رواية "أخيلة الظلَّ" الصادرة عن دار التنوير 2017 للروائية المصريّة منصورة عزّالدين، لاتخضع التجربة الروائية في اتساقها الروائي وحسب، بل محاولة تصميمية في اختراق الواقع الذي تستند عليه في تكوِّين عوالمها السرديّة وشخصياتها الروائية بالحدَّ الذي يتمدد في المسار التاريخي لأحداث سواءً في الواقع أو التأريخ أو الخيال (فانتازيا) أو التجرية.
قليلة هي الروايات العربية، أو فلنقل الأسلوب الروائي الذي يبتدع مكاناً يقوم على مقارنة تحمل دلالاتها الفضاء الافتراضي بين مكانين يمثلان عالمين بتفاصليهما الغائمة؛ إذن ثمة مكان يستدعي النصَّ الروائي في جملة محددَّات يمكن أن تفسر محتوى العلاقات بين الشخصيات وتفاعلاتها في خضم الحدث السرد Narrative Event داخل الرواية. ومن ثَّم فإن رواية (أخيلة الظلّ) تختبر المكان في بُعدين (القاهرة، براغ) بين تقاطعات شخصيتي (آدم، كاميليا). وفي هذه الرواية على ما ينبثق عادة عن أعمال منصورة السردية (ما وراء الفردوس، جبل الزمرد، متاهة مريم) وإلى جانب مجموعاتها القصصيَّة يفضي المكان إلى أكثر تجليِّات السرد قوة. ولمّا كان المكان على بروزه المتجلِّي في أعمال منصورة السردية (الروائية) إلا أن ما يمنح ويُركّب من دلالته المحور السردي للشخصيات الروائية وحيز حركتها على نسق يقوم على تجريب مشِّوق في إنشاء نص سردي يشكل كل فصل منه بؤرة قابلة للإنفجار. ومن الافتراض تتخلَّق أسماء الشخصيات ومن ثَّم تحمل قدرها في الحاضر والتاريخ والمكان. ويغوص القاريء بنهم متصل في تفاصيل شخصيات تتعدد أسماؤها وذكرياتها وطموحها ومأزقها الوجودي. وكيف أن ذلك المقعد الخشبي قابلة نهر الفلتافا تنبثق عنه حيوات سرية واماكن موازية في ميادين القاهرة وثلوج سياتل وقنابل درسدن، ومذابح وتاريخ من الالام تحمله الشخصية وتحاول تحقيقه في تجريب كتابي متقنة أدواته تنفذه ثلاثة شخصيات (آدم، كاميليا، اولجا). تجريب في تسرده كتابة ملتزمة بالسمت المعياري للسرد الروائي يخضع إلى ضروب معرفية عديدة تقوي من البنية السردية Narrative Structure يؤطرها أسلوب روائي متمرس.

وربما يوشك أن يكون المكان في نظريات تحليل الخطاب الروائي معادلاً للسرد وعناصر الخطاب الروائي الرئيسة الأخرى. ويكشف ذلك عن الأثر الذي ينعكس على الأحداث والشخصيات في الرواية، إلى الحد الذي يمكن تصنيفه ضمن استراتيجية الخطاب الروائي. ولكن قد يُفسر المكان كعالم ماديّ تنبثق عنه محددات الخطاب السردي في صيغته النصية (الرواية)، وينبغي أن يؤدي دور المتخيل في البناء السردي. فالعلاقة التي تنشأ بين الأحداث والشخصيات في تفاصيل أحداث الرواية والمكان غالباً ما تتميز بخصائص مقيمة ومتجسدة في المكان كمعطيات مسبقة الوجود تبنى عليها حركة الخطاب السردي. إن وجود المكان وجود ذي بعد زمني كما هو موضوع ملموس إلى جانب بعد زمني آخر يرتبط بالمكان من حيث تعاقب الأحداث. إنها الرحلة القارَّة في ذاكرة كاميليا في تاريخها الشخصي وبعدا آخرا تتصوره اولجا في نحتها لقصص تحلم بكتابتها، وربما يكون التداخل بين من مصادر السرد وحضور الشخصيات متنقلة بين أجواء مبعثرة ينظمها نسق سردي سرعان ما يعود كاشفاً نقطة بداية أو لحظة وعي تستند على كتابة داخل الكتابة -إذ جاز التعبير- تحول دون ترك الشخصية دون مصير وإن صدرت عن احلام مفزعة لطفلة أو عجز وفزع عازف البيانو الذ يفقد القدرة على استخدام يديه على نحو ما ارادت الكاتبة الكتابة عن كاتبة مضمرة، وهي كما تردد عن الكتابة "...فكرت في ان الكتابة، في جوهرها، مطاردة للسراب ولعب معه، بل واختراع له. تحويل الواقعي المؤكد إلى سراب مخاتل، والإيهام بأن السرابي حقيقة ماثلة تنتظر ان نرتوي بمائها المتطاير" . تستغرق كاميليا قراءة قصة ( ناسك في غابة) وهي المحاولة الداخلية الثانية في الكتابة من الداخل تحول بالتخييل إلى أبعد من يدعيه منطق الأشياء في فرضياتها المنطقية ( سرديا)، وتداعي قصتها و(غابتها) التي ستسكنها لتضيف إلى النص نصوصها الغرائبية المكونة للنص الأصل من الرواية. ويشكل ثنائية مفترضة في تكوِّين أحد أهم محورين في الخطاب الروائي (الزمكان) المصطلح الذي صاغه الباحث الروسي ميخائيل باختين Chrontope . أنه الموقع الذي يشكل مصدراً أو بنية تقوم على ما تجري عليها وتتفاعل من أحداث تنتمي إلى المكان بنسب متفاوتة وأحياناً حسب حدة الصراع بين مكونات المكان. ولا يخلو المكان عادة من ظواهره الطبيعية في تكوينه الطبيعي مما يترك أثراً على مدى تفاعل تلك الشخصيات بتلك الظواهر وارتباطها النفسي والوجداني بها، وتتصل بالتالي بالفضاء السردي منفتحاً على العوالم التي يستدعيها الخطاب الروائي، وعملية التفاعل بين المكان وأحداث الرواية مما يعطي صورتين تكمل إحداهما الأخرى، وتوازيها في التمثيل أو العرض وتختلف عنها في الموقع الذي تحتله في صميم الحدث الروائي. على مستوى سردي ما قد يوحي هذا الاشتباك الذي يتخلل النص الروائي بالإحالة إلى تعدد الأصوات في الوهلة الاولى التي تأخذ بعامة تقاليد النقد الروائي، ولكن في هذه الرواية ( أخلية الظل) وفي غياب – غموض- السارد والعوالم السردية المتدفقة قصة من وراء توترات انسانية حادّة؛ نقف أمام نص سردي حشدت فيه صور مظللة دون أن تخفي شخصياتها أو تذيبهم في عوالم الرواية المتحولة بين تداعيات المخيلة والرعب والهلاوس والرغبات المحطمة والأماكن المفقودة.

إن ما يجمع بين المكان وهو حيز فيزيقي (مادي) والإنسان هو الرابط الكوني الذي تمثل دلالاته الوجودية بنية ومحوّر تدور حوله التخيلات والأحلام الإنسانية. والمكان أيضا يستنطقه عبر الحوار الإنساني مفاعلاً تنتج عنه تصورات الخطاب الروائي التي لا تكتفي بالوصف الطبوغرافي للمكان دون الإحساس الذي يرتبط بعاطفة إنسانية تخلفها ذكريات الإنسان بما تعنيه الرموز ولواحقها في تخيلات كاميليا وزمنها الذي تستدعيه من وقت لآخر. ويشتمل المكان في بنية الخطاب السردي ليس حصراً على الفضاء الجغرافي بأبعاده الطبيعية ولكن وجود العناصر الروائية تعد مكاناً كالغرف والأثاث وهنا يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون بالاشلار في مؤلفه الشهير "شعرية المكان" : "...كل ركن في المنزل، وكل زاوية، وكل بوصة في فضاء معزول نرغب في الاختباء فيه أو الانسحاب إلى دواخلنا، أنه رمز لعزلة الخيال". وفي الرواية المكان يتحدد في صور عديدة بإبعاد تضيق وتتسع. مثلما ينفتح النص الروائي على أفق سردي تكون اللغة أحياناً المكان الذي يقوم عليه السرد وتنتصب علاماته، و فضاءً متسعا ومتمددا في بنيته السردية.

في رواية " أخيلة الظل" نعثر على نصين أحدهما يمثله أصل السرد ( الرواية) و الآخر في السياق الروائي، حتى لا يكون الربط مربكاً بما يفهم منه خلط ثنائي في توصيف مكون سرد واحد. فإذا ما طبق السرد، أو أحد تراكبيه المكملة لبنيته اللغوي قبل توظيفه ( إبداعياً) على المكون الروائي يكون التعامل الزاما مع مكونين و نصين بحسب أن كل منها له أدواته في التعريف و الاستخدام دون أن يتناقض ذلك مع وحدة النص التي يجهد الروائي – عادة- في الحفاظ على تماسكها و التحكم بحركتها السردية.
يبرز النص السردي في بداية النص الروائي في " أخيلة الظل" متداعياً عن تجريب قصد منه الروائي الانفتاح على تدفق سردي هائل يحكمه الراوي مستنداً الى قوة اللغة السردية و رمزيتها الدلالية ( ما وراء اللغة و ليس النص) في سرد متتابع يوغل في بطء الى ما تقود إليه التفاصيل التي تشكل بنية النص الروائي. ومع تعدد القصص المتخيلة لدى اولجا صاعدة من حكايات وقعت في زمن ومكان مختلفين، أي كتابة تكتب سردها في سياق التداعي السردي متزامن الايقاع. تداعى السرد الروائي بالقدر الذي تطورت معه الشخصيات الروائية عبر وسائط بيئية )المكان ) و الرصد النفسي لصور الشخصيات و ما تعنيه دلالاتها الوظيفة ) الوصف الروائي( في واقعها المتناقض؛ و ما قادت اليه وفق تفاصيل السرد من أحداث ا تعني الشخصيات الروائية من حيث تحليل ظواهرها. فكأنما أرادت الرواية أن تكشف الواقع دون وعي تفسيري فجاءت الشخصية معبرة بالقوة التي يمنحها النص الموضوعي لما تكون عليه الشخصية في سياقيها الطبيعي أو التخييلي. فنجد أن الشخصيات قد ارتبطت بواقعها المنطقي في تطابق تفصيلي انسجاماً مع الأحداث. فالأحلام والهروب والفواجع ممثلة في شخصيات ذات وجود طبيعي و فعل ممكن الحدوث و معايير ضابطة لسياق السرد متجسدة في شخوص الرواية. إستطاعت الرواية أن تقترب بعمق من المحاور المفصلية في بناء شخوصها الروائية، فتأوَل النص السردي الخطاب الروائي محكم البناء، ذلك ااحكام الذي قيَد حركة السرد ضمن البنية الصورية لتفاصيل الرواية؛ على غير ما يفهم في واقع الدراسات النقدية في تلك البنية الصورية للشكل الواقعي للرواية من حيث بنائها التقليدي المعروف. فالذي يعنيه البناء المحكم في مفهوم نقدي آخر، ربما كان المفهوم الذي يستتبع المنطق الداخلي للنصِ الروائي و بقدر مقاربته لرؤيا الكتاب لينتهي الى ما يمكن اعتباره فلسفة الرواية . ترسّم رواية ( أخليلة الظل) خريطة مقروءة متخمة بالوصف الذي يتعاطي مع مسميات المكان وعناصر الحدث من موقع موسوعي، ومستوى معرفي يزيد من الرواية تألقاً على نحو مميز؛ فإذا التفصيل المغرق لأجل إيضاحه شرحاً، فإننا نعثر على عناصر يفضي وضعها في سياق تطور الحدث السردي ( الروائي) إلى تفسير منساباً دون تعقيد. ولأسماء الأشجار والطيور والأماكن والعطور والأزياء والميثولوجيا والأعراق والإحالات اللغوية مختلف العناصر المادية تترحل بين أكثر من مكان وثقافة ومفهوم مما يُثبت كيف أن الرواية – تستطيع – أن توازي العالم ولاتكتفي بمحاكاته.

أبرزت الرواية قدرة الكاتبة على تجريب أدواته وملاحظاته الأولية في التجريب وإعادة تمثّل صور الواقع. وسيفرض المكان تحديه داخل الرواية بصورة يصعب تجنبها، وإن بدا حضوره متقاطعا مع الأحداث الروائية من جهة تركيبة الواقع ومكوناته المتداخلة مع السمة الشخصية للشخوص الروائية والشخصية الجغرافية للمكان. تمّ توظيف المكان في الرواية، لا بوصفه مجالاً محدوداً لا يمتد خارج نشاط الشخوص؛ بل كصورة أيكولوجية متخمة بالمناخات المختلفة التي ساعدت في قراءة التفاعل الجدلي بين الطبيعة والإنسان في صيغة الفعل الوجودي. وتكاد الواقعة السردية في الرواية تعاود بدايتها دون أن تغادر التصور السائد للبداية نفسها من حيث تجدد الحدث الروائي المتحكم عليه مساره تطور تفاعلاته.
تمكنت الرواية من أن تعبّر عن ما يطلق عليه سرد الوعي الذاتي الروائي Self-conscious Narrative فيما يتصل بالعناصر السرديّة التخييلية وغير التخيلية، وهي علاقة الشخصيات الروائية وما تبنّته من علاقات تخصّها ويجمعها فعل مشترك ( الكتابة) بأن توصف الإفعال وتعبر عنها أكثر من الأحداث؛ إذ أن الخطاب الروائي خطاب يعتمد الآنية في تسلسل الأحداث بالعمل على خصائص تتعلق بالشخصية وزمن السرد الذي تستغرقه الأحداث، وما تمثله من بنية فوقية تربتط بقيمة العمل الروائي وجودته الفنية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • كاتب وباحث من السودان

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم