال يطفو في جو الزنزانة البارد، ما زال عبقها يحاول هزيمة عفن السقف المتدلي، عادت شفتاي للنزول، غابت تلك الابتسامة المصطنعة من أثر الكحول الذي يباغت العقل في لحظة إذا ما شُرب على معدة خاوية . تلك الدموع كانت بحاجة إلى تبرير، رجل أعرفه للمرة الأولى، أشاهد سمرة وجهه للوهلة الأولى، أبكي في حضرته، أضمه إلى صدري كأنّه أبي الذي عاد من الموت، كأنه ابنتي التي أشتاق إليها . تركت عينيه تتأملاني، نظرت إلى الكأس الذي أصبه له و أنا أجيب بتلعثم الكاذب، برجفة طفل : كنت أشفق على حالك يا غياث، لقد كنت في حالة يرثى لها، كنت فاقدا ً لوعيك، كنت تهزّني من الداخل بهزيانك و ضعفك .
  • نعم يا شيخ معك حق، لو مرّ بلال ٌ الحبشيّ بما مررت به من تعذيب لفقد عقله و لقال " ألف، ألف " بدل " أحد، أحد " ، و لكنّ هذا لا يبرر تصرفاتك، لقد شعرت بدفء ، عاطفة ما كانت تتسرب من خلايا جسدك و تدخل في صدري عندما كنت تضمني، هناك شيء أعمق، هناك شيء يختبئ وراء تلك الدموع . سؤال آخر يا شيخي، لماذا أنا ؟
  • ماذا تقصد ؟
  • أقصد بأنك أتيت بي " أنا بالذّات " إلى زنزانتك ؟، هذه التي تبدو كغرفة في فندق، طعام جيّد، حمام و صابون، تلفاز، و الأهم من هذا، سجائر و شراب، هل نحن في سوريا ؟ أم لعلي قد متّ و هذه هي الجنة يا شيخ .
  • حمدت الله في قلبي أنّه تجاوز تلك الدموع غير المبررة دون كثير أسئلة، فأجبته بابتسامة مصطنعة أخرى : لقد أردت صاحبا ً لي في هذه الوحدة يا غياث، هذا كلّ ما في الأمر . شعرت به غير مقتنع بكلامي، و لكنّه تجاوز كلّ ذلك و عاد إلى السؤال الأول، كيف للإمام البلقيني ّ أن يشرب الوسكي ؟ فقلت له : يا غياث، أنا على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان في هذه المسألة .
  • فكّر قليلا ً ثم ّ قال : نعم، نعم ’ أجاب بحياديّة أذهلتني، لا تتناسب نهائيا ً مع استغرابه الأول . بدأ يشرب بشراهة، بلهفة، كأنّه عاشق يمارس الحب مع معشوقته ، بدأ يبحر في جسدها بعمق و ضياع . شرب كأسا ً ممتلئة ً في لحظات، أحسست بارتوائه، نظر إلى السقف و هو يتنفس بعمق، ثم قال : على مذهب الأمام أبي حنيفة لا يجوز السكر، فكيف تعلم ما هي الكميّة المسكرة من الشراب ؟ ما هو الضابط ؟ ’ كان ينظر إلي بلؤم، بأعين لمّاحة .
  • تأملت بريق عينينه، و أدركت أني أمام رجل من نوع آخر، لم يكن إنسانا ً عاديّا ً : سؤال جيد يا غياث، الضابط هو عادة الشارب، فهو يعلم متى يكون قريبا ً من السكر .
  • نعم و لكن ,,
  • قاطعته : غياث هل تريد درسا ً في الفقه أم تريد الشراب ؟ لعلنا نتحدث عن تلك المسائل لاحقا ً, و حسب علمي أنت من محبّي الشراب .
  • استغرب من كلامي و هو الذي لم يقابلني في حياته إلا قبل أيّام : شيخي، و كيف علمت أنّي من محبّي الشراب ؟
  • لا تستغرب يا غياث، فصفتك هذه هي أحد الأسباب التي جعلتني أستضيفك عندي في زنزانتي المتواضعة ؟
  • أجاب بابتسامة خبيثة : لم ترد فقط صاحبا ً، بل أردت نديما ً لك في سهرتك إذا ً ! ’ ثم ّ عاد إلى سؤاله الذي تجاوزه منذ قليل ’ و ما هي الأسباب الأخرى ؟
  • تبسمت : قلت لك ما هي الأسباب .
  • لم تقل شيئا ً يا شيخ، لم أقتنع بكلامك .
  • حسنا ً، الأسباب الأخرى ستعرفها لاحقا ً.
  • لاحقا ً ؟ متى يعني ؟
  • لا أدري، اترك السجن يأخذ مجراه .
  • حسنا ً. كان يتأمّل الزنزانة، وجهه يفيض بالأسئلة، كنت أشعر بهذا من حركات شفتيه، ثمّ توجّه إلي بالسؤال و هو يبتسم : هل كل المشايخ يعاملون كهذه المعاملة ؟
  • لا، طبعا ً لا، فقط من يملك المال، أو الواسطة .
  • فأيّهما تملك يا شيخي .
  • الاثنين.
  • إذا أنا محظوظ .
  • نعم أنت محظوظ .
  • هل تعرف كيف كانت زنزانتنا قبل أن آتي إليك ؟ كانت بحجم هذه الزنزانة تقريبا ً, و لكنّها كانت تستوعب حوالي الخمسين من المساجين، رغما ًعنها و رغما ً عن كل قوانين الهندسة و المساحة، عندما كان أحدنا يخرج منها كنت أشعر بها كرجل متخم يتقيأ بشرا ً من لحم و دم . كنا ننام فوق بعضنا، كان يكفي أن تجرح جرحا ً خفيفا ً أثناء جلسة التعذيب، حتى تموت من الإلتهاب، تموت بكلّ ما للكلمة من معنى، كانت الجراثيم تعشش في كل بقعة من ذلك المكان، كان يموت عندنا يوميّا ًسجين أو اثنان، كأنّ ملك الموت مقيم دائم عندنا، زميل لنا بغير تهمة، كل يوم ينتزع روحا ً, كنا نفرح لمن يموت، و ندعوا الله أن يكون اليوم التالي هو يومنا، فالموت رفاهية لا نملكها، نعم، من يموت يتعذّب ساعة، و لكن كان الواحد منا يتعذب ألف ساعة، دون هدف، دون ضوء .
  • نعم، أعلم هذا .
  • ذات مرة يا شيخ، مات أحد السجناء و بقي في زنزانتنا قرابة الأسبوع، كان يتعفّن و ينتفخ، رائحة عفونته تزيد المكان قسوة، كنا نرجوا السجّان بأن يأخذ جثته، كان يضربنا بحقد و نحن نتوسله، و لكن لا فائدة، كان يعاقبه و يعاقبنا، لا لشيء، سوى أنه كان من أول من صوّر مظاهرة و بثها على الشبكة . كان بطنه ينتفخ، تخرج الغازات القاتلة من فتحات جسمه، كنا نتقيّأ، فيفرح ملك الموت المقيم بيننا، كما قلت لك، الموت كان مقيما ً دائما ً عندنا .
  • صببت له كأسا آخر و أنا أتأمل الأخدود في رأسه، و كأنّه لاحظ نظراتي فأردف : هذا الجرح سببه لي جلّاد من جلّادي الأمن، كان يضربني بكبل كهرباء و هو يسألني من دفع لي حتى أخرج بالمظاهرة، قلت له :لا أحد ’ فتناول جنزيرا ً من الحديد كان ملقى ً على الأرض و ضربني به، فانفجر الدم من رأسي، تطايرت أشلاء اللحم في أرجاء غرفة التعذيب و أعادوني إلى الزنزانة، حيث لم يكن لي من دواء سواء ريقي الذي أسيّله على يدي و أمسح به جرحي حسب نصيحة أحد المعتقلين و كان طبيبا ً، اعتقل بتهمة إسعاف أحد الجرحى من المتظاهرين، تخيّل !! لن تجد في أيّ حكومة في التاريخ مهما كانت عاهرة تهمة كهذه، إلا في دولتنا الكريمة، هي الوحيدة التي لديها تهمة اسمها " مسعف " . المهم، دخلت في غيبوبة، لا أدري كم بقيت فاقدا ً للوعي، بعضهم يقول عدة أيام، و بعضهم قال اسبوعا ً، ولكن في النهاية و بقدرة قادر، عدت للحياة، و كم تمنيت ألّا أعود لها، يا ليتني مت و كنت نسيا ًمنسيّا ً .
  • لم تكن تلك الروايات بغريبة عنّي، فكل سوريّ يعرف مدى قذارة أجهزة الأمن، خاصة بعد قيام الثورة، و لكن أن تسمعها ممن عايشها، تلك كانت مسألة أخرى، بدا عليّ الحزن و أنا أعلّق على تجربته المريرة : نعم، يا ليتني كنت نسيا ً منسيا ً، قالتها مريم البتول خوفا ً من الفضيحة، فماذا يقول ,,,
  • قاطعني : فماذا يقول من كان يشاهد زوجته و هي تتلوى بين اثنين من رجال الأمن و هم يغتصبون الإنسانية كلها من أجل أن ينتزعوا كلمة منه ؟ أو ماذا تقول من دخل عليها الشبيحة يبحثون عن ابنها الأكبر، فأخذوا رضيعها من بين يديها و بدأوا يجرحون خدّيه بسكاكين غدرهم لعلها تخبرهم عن مكان ابنها الهارب، ماذا يقول هؤلاء ؟ هذه بعض القصص التي سمعتها ممن عايشها، ذلك الرجل كان يهذي و هو يسكب آخر قطرة من روحه في حضني، كان يخبرني بكلمات مبعثرة كيف كانوا يغتصبون زوجته أمامه و كيف أنّه اعترف بكل جريمة في هذا العالم منذ بدء التاريخ، حتى أنّه اعترف بخيانة المسيح نفسه، و لكنّ ذلك لم يكن ليشفع له، أو لها، الحياة سريالية يا شيخي، سريالية . اكتسى المشهد بدموع غياث ٍ، كان صمتا ًغاضبا ً ذلك الذي تلبّسنا، كأن القيامة ستقوم بعد قليل، و لكنها لم تفعل، مددت يدي و ربتّ على كتف غياث فوضع يده فوق يدي و هو يقول :أنا بخير، أنا بخير، إن كان في هذه الدنيا خير .
  • الثورة، ياليتها لم تكن، لقد كنّا قبلها بخير يا غياث .
  • عاد مستويّ الجذع، نظر إليّ بعينين حمراوين و صار يقول بصوت متلبّد بالغضب : الفتنة نائمة بارك الله من أيقظها، بارك الله من ساهم في قتلنا، سنفتح قبورنا للجثث، إنه استحقاق و يجب أن ندفع ثمنه، دفعة واحدة، حتى لا يدفعه أبناؤنا و أحفادنا بالتقسيط، التاريخ أكبر مرابيّ خلقته الآلهة، السكوت فائدته مركبة، سكوت آباؤنا و أجدادنا عن الظلم هو قرض فائدته من الدماء .
    نعم، ما يعانيه الشعب هو مآساة، و لكنه نفق لا بد منه، ثمن لا غنى عنه، إنه دين الأجداد و ربا التاريخ، نسدده دفعة واحدة ونستريح .
  • للمرة الأولى شعرت بكلامه يستثير وعيا ً كنت أريد له أن ينام بعمق، شعرت بصحبة استثنائية في وقت كنت أبحث فيه عن شيىء آخر، قلت له : أنت في السجن منذ بداية الثورة كما أعرف، و لعل الأخبار لا تصلك أوّلا ً بأوّل، الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها يا غياث .
  • أجاب بغضب : بل بارك الله فيمن أيقظها، نعم تصلني بعض الأخبار من النزلاء الجدد .
  • من يسمع عن الخبر ليس كمن يعيشه يا غياث ’ سكتّ ثم تبسمت بافتعال :عموما ً أعجبني تشبيهك، يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعفا ً مضاعفة ,,
  • و اتقوا الله لعلكم تفلحون .
  • يبدوا أنّك تملك ثقافة دينيّة لا بأس لها، من أي سورة هذه الآية ؟
  • هل هو امتحان يا شيخي ؟
  • لا، فقط فضول .
  • حسنا ً, هي من سورة آل عمران، و نعم عندي ثقافة دينيّة لا بأس بها .
  • أتحفظ شيئا من القرآن ؟
  • نعم أحفظ بعضا ً منه، ربما ربعه .
  • ما شاء الله، جيد جدا ً، معظم الناس لا يحفظ جزءً واحدا ً، و حتى المتديّن منهم .
  • نعم صحيح، أما أنا فأحفظ كثيرا ً منه، أكثر منك ربما يا شيخي .
  • لا، فأنا أحفظه كله .
  • نعم، نعم صحيح، فأنت الإمام البلقينيّ .
  • نعم أنا هو، ماذا تحفظ يا غياث ؟
  • أحفظ الأجزاء الأربعة الأخيرة، و بعضا ً من السور التي أحبها، كسورة مريم، طه و يوسف .
  • نعم، كثير من الناس يحبون هذه السور .
  • قافيتها رقيقة و تدخل القلب، لا شك أن كاتبها مبدع .
  • حتما ً، فكاتبها هو الله سبحانه ’ ولم يعجبني قوله " كاتبها مبدع "، شعرت بها عبارة ملغّمة، فدفعني فضولي لأسأله : غياث ، ألا تصلّي ؟
  • كان يسحب من السيجارة التي بين إصبعيه بعمق و هو يقول باستهتار : نعم، أصلي دائما ً، و لكن على طريقتي .
  • طريقتك ؟ هل لك طريقة ؟ هل أنت شيخ صوفي ّ ذو طريقة ؟ ’ قههقت قليلا ً ثم أردفت : حسب علمي أنت علمانيّ يساريّ .
  • أطفأ السيجارة و هو يقول لي : لست يساريّا ً و لا يمينيّا ً, أنا إنسان عادي، فقط إنسان .
  • إذا ً كيف تصلّي على طريقتك ؟
  • أجاب بتحدي : أليست الصلاة هي صلة بينك و بين الله ؟
  • نعم بالتأكيد .
  • فأنا صلتي به دائمة لا تنقطع، و لست بحاجة إلى حركاتكم البهلوانيّة هذه .
  • نظرت إليه باستغراب : هل صلاتنا هي عندك حركات بهلوانيّة ؟
  • نعم هي كذلك عندي ’ و بدا متحدّيا ً في كلامه . كنت أقول في نفسي، أين ذالك الرجل الذي جاء إليّ و هو يهذي و يخاف من ظلّه . تناولت سيجارة و أشعلتها و أنا أتامل معلوماتي عنه قبل أن يزورني في زنزانتي، كل ما عرفته عنه أنه رجل يساري ّ, علمانيّ، ثوريّ، محب للأدب و الشراب، و لم أستطع أن أحصل على معلومات أخرى غير ذلك، و لكنّه يبدو ذو توجّه معين، شخص غريب، أو إنسان عادي كما قال . كان كلامه رماديا ً، كأنه يتخفّى وراء كلمات عامة حفظها عن ظهر قلب، فقررت أن أسبر أغوار أفكاره و عقيدته، فطرحت عليه سؤالا ً, هو أول الأسئلة و آخرها، ذاك السؤال الذي تاهت البشرية في البحث عنه ,هو أسهل الأسئلة، و أصعبها على الإطلاق .
  • غياث صارحني، هل تؤمن بالله ؟
  • صمت لدقيقة و هو يتأمّل الأشكال التي يرسمها دخان سيجارته، ثمّ قال : أصارحك ؟ هل أنت أكيد ؟
  • نعم، تفضل .
  • و كيف أتأكد أنك لن تقوم بقتلي، أنّك لن تقيم عليّ حدّ المرتد ؟
  • قطبت جبيني قليلا ً و أنا أقول : لا تخف لن أقتلك ,,,,,, و لكن ,,,, و لكن ,,, سأستتيبك أولا ً . نظر إلي باستغراب قبل أن أقطع نظرته بضحكة لم تخرج منّي منذ زمن، فبادلني الضحك بضحك مثله، و علا صوتنا حتى لكأنّ الزنزانة امتلأت بالحياة في تلك اللحظة. ما أن توقف الضحك قليلا ً حتى قال : لن نتوقف عند الأسماء، بل سنتكلم في المعاني .
  • بدت عليّ الحيرة من كلامه : ماذا تعني ؟
  • صارت ملامح وجهه جدّية أكثر و هو يقول : أعني، أنا أؤمن بخالق للكون، خلقني و خلق كل ما أراه و أعرفه، و لكن ليس بالضرورة هو الله .
  • ظننت أني قد بدأت أفهمه فقلت : أنت تقصد أنك لا تؤمن بإله المسلمين، فبمن تؤمن ؟ بإله النصارى ؟
  • اسمهم مسيحيّون يا شيخي، فقط القرآن يطلق عليهم اسم النصارى، يا شيخي، قد تجد الحب عند كل الآلهة، لكنّ الخالق نفسه لا دين له، و أجيبك بلا، فأنا لا أؤمن بأيّ إله تعرفه، أنا لي إلهي الخاص .
  • لم أدر بماذا أعقب على قوله، ثم خطرت لي تلك القصة من الجاهلية، حيث كان كلّ رجل يصنع إلها ً خاصّا ً به، بعضهم كان يصنع إلها ً له من التمر، فإذا جاع أكل إلهه : يا غياث أخبرني بالضبط بماذا تؤمن ؟ ما هو الدين الحق عندك ؟.
  • عدّل من جلسته، صار يفرك الأخدود الذي في رأسه، يحكّه بشراهة و هو يقول : انظر يا شيخي أرجو ألّا تدّعي امتلاك الحق، حتى أنا لا أجرؤ على الإدعاء بأنّي أمتلك الحقيقة الكاملة ، أنا فقط أعرف ألّا أحدا ً يملكها، فالحقيقة يا شيخي هي غيمة كبيرة تملأ الأفق، كلنا يراها وفق هواه ، كطفل يرى فيها آماله و أحلامه و كوابيسه، الحقيقة غيمة من المرايا، كل إنسان يراها كما يرى نفسه، و الإله الذي تؤمن به، هو أنت في قمّة تطرفك، هو أنت في الصيغة المثلى، في الحد الأقصى، هو أنت حين تملك الكون و تجلس على عرش الإله. هي قاعدة يا شيخي، قاعدة اتخذتها في حياتي كلّها، أسميت تلك القاعدة ( حذف الياء ) .
  • حذف الياء !! أيّ ياء تريد حذفها ؟
  • إنها ياء التملّك، ياء التملّك الخاصة بالأفكار و المعتقدات .
  • كيف ؟
  • مثلا ً, أنا لا أقول " أفكاري، ديني، عقيدتي " أنا فقط أحذف الياء، فأنا لا أفكار لي، لا دين لي، لا عقيدة لي، أنا إنسان، فقط إنسان، و الأفكار و العقائد هي أشياء عابرة في ذهني، لا أتملكّها، فليس هناك صك ملكية بالأفكار، و الدين ليس هويّة نتوارثها، الدين فكرة في الذهن، يجب أن نعاملها بحياديّة، من دون ياء التملك، لذلك لا أشعر بأنّي أدافع عن ذاتي حين أدافع عن فكرة أراها حسنة، فأنا منفصل عن الفكرة، هي في جانب، و أنا في جانب، قد نلتقي في وسط المسافة و نتصافح، و كذلك الدين، و لعل هذا هو السبب الذي يجعلني أغيّر رأي بسهولة تامّة، لا مشكلة عندي بالإعتراف بأنّ فكرة خصمي هي أفضل من الفكرة التي أتبناها، هكذا أنا، و لكنّ معظم الناس يؤمنون بنفس دين أهلهم؟ وبالصدفة كان هذا هو الدين الوحيد الصحيح؟
  • ممم، حسنا ً، لعل كلامك قريب من كلام مولانا جلال الدين الرومي حين قال " الحقيقة كانت مرآة بيد الله فوقعت وتشظّت ، كلّ فرد أخذ قطعة منها ، نظر إليها وخال إنّه يملكها كاملة " .
  • بالضبط، أعود فأكرر، شيخي ؟ أعليّ الأمان فيما أقول ؟
  • يا رجل، أنا أمامك أشرب كما تشرب، تفضل و خذ راحتك في الكلام، فلو كان من حد للردة فأنا أوّل المقتولين .
  • ابتسم و هو يكمل: حسنا ً، أنا بالتأكيد لا أؤمن بـ " الله ", ذلك الإله الصبيانيّ الغاضب المتعجرف، ذلك الذي سيعذبني بالنّار الأبدية فقط لأني لم أقتنع بكلامه، لأنّي ولدت في العائلة الخطأ، في الدين الخطأ، أو المذهب الخطأ. إلهي أميّ لا يقرأ و لا يكتب يا شيخي، كما يقول عبد الله القصيمي : كيف يمكن أن يكون الإله محتاجا ً إلى أيّة لغة ؟ إن احتياجه إلى أيّة لغة وإلى ممارسة أيّة لغة هجاء أليم له. إن معرفة اللغات والتكلم بها والاستمتاع إليها وقراءتها ليست أخلاق، أو مستويات إله . إلهي يا شيخي ليس هو من كتب القرآن و لا التوراة و لا الإنجيل، إلهي متعال في ملكوته، يتأمّل ذاته الكاملة، لا يعير لنا انتباها ً، هل هناك حياة بعد الموت ؟ نعم ,,,
  • قاطعته : كيف تعلم بوجود حياة بعد الموت .
  • أنا أعرف، أعرف فقط، العقل البشري يا شيخي هو خارج الزمن، خارج الحياة المادية، نحن نعيش الماض و نفكر بالمستقبل، كوننا نفكر خارج الحياة هو دليل على وجودها بعد الموت . و لكنّ الله حتما ً لن يعذّبنا في تلك الحياة لأننا لم نؤمن به، بل سيعاقبنا بحرماننا من تجلّيه في قلوبنا، إذا لم نؤمن بأنفسنا، بإنسانيتنا، بقدرتنا، إلهي هو إله الفلاسفة، إله لا يعلم أننا نجلس الآن و نحتسي الأفكار و القصص في هذه الزنزانة ( الفارهة )، إلهي يا شيخي بكل تأكيد ليس هو الله الذي تؤمن به، الإله الذي خلقنا لعبادته في ساعة سأم . قال لي أبي يوما ً: " أنت لست بحاجة لأن تبرّني عرفانا ً لفضلي عليك، فلا فضل لي عليك، أنا قد أخذت حقي كاملا ً حين استمتعت بكل ضحكة منك، بكل لحظة مرّت و أنت تكبر أمامي، حضني لك لا يقدّر بثمن، وجودك كاف في حياتي " و كذلك الله، ليس بحاجة لعبادتنا و شكرنا له، لقد أخذ حقّه كاملا ً حين أحس بإلوهيّته، بقوّته التي تتجلى في ضعفنا، لقد حقق هدفه من خلقنا بمجرّد وجودنا في هذا العالم الوهميّ، و الأعراف هي مثوى الجميع .
  • الأعراف ؟ الأعراف يا غياث هي الأرض الحياديّة، هي الأرض الرماديّة، لا طعم لها، هي الأرض الفاصلة بين الجنة و النار، هضبة يجتمع عليها من استوت حسناته و سيّئاته، و من ثمّ يدخلون جميعا ً إلى الجنة، بفضل الله و رحمته .
  • لا يا شيخ، الأعراف هي مصيرنا النهائي، هي وطننا الأبديّ، فكلنا ذلك الإنسان الرماديّ الذي ستتساوى حسناته مع سيئاته، من منّا لم يبتسم و يغضب ؟ من منّا لم يطعم فقيرا ً و يأكل مال اليتيم ؟ من منّا من لم يزني – حتى بفكره – ثم ينتفخ كالطاووس أمام الناس بالعفة ؟ من منّا لم يقتل و يحيّ في أحلام يقظته ؟ هي الأعراف، ستسعنا بكلّ آثامنا و حسناتنا, بكل قبحنا و جمالنا، فيها سنبني تمثالا ً للإنسان، نركع و نصلّي له، لأنه يمثّلنا، لا كالله المتعالي الذي لا يمت لنا بصلة، سوى أنه خلقنا .
  • كان كلامه ثقيلا ً، متخما ً بالتمرّد، استغرقت بضعة دقائق أفكك معانيه، ثم قلت : ما الفائدة من الإيمان بهكذا إله يا غياث ؟
  • سؤالك خاطىء يا شيخ وهذه هي مشكلتكم، علاقتي مع الله ليست علاقة " فائدة " أساسا ً, أنا لا أؤمن به لأنّي أخشى ناره أو أرجو حوريّاته، بل أؤمن بوجوده لأنه حقيقة - سبحانه - أراه في كل ومضة حياة، في كلّ كبد رطبة في هذه المعمورة، أراه في تنهّد قلبي حين أتذكر ابتسامة زوجتي، أو في رجفان روحي حين أستنشق ضحكات ابنتي، الله هو حلم متوّشح بالغياب، مدوّن على ملامحي منذ ولدت . إلهي موجود، هو من صنعني، أما إلهك, فالإنسان من صنعه ، صنعه من عجينة آثامه، جبارا ً كحاكمه، مستو على عرشه كأيّ ملك من ملوك الدنيا . ألم يقل علي بن أبي طالب " من عرف نفسه عرف ربه "، ألستم تقولون على لسان نبيكم : أن الله خلق آدم على صورته ؟ نعم، ففي هذه صدقتم، هو صورة عنكم، صورة عن كل شيىء قبيح فيكم .
  • لعنت فضولي ألف مرّة، فلو تركته على تقيّته لكان خيرا ً لي، خيرا ً من أن أسمع هذا الكلام الذي وقع على قلبي كالحسام، لكنّ فضولي سار بي إلى سؤال آخر : غياث، لم أقتنع، أعطني سببا ً مقنعا ً لأجله تركت الدين .
  • عدّل من جلسته و صار أكثر تأمّلاً حين قال : تركته لأسباب كثيرة جدّا ً، أكثر من أن أحصيها، مثلا ً: عدم وضوح الدين، اختلاف ألملل و النحل، عدم وجود الدليل، و انعدام العدالة .
  • كيف ؟ حدد ؟
  • دعنا نتناقش في المسألة الأخيرة فقط حتى لا نضيّع الوقت، أو حتى لا نتناول جميع المواضيع في جلسة واحدة و نترك شيئا ً للأيام القادمة " إن كان من أيام قادمة " . العدالة يا شيخي مفقودة في الأديان كلها، فلا يوجد في التاريخ أو على هذه الأرض جريمة واحدة تستحق العذاب الأبديّ الذي لا نهاية له، فكرة وجود عذاب أبديّ لوحدها فكرة كافية في نفيّ العدالة عن الله الذي تؤمنون به، فكرة أن الله سيعذب إنسانا ً إلى ما لا نهاية من أجل جريمة ما - مهما عظمت - و لكنّها تبقى جريمة محدودة، لها نهاية، هذه الفكرة تكفي لكي تجعل أيّ إنسان يخرج من الدين، إن كان يملك الحدّ الأدنى من الإنسانية، الجريمة المحدودة عقابها محدود، وحده محبّ التشفّي يمكن أن يعذّب بعذاب لا محدود ,,,,
  • قاطعته من شدة فرحي و أنا أريد أن أطرح رأيا ً قد يشكّل حلّا ً لعقدته هذه، فقلت : و لماذا يا غياث أخذت بهذا الرأي ؟ ففي الإسلام سعة، و اختلاف أئمتنا رحمة، يوجد رأي لشيخ الإسلام ابن تيمية و تلميذه ابن القيم، يقول بهذا الرأي، ما تقوله أنت، بل لابن تيمية نصّ يطابق تقريبا ً قولك حرفيّا ً, يقول فيه ( و لو قدّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة ) . و ابن القيم رحمه الله استدلّ بخمس و عشرين دليلا ًعلى انقطاع عذاب النار في كتابه "حادي الأرواح"، أي أنّ نهاية جميع الخلائق ستكون في الجنة، و سيأتي على النار يوم تصفق فيه أبوابها و هي خالية على عروشها، ليس فيها من أحد البتّة، حتى فرعون سيدخل الجنة في النهاية ,,,,
  • قاطعني : نعم يا شيخي، أعرف كلّ هذا، و أعرف أنّه رأيّ لأهل السنة ذكره الطحاوي في عقيدته، و ينسب للكثير من الصحابة، و لكن ,,, و لكنّ هذا الرأيّ يعارض ظاهر القرآن الصريح بأن ّ الكفار في عذاب مقيم، و أنهم خالدون فيها أبدا ً، و أنهم لا يخرجون منها حتى يلج الجمل في سم الخياط ,,, وأنهم ,,,
  • يا غياث، حسبك، كل ما ذكرت هو من قبل الوعيد، و ليس الوعد، فالله يجوز في حقه أن يخلف وعيده، و لا يجوز عليه أن يخلف وعده، فإخلاف الوعيد كرم يليق بالله سبحانه، أما إخلاف الوعد فهو كذب لا يليق به تعالى .
  • دع عنك يا شيخي تمحّل المتمحّلين، القرآن واضح، و إن لم يكن واضحا ً فتلك مصيبة أكبر .
  • سكتّ قليلا ً ثم أردفت : عجبا ً لك يا غياث، تعلم هذا الرأي مع أنك لادينيّ، و كثيرمن أهل الدين لا يعرفونه !!! .
  • صار يضحك و هو يتناول رشفة من الكأس الذي في يده : و هل تظنني تركت الدين عن جهل ؟ هل تظن أني أعرّض نفسي للنار الأبدية إلا بعد دراية و بحث مضن ؟ لقد درست الدين و إلتزمت به لفترة، و لكن لأنّي لا أملك "ياء" التملك في قاموسيّ المعرفيّ، تركته عندما أيقنت بأنّه كباقي الأديان، اجتهاد بشري لا أكثر و لا أقل .
  • نفخت نفخة غضب و أنا أقول : كلما تذكرت الوحوش التي تعذب الأبرياء في سجون الطغاة ازددت يقينا ً بعدالة السماء، بعدالة لخلود في النار لمثل هؤلاء، و عرفت بالضبط من تقصد النار بقولها (( هل من مزيد )) ’ قلت كلامي هذا أرميه في وجهه و أنا آقضم أظافر أصابع يدي اليمنى .
  • صار يبتسم و هو يقول لي : عندي قاعدة أخرى يا شيخي .
  • قاعدة أخرى ؟ ما هيّ ؟
  • هذه القاعدة أسميتها قاعدة اليد اليمنى، كما أسماها القرآن، ففي القرآن يوجد أهل اليمن و أهل الشمال، و قاعدتي تقول : أن من يقضم أظافر يده اليسرى فهو محبّ للحياة، و من يقضم أظافر يده اليمنى " كما تفعل أنت " فهو محبّ للموت .
  • كيف بنيت هذه القاعدة ؟ كيف استنتجتها؟
  • يا شيخ، من يقلّم بأسنانه أظافر يده اليمنى أولا ً, فهو يأجّل اليد اليسرى إلى النهاية، أيّ هو يحب العاجلة، يحب أن يبدأ باليد التي يستخدمها كثيرا ً, يحب أن يبدأ بالأسهل، و من يقلّم أظافر يده اليسرى أولا ً فهو يبدأ باليد التي تقليمها أصعب ، هو يحب الموت، يفضّلّ الآجلة، يفضّل الآخرة على الدنيا، لقد طبقّت هذه القاعدة على بعض المعتقلين، فعرفت من سيستسلم و يعترف خلال التحقيق، و من سيثبت على موقفه .
  • صرت أضحك كما لم أفعل من قبل لحكمته التي لا تخرج إلا من دماغ مدمن على الحشيش، أو إنسان خرج للتو من سجون الأسد . أتى الحارس بطعام الإفطار، الخبز الساخن كان أجمل ما فيه . أكل غياث بعمق، ثم ّ عاد إلى الشراب، دقائق مرّت و قد تلاشى جميع ما في الصحون، سكتّ، فسكت مثلي، و قد قلنا ما في جعبتنا لسكرتنا الأولى، نظرت إلى شاشة التلفاز أمامي، رفعت صوته قليلا ً، فإذا بها أنشودة أعرفها " الصلاة على المظلل بالغمام، خير خلق الله شرف أرضنا " لم أشعر إلا و أنا أتمايل يمينة و يسرة، وراء ً و أماما ً, نظرت بطرف عيني إلى غياث، كان يتمايل برفق، بتردد، كأنّه يقاوم ذلك التجلّي . كان الكورس يردد : " لا إله إلا الله " فصرت أردد معهم، تسارع صوت نقر الدف، و معه تسارعت أصوات الكورس، و المنشد يرفع و يخفض، ثم بدأ المولويّة يدورون حول أنفسهم، فلم أتمالك نفسي، فقمت ممسكا ً بيد غياث فقام معي و بدأنا نتمايل، نتمايل كسنبلتين تلعب بهما الرياح التي لا وجهة لها، كنا نذوب كشمعتين في تلك الحضرة الصوفية، كلّ و احد منّا يحمل جرحا ً بحجم الكون، ينزّ عليه إلتهابا ً و موتا ً. كنا نتمايل و غياث يضحك، ثم ما لبثت أن تركت يده و بدأت أدور كأني واحد من المولوية في الشاشة، و أنا أردد : مدد يا رسول الله، مدد يا حبيب الله ’ فبدأ غياث يدور لوحده أيضا ً، كنا ندور و ندور، كأيّ شيىء في هذا الكون، كأي ذرة غبار في بقعة شمس، كان الدف يسرع ضاربا ً و نحن نسرع بالدوران، كنت أذكر كلام الرومي في رأسي " لا كاسات خمر هنا، لكن خمرا ً تدور، لا دخان، بل لهب، اسمعوا الأصوات خافقة، بما تنخر به الأنغام" . كنا ندور، نسرع أكثر فأكثر، حتى وقع غياث مغشيّا ً عليه، و مثله أنا وقعت، و أنا أردد : لا إله إلا الله محمد رسول الله، و نمنا بعمق قرب الضحى .

-3- فكرة الأعراف تلك كانت تنخزني في روحي فكان نومي متقطّعا ً، كنت أرى أحلاما ً، أو لعلّها كوابيس، كان وجهي لوحده يسرح في أرض رماديّة و هو بدون ملامح، ليس فقط وجهي، بل جميع سكان تلك الأرض القفرة، المسطّحة، لم تكن تحوي جبالا ً و لا وديانا ً، هو لون واحد يصبغ الأرض و الماء و الطعام، كان طعامها رماديّ أيضا ً، بدون طعم، بدون رائحة، نساء تلك الأرض كنّ دون أثداء، دون فروج . كنت أنصب خيمتي هناك في وسط الزحام الصامت،

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم